نعم نظريا، قد تكون هناك تماثلات ما بين النكبة والهولوكست، ولكنّ الفارق البيني الأساس والمتمثل في جرعة الأنسنة التي نالها الهولوكست على حساب النكبة على أقل تقدير من قبل المجتمع الدولي، الأمر الذي وظفه الإسرائيلي أبشع توظيف للانتقام من ضحية أخرى ومحاولات نفي وجودها، وهو ما يؤكده الراوي نفسه في أكثر من مشهد داخل الرواية، منها قول الشاب الأنيق وأيضا بصوت الراوي:
هل صادف أن ضبط الله ساعة المنبه!... عبارة هائلة قد تكون صادمة، ولكنها أيضا ليست كافرة، ولا أدري تماما لماذا قفزت في رأسي فور وصولي إلى الصفحة الأخيرة من رواية "بنت من شاتيلا" لأكرم مسلم!، تماما كما لا أملك أي تفسير لاندفاعي وراء البحث في مكتبتي المتواضعة عن كتابين أساسيين بالتحديد، هما بالترتيب، كتاب "شعريّة إبليس.. اللاهوت السردي في القرآن" وهي دراسة بحثية انجزها الأكاديمي الأميركي ويتني س. بودمان، في محاولة منه للوقوف على الفرق بين إبليس والشيطان؟
وأما الكتاب الثاني فهو كتاب "ذاكرة المغلوبين" للناقد الفلسطيني المعروف الدكتور فيصل دراج، حيث يرصد ويحلل مفردات الذاكرة الفلسطينية إبداعياً.
فإن أكرم مسلم الذي ذهب يفتتح روايته في فضاء المسرح لتأطير سرديته وتوجيهها على نحو يلبي حاجة البنية التفكيكية التي وظفها بأسلوب حداثي من حيث الشكل والمضمون يخدم فكرة الهدم وإعادة البناء وطرح مشاهد تخدم محدودية المجاز والاستعارة، وضع القارئ فيما يشبه حالة الاشتباك العنيف حينا، والهادئ والرطيب أحيانا مع هواجس التأويل والاستدلال، لماذا اختار فضاء المسرح؟ هل لينتقل بالقارئ ما بين، الرجل الدائري، ومشهد الأبيض والأسود، والمشهد الملون، فيما يشبه المتواليات المتداخلة غير المتوالية؟! أم أراد أن يؤكد أننا في حضرة "نسيج الحياة، ومخيلة الموت" على حد قوله (ص٤٧).
الأمر إذن يحمل شبهة فخ أراد من خلاله أكرم مسلم، أن يسحبنا إلى "مسرح معتم" نكون نحن جمهوره وممثليه وربما ضحاياه أيضا! هذا الخيار تحديداً ما دفعني للبحث عن كتاب "شعرية إبليس" حيث فكرة البحث عن الشيطان أو إبليس أو كليهما داخل كل منا "الأنا والآخر"، ليصبح السؤال: كيف يمكن لسردية أن تحاكم الأحداث المأساوية والفاجعة التي كانت أدواتها بأيدينا كما بيد الآخر المحتل؟! سؤالٌ حاول الراوي أن يجيبه قائلا:
"في أوقات السلم، ينام الميت وحيداً محاطاً بأناس كثيرين يبكون.. في المجازر ينام ميتون كثيرون، يقف بينهم حيّ وحيد باكياً، يحتاج إلى عين ثالثة لكي يبكي على الجميع"(ص٩).
نحن والآخر والشيطان
لو انطلقنا من قاعدة أن القارئ هو من يصنع المعنى، فهناك معان رديئة صنعتها أحداث المروية الفلسطينية وتفرعاتها السياسية والثقافية والاجتماعية، سواء كنا فيها الضحية أم لعبنا دور البطولة، حيث يساعدنا "السرد على استخلاص الأبعاد المأساوية والفاجعة في الحياة: مثل غموض القضاء والقدر، وتشوش الشخصيات الحركية المعيبة، ونبل المقاصد الذي يترتب عليه نتائج مهلكة" وفق بودمان في كتابه "شعريّة إبليس".
وهو ما عبر عنه الراوي بقوله:
"عندما أحوّل التجربة إلى شيء مكتوب، تصبح كلاماً رديئاً يشبه خطابات قادة الفصائل، هناك تجارب لا يكفي أن تكتبها، إذ عليك أن تبكيها" (ص٣٢).
هذه التجارب التي تتحدث عنها رواية "بنت من شاتيلا" قد يفاجأ القارئ، أنها "من وجهة نظر كاتب هذه السطور" لا تعالج مأساة مجزرة صبرا وشاتيلا، قدر معالجتها لمجزرة المأساة بالمعني الاجتماعي والسياسي على حد سواء، فهذا صوت الراوي وهو يصف حال الفدائي في مشهد سريالي حد المأساة:
"تأخر ثلاثين عاماً رغما عنه، أما سرعته الآن فهي مسؤوليته، وصل بأسرع ما يمكن إلى طرقة الباب. كان آخر من خرج من باب السجن، وشعر مع اجتياز عتبة السجن أنه أمام باب بيته، وأن الطريق إلى البيت مجرد خدعة" (ص٨٤).
الطريق إلى البيت هنا، لم يكن أجمل من البيت كما قال درويش، بل كان خدعة، خدعة أن نستبدل شخصاً بآخر، ليس لأن الأول أفضل من الثاني أو العكس، ولكن لأن "الحكايات تموت عندما تفقد المعنى" (ص٨٩).
وإحالة الحكايات والمعنى لدى أكرم مسلم في "بنت من شاتيلا" تتجلى بكثافة حينما تكون المفارقات ما بين أبناء الشعب الواحد لا تعدو إلا كونها "فرق في التوقيت... فرق طفيف، هم نوع من الآلهة بشكل من الأشكال، ونحن مجرد بشر عاديين" (ص١٤٩-١٤٨).
ولا يريد مسلم إلا أن يذهب بنا بعيدا في مفارقات تبدو وكأنها لم يمر عليها، ما يعرف بالمنطق، حيث نُصاب في تحولاتنا الكبرى حد الفجيعة حينما يقع الالتباس ما بين حربين، حرب الوجود وحرب هوية الوجود، وهذا ما يشير إليه أحد أبطال الرواية حين يُسأل في خضم ما عرف بـ"الانقلاب" أو الانقسام" : "- ألا تدافع عن نفسك؟
-هذا ما أفعله. أدافع عن نفسي عندما أفرق بين الحرب على الوجود، والحرب على هوية الوجود" (ص١٤٩).
هذا الوجود أساس الصراع، توقفت أمامه رواية أكرم مسلم بالكثير من الخطورة والمجازفة التي تستند كما يقول الدكتور فيصل دراج في كتابة "ذاكرة المغلوبين" إلى معايير المشخص والنقدي والمتحول والنسبي، أي إلى وعي مفتوح تصوب فيه، ولو جزئياً، الممارسة العملية أخطاء الوعي النظري".
وخطورة ما توقفت أمامه الرواية في هذا الشأن تجلى في حوار حورية مع الشاب الأنيق حين قالت بصوت الراوي العليم:
" أخبرته أن المربعات وضعت ضمن مبادرة – ربما من البلدية – للتذكير بعائلات يهودية سكنت في هذه البنايات، وأخليت من بيوتها إلى معسكرات الإبادة. صدمته المفارقة المرعبةـ أن تسكن لاجئة ضحية تطهير عرقي من فلسطين، مكان عائلة يهودية أبيدت في ألمانيا، وبعد أن نجت الفلسطينية من مجزرة في لبنان" (ص١٤).
نعم نظريا، قد تكون هناك تماثلات ما بين النكبة والهولوكست، ولكنّ الفارق البيني الأساس والمتمثل في جرعة الأنسنة التي نالها الهولوكست على حساب النكبة على أقل تقدير من قبل المجتمع الدولي، الأمر الذي وظفه الإسرائيلي أبشع توظيف للانتقام من ضحية أخرى ومحاولات نفي وجودها، وهو ما يؤكده الراوي نفسه في أكثر من مشهد داخل الرواية، منها قول الشاب الأنيق وأيضا بصوت الراوي:
"إن الضحية اليهودية مختطفة تماماً لصالح مشروع ينكر حقّه في الوجود، وأنه لا يستطيع تحرير الضحية من هذا الاختطاف بكل بساطة". (ص١٤٠).
وبالرغم من تأكيد مسلم لنفس الفكرة في أكثر من مشهد تحديدا في الفصلين الأخيرين، إلا أن هذه المعالجة أدخلت الرواية من حيث يدري أو لا يدري في جدلية الخطاب المحمول على مقاربات تتغاضى عن عوامل الجغرافيا السياسية المُشكّلة بالأصل لفكرة المحو في مقابل الإنشاء، "إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين" ومحاولات خلق تبريرات لا أخلاقية يستند عليها الإسرائيلي ليقتلع شعبا آخر من أرضه، هو الشعب الفلسطيني، غير أن هذه المقاربات حتى لو ارتضى الفلسطيني بها، وهو في سواده الأعظم لا يفعل، فإن الإسرائيلي سيرفضها من حيث الشكل والمضمون لأسباب عقائدية دينية تتكئ على رواية أن اليهود "شعب الله المختار" بحسب الفهم الإسرائيلي، وأخرى أيديلوجية سياسية لا تنسى أن الفكر الصهيوني جزء لا يتجزأ من مشروع استعماري أكبر، وهو ما يمكن معاينته في الأدبيات الصهيونية بشكل واضح وصريح، فضلا عن أسباب أخرى عديدة قد لا نكون في وارد سردها هنا، ولكن أبسطها وأعقدها لدى شعب "فاوض الله على بقرة" يمكن أن نجدها وجها لوجه، حينما نتمكن من الإجابة على سؤال: هل صادف أن ضبط الله ساعة المنبه؟ عندها فقط ستعلم البشرية جمعاء أننا كنا في فضيحة الحياة، وأصبحنا وإياهم أمام إشارة الموت.