رياض كامل: أدبنا يعمل على ترسيخ الذاكرة الجماعية من الضياع

2020-02-11 01:00:00

رياض كامل: أدبنا يعمل على ترسيخ الذاكرة الجماعية من الضياع

الفكر الصهيوني لا يأتينا من بعيد، فهو يحاول أن يتغلغل من خلال برامج التدريس، كي يخلق جيلاً مروّضا. هذا الترويض قد فشل، رغم أنهم بنوا في رؤيتهم تلك على عامل الزمن وضياع الذاكرة. من هنا يأتي الأدب والفن والفكر المستنير ودوره في عملية حفظ الذاكرة. 

يأخذنا الكاتب والناقد الأكاديمي الفلسطيني رياض كامل في هذا الحوار إلى عوالم القاص والروائي والمسرحي محمد علي طه، المولود في قرية ميعار في الجليل الفلسطيني عام 1941، والذي خصه ضيفنا بدراسات نقدية جمعها في كتاب موسوم بـ «الواقع والتخييل - عالم محمد علي طه الأدبي»، صدر مؤخراً عن "دار الأهلية للنشر" في عمّان، لنتعرف على تفاصيل المشروع الأدبي الإبداعي لكاتب غزير الإنتاج، متعدد الاهتمامات، استطاع أن يتبوأ مكانة مرموقة بين أترابه من كتّاب القصة القصيرة الفلسطينية.

"رمان" تطرقت في حوارها مع صاحب «محاورة النصّ» أيضاً، إلى سيرته ومسيرته كمبدع قدّم لنا العديد من الكتابات النقدية والدراسات الأدبية في مجال القصة والرواية والمسرح والشعر.. 

 

بداية، كيف تقدم نفسك، سيرتك؟ وكيف جئت إلى عالم الكتب؟

ولدت في قرية المغار الواقعة شمال غرب بحيرة طبريا، وأعيش مع عائلتي في مدينة الناصرة منذ سنة 1981. كاتب وناقد لي العديد من الأعمال النقدية والدراسات الأدبية في مجال القصة والرواية والمسرح والشعر. أعمل محاضراً في الكلية الأكاديمية - أورانيم، بجانب مدينة حيفا منذ سنة 1993. كما شغلت منصب مدير مدرسة "راهبات مار يوسف" في الناصرة ربع قرن تقريباً، تمكنت خلالها من جعلها واحدة من أفضل المدارس في البلاد، متفوقة على المدارس اليهودية.  حاصل على لقب الدكتوراة حول أدب الروائي السوري حنا مينة.

نشأت محبتي للغة العربية وللكتاب منذ سن مبكرة بتأثير من أستاذي في الابتدائية، معلم اللغة العربية وعاشقها المرحوم نعيم قرواني، وهو مربي أجيال كبير. تأثرت بأساتذة جامعيين يساريين لهم دراسات في مجالات النقد، وأدركت أنّ طريق النقد هو الأكثر وعورة وصعوبة، ولكني لم أتراجع لما للناقد من دور هام في تقويم العملية الإبداعية.

لك العديد من المؤلفات والأعمال النقدية والدراسات الأدبية والفكرية كان آخرها «الواقع والتخييل - عالم محمد علي طه الأدبي»، الصادر عن "دار الأهلية للنشر" في عمّان. ماذا تُنبئنا عنه؟

لفت نظري الأديب محمد علي طه (1941) لعدّة أسباب، فهو أحد أبرز كتّاب القصة القصيرة الفلسطينية. وهو كاتب نشيط، وغزير الإنتاج، كتب ونشر القصة والمسرحية والرواية والمقالة وقصص الأطفال، حتى بات صاحب هوية أدبية خاصّة به. قمت بدراسة عدّة نواح من إنتاجه الأدبي منها دراسة أسلوبية بعنوان: (عملية البحث عن الجديد- قصة "الديناصور" نموذجاً)، تتناول عملية البحث عن الجديد في مبنى القصة القصيرة، والانزياح عن المبنى الموباساني الذي كان الأكثر شيوعاً، واعتماده المبنى الدائريّ بديلاً. ويتناول المقال الثاني مسرحية "إضراب مفتوح"، في عرضها الأول سنة 1999، التي تتناول قضية العمال وظروفهم الصعبة واستغلال أرباب العمل نقاط ضعفهم.

افتُتح الكتابُ بمقدمة توجز "عالم محمد علي طه الأدبي"، وتوقفت عند خصوصيات إبداعه. كما أُرفقت دراسة حول روايته الوحيدة "سيرة بني بلوط" (2004) ترصد علاقة النصّ الإبداعي في الرواية بالفكر الأيديولوجي للروائي، وتعاين حيّز الحرية الذي يمنحه الروائي لشخصيات روايته من ناحية، وللراوي الرئيسي من ناحية أخرى. وذلك من خلال ثلاثة محاور؛ التاريخ، الفضاء والشخصية المركزية. كما يتضمن هذا الكتاب مقالة ترصد كتابه "نوم الغزلان"، (2017) وهو عبارة عن سيرة ذاتية يتوقف فيها عند محطات عدّة، على مدار سبعة عقود، تعكس تجارب حياتية خاصّة وعامّة.

يعتبر أسلوب السخرية أهم الأساليب التي يجيد محمد علي طه توظيفها، قمت بمعاينتها من خلال مقالة تحمل عنوان "السخرية في كتابات محمد علي طه"، ووجدت له أسلوبه الخاص في التضخيم والإطناب والرسم الكاريكاتيري. كذلك يشمل الكتاب على دراسة تحت عنوان "المرأة، بين المقدمة والظل، عقب أخيل الرجل والرجولة"، فوجدت أنه يولي هذا الموضوع عناية أكبر في كتاباته الأخيرة، داعماً لقضاياها، وناصرا لها. يستمد محمد علي طه مواضيعه من واقعه المعيش، ويعرضها بتقنيات حداثية، فقد ذهب في كتاباته الأخيرة نحو الداخل أكثر مما هو نحو الخارج. يعثر القارئ على تقنيات تيار الوعي، والميتاقص وبعض تقنيات الواقعية السحرية.

على الصعيد الإبداعي، هل تعتبر وجودك في الداخل الفلسطيني المحتل (أراضي 1948) ميزة؟ أم أنه حرَمَك من ميزات معينة؟

إنّ وجودي فوق أرض الآباء والأجداد هو نعمة كبيرة، مقارنة مع من تشرد من أبناء شعبنا وما يعانونه في رحلتهم السيزيفية. من ناحية أخرى فقد عشنا كأننا في جزيرة نائية، ولم يتسن للعالم العربي أن يطّلع على أدب كثير من المبدعين هنا. تحوّلنا، نحن الباقين هنا، إلى شريحة اجتماعية لها خصوصياتها الفكرية، نناضل من أجل البقاء فوق ترابنا بكرامة، بعد أن صودرت أراضينا وتشتت شمل عائلاتنا. لكننا انغرسنا في الأرض فعلاً لا قولاً، عملنا ولا نزال نعمل على خلق أدب عربي فلسطيني بنكهة محلية تعكس واقعنا الخاص.

ورغم أننا نعاني من جهل فئة كبيرة من أبناء شعبنا العربي لواقعنا وظروفنا وتاريخنا، وحتى لواقع وجودنا، إلّا أننا تمكنا من اختراق هذا "الحصار" من السلطة الحاكمة، ومن "الحصار" الذي يفرضه بعض إخوتنا علينا. فحلّق أدبنا فوق الأسوار ووصل إلى البعيد.

حرمنا من التواصل مع المبدعين في العالم العربي، وعانينا من تقلص حيز النشر فترة زمنية طويلة، إلى أنّ وجدنا في التكنولوجيا الحديثة وسيلة تواصلنا مع الخارج. فالعالم العربي هو امتدادنا الذي لا غنى لنا عنه.  

من خلال دراساتك ومعايشتك للواقع، ما هي أهم خصوصيات المشهد الأدبي والثقافي في أراضي 48، خصوصيات متعلقة بالإنتاج في ظل دولة الاحتلال؟

ما يميز معظم أدبنا أنه يعالج قضية وجودنا فوق تراب هذا الوطن، ويعمل معظم أدبائنا على ترسيخ هذا الوجود، من خلال الدفاع عن الحق التاريخي، ودحض ما يروجه الفكر الصهيوني، ونشره مقولته الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد تعرّض بعض الأدباء للسجن والتعذيب والشبح والصلب بسبب أشعارهم ومؤلفاتهم ومواقفهم الفكرية والسياسية، ولوحقوا وصودرت مؤلفاتهم، بل وألغت سلطة المراقبة بعض دواوينهم وإنتاجهم. 

يلتصق أدبنا، على اختلاف أنواعه بالأرض وبالواقع الاجتماعي، وبالصراع السياسي الذي نعيشه يومياً في ظل أحزاب صهيونية متطرفة تنادي بأعلى الصوت بدولة يهودية تنفي كلياً حق الوجود العربي التاريخي هنا. أما الصراع بين الأحزاب الصهيونية فهي بين أحزاب متطرفة وأكثر تطرفاً. ورغم الصعاب إلّا أنّ الفن، على اختلافه، يدعم مسيرة الأدب في الرؤية والرؤيا، فلدينا مسرحيات وأعمال فنية استعراضية ورسامون ونحاتون وممثلون وراقصون يشار إليهم بالبنان. 

ما الذي تبقى من الأدب المقاوم/الملتزم في الداخل المحتل. ومن ثم ما هو مفهومك للالتزام في ظلّ اتّجاه الكاتب الفلسطيني نحو الذات أكثر فأكثر؟

علينا أن نعترف أنّ قسماً من أدبنا لم يكن ملتزماً، وقد عملت السلطة الحاكمة على دعمه وترويجه، لكنه سرعان ما اختفى هو و"أصحابه". أما ما رسَخ في الذاكرة والوجدان الشعبي فهو الأدب الملتزم بالقضية الوجودية والإنسانية. وما دعم شرعيةَ هذا الوجود والاستمرار والبقاء هو المواقف الصلبة لهؤلاء الأدباء، وللداعمين لهم من القيادات الوطنية، بل إنّ بعض هؤلاء القادة كانوا أدباء أيضاً. هذا الأدب ثابت ومنتشر وراسخ، وهناك على مستوى الأفراد والمؤسسات من يعمل على استمرارية بقائه، رغم غياب رموزه الكبيرة.

إنّ مفهوم الالتزام لا يتبدل ولا يتغير، لكن الأساليب والوسائل هي المتغيرة، فأنا أرى أنّ "الأدب الملتزم" يجب أّلا يفصل بين الرؤية الاجتماعية والرؤية السياسية، فالدعوة إلى تحرير الفكر من التحجر والتصحر والسلفية، ودعم المرأة، وحرية الفكر والتعبير عن الرأي، في القضايا اليومية هي داعم كبير للقضية الوجودية. بتنا اليوم نعاني من حصار آخر هو حصار الأفكار الحرة الذي تروج له حركات مدعومة من الداخل والخارج، وهي تشكل خطراً يعادل خطر الاحتلال، فذاك احتلال للأرض وهذا احتلال للفكر. والأدب الملتزم هو الذي يواجه هذين الاحتلالين.

كيف تقرأ المشهد الأدبي الإبداعي والثقافي والفكري في الداخل (أراضي 1948) اليوم؟

أجبت عن جزء من هذا السؤال فيما جاء أعلاه، وأضيف أننا نعاني من سيولة النشر وسهولته، وذلك نابع بالأساس من جهل معنى "أدب" في مفهومه الفني. والجهل عدو صاحبه، فوسائل الاتصال، رغم أهميتها، وسيلة مخادعة، تخدع الذات وتخدع الآخر، ولسنا بقادرين حالياً على لجمها. لا رقابة على ما ينشر. أما الجانب المنير في مشهدنا الأدبي فهو ظهور أسماء لامعة في سماء الشعر، تحاول جاهدة أن تخترق ما كان من قبل، ونحن بانتظار قطف ثمار هذه الحركة بشكل أكبر.

أما في مجال القصة والرواية فهناك نهضة جيدة ومباركة، حيث ما زال الطلائعيون يكتبون ويطورون أدواتهم، فيما يعمل جيل من الشباب والشابات على خلق أدب حداثي يتناول جميع قضايانا اليومية والسياسية والاجتماعية، إذ برزت أسماء أديبات وأدباء يتبعون أسلوب التجريب الساعي نحو الحداثة. كما نشهد حركة نقدية لافتة فضلاً عن نشر دراسات أكاديمية نفاخر بها أمام العالم العربي. كما لدينا اليوم عدد كبير ممن يكتبون للأطفال بعد أن كان العدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحد.

برأيك هل استطاع الإنتاج الأدبي الفلسطيني أن يواجه حالة ضياع الهوية التي يراهن عليها الفكر الصهيوني؟ 

الفكر الصهيوني لا يأتينا من بعيد، فهو يحاول أن يتغلغل من خلال برامج التدريس، كي يخلق جيلاً مروّضا. هذا الترويض قد فشل، رغم أنهم بنوا في رؤيتهم تلك على عامل الزمن وضياع الذاكرة. من هنا يأتي الأدب والفن والفكر المستنير ودوره في عملية حفظ الذاكرة. 

أدبنا العربي الفلسطيني يعمل على ترسيخ الذاكرة الجماعية من الضياع، وقد نجح في الوقوف سداً منيعاً في وجه الترويض. إننا ننظر بعين التفاؤل نحو ارتفاع نسبة المتعلمين الأكاديميين، وإن كان يقلق راحتنا ظاهرة الابتعاد عن الكتاب. لذلك للمسرح وللأعمال الفنية الفكرية دور آخر هام جداً في المواجهة المباشرة مع العقل والوجدان والعاطفة. نرى لزاماً علينا أن ندعم الأدب والفن على أشكاله، وأن نعمل على تشجيع القراءة لتبقى القضية حية. الأدب والفن هما الدعامة الرئيسية التي تقف في المواجهة الأولى مع الرؤية الصهيونية التي تنفي حقنا في الوجود هنا.

أنت عضو في لجنة تحكيم جائزة محمود درويش، وكان أن منحت الجائزة هذا العام للشاعر الأردني أمجد ناصر الذي غادرنا نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. من منظورك، ما هي أبرز مسوغات منحها له؟

إنه اختيار موفق جداً، يمنحنا الشعور براحة الضمير، خاصّة حين تمنح لأديب صادق ومناضل لا يتراجع عن مواقفه الإنسانية وعن الثوابت الأخلاقية والوطنية قولاً وفعلاً. أمجد ناصر كان داعماً كبيراً ومؤيداً للقضية الفلسطينية. وهو قامة أدبية إبداعية وإنسانية تستحق التكريم، أديب مجدد في كل مجالات الكتابة، في الشعر والرواية والمقالة. رائد من رواد الشعر الحديث، خاصّة فيما يعرف بقصيدة النثر التي أبدع فيها من خلال أسلوب شعري لا يقلد فيه أحداً. التزم في كتاباته بموقف إنساني لم يحد عنه رغم الظروف، وعبّر عن أفكاره بأساليب فنية حداثية منحته فرادة خاصّة.

هناك من يرى من الكتّاب والنقاد أيضاً أنّ "الجوائز الأدبية في عالمنا العربي هي في الأصل آلة تدجين، وهي ليست دائماً للمكافأة على الإجادة، إنها غالباً للمكافأة على الخضوع." ما تعليقك؟

رغم أني ضد التعميم، إلّا أنها ظاهرة مقلقة، وقد تكون وسيلة ترويض لبعضهم، وقد تقوم بعض المؤسسات بتوزيع جوائزها دون معايير علمية، مما يساهم في خلق حالة من الضياع والبلبلة. لكن الأديب الواثق بذاته لا تروّضه هذه الجوائز لأنه أكبر منها. وبهذه المناسبة فإنّ عوامل نجاح الأديب الحقيقي والمبدع لا تتبدل ولا تتغير عبر الزمن، ولا تستطيع الجوائز أن تحد من عطائه. فها هو التاريخ يحفظ لنا أسماء العباقرة والمبدعين منذ الأزل بفضل إبداعهم حين لم تكن هناك جوائز. 

خلقت الجوائز للتشجيع والدعم، وهي حين تصدر عن هذا الموقف فإنها ذات رسالة سامية. نحن بحاجة إلى مؤسسات علمية متخصصة تعمل على الاختيار السليم القائم على العدل والإنصاف حسب مواصفات علمية ثابتة وراسخة. هناك أسماء لامعة مُنحت جوائز من جهات عدّة، لم تلجمها هذه الجوائز ولم تحد من قدراتها، فرأيناها تحلق أكثر وأكثر، من خلال الإبداع الصادق. فالجائزة بحد ذاتها ليست أداة إبداع بل أداة تشجيع.

سؤالي الأخير، ما الذي تعمل عليه الآن على مستوى الكتابة والتأليف؟

بعد أن أصدرت تسعة كتب في مجال النقد والبحث العلمي، فإني أتابع النشر في عدّة مواقع أدبية محكمة وإلكترونية، لأحافظ على التواصل مع القارئ. كنت أعمل سنوات طويلة من عمري لأعيل عائلتي، أما اليوم فإني أجد وقتاً أكبر من ذي قبل لمتابعة ما ينشر، وأرى نفسي ملتزماً بمتابعة الأدب العربي الفلسطيني، لأساهم مع غيري على نشره ودعمه. أشعر اليوم أنني أمام تحديات أكبر بعد أن قطعت شوطاً طويلاً، خاصّة وأنا أرى من يمس بمفهوم ومعنى ودور النقد الأدبي والفني. 

أعمل على إصدار أكثر من كتاب، منها دراستي الأكاديمية الجادة حول "خطاب حنا مينة الروائي" التي أنجزتها قبل سنين بعيدة شغلتني عنها الوظيفة والعمل اليومي المرهق، وسيصدر لي قريباً كتاب آخر يحوي مجموعة من المقالات والدراسات الأكاديمية التي تناولت فيها بعضاً من الإبداعات الفلسطينية الصادرة حديثاً جداً.

لدي مشروع كبير أتمنى أن يسعفني الوقت على تحقيقه، فالكتابة في مجال النقد طريقها غير معبدة بل هي طريق وعرة تحتاج إلى الهدوء والتروي.