«الحرية والعنف» لجورج زيناتي... تفكيك العلاقة بين المفهومين

2020-01-31 00:00:00

«الحرية والعنف» لجورج زيناتي... تفكيك العلاقة بين المفهومين

ثم إنه يتناول مسألة الوجود الإنساني في سياق الزمان، فكل "جديد يمرّ بالزمان قبل أن يصبح واقعاً. وكل ما هو إنساني، أو غير إنساني، لا يمر إلّا داخل إطار زمنه الخاص". ويقدّم في ذلك لمصطلح "الزمان الذاتي" الذي يحمل معنى المطلق بالنسبة لمن يعيشه، وهو على خلاف "الزمان الموضوعي" المتعلق بالكون الخارجي، ليقودنا إلى سؤاله عن الديمومة؛ فهل هي بالفعل خارج الأشخاص الأحرار والمبدعين؟ وهل لها وجود مستقل؟ 

"بين الفلسفة والعلوم الأخرى نوع من آلية عقدة أوديب: كل ميدان حين يصل إلى درجة من النضوج الخاص لا ينفصل عن الفلسفة فحسب، بل يتمرد عليها ويريد رأسها". بهذا الوصف الذي يشرح طبيعة العلاقة الأوديبية بين الفلسفة والعلم، أو ما يمكن تسميته بـ "ديالكتيك عقدة أوديب"، يفتتح جورج زيناتي كتابه "الحرية والعنف"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في حزيران/ يونيو 2018.

يعرض الباحث في بداية كتابه حالة التناقض بين الفلسفة وبقية العلوم في العصر الحديث، ويضعنا هذا العرض أمام إشكالية البحث الأولى، إذ هل لا يزال لمفهوم الحرية، كمفهوم مرتبط بالذات الفاعلة، ما يبرره، على الرغم من استعصائه على النسقية والبنيوية؟ فلا تنفك العلوم اليوم تثبط مساعي أي جهد فلسفي يبحث في هذا الموضوع، حيث تزيل ببحوثها الموضوعية الهالة عن الذات التي تختبئ خلف مفهوم الحرية المتمردة، وتتعامل مع الإنسان على أنه معطىً من المعطيات. بينما حقيقة الحال، كما يقول الباحث، أنّ "كل علم، حتى العلم المتعلق بالإنسان، هو علم يصنعه الإنسان من أجل الإنسان"، فالإنسان هو "الشرط الضروري لكل إبستيمية قبلية تاريخية، وهو المرجع الأخير لكل بنية". بذلك يحدد الباحث موقفه في فهمه للإنسان موضوعاً لأي علم من العلوم، فيختار أنه كيان يمكن تحويله من ذات إلى موضوع. 

تاليًا، ينقلنا الكتاب إلى إشكالية أن ترى الفلسفة نفسها مصوغة بحسب إنموذج علمي، ليقرر الباحث أنّ "كل فلسفة تريد أن تكون علمية ليست فلسفة"، إذ أي معنى يظل للفلسفة إذا ظلت تدور داخل "حدود لعبة القوانين الداخلية للتناهي البشري"؟ وبمعنى آخر، هل تظل الفلسفة فلسفة حين تدير ظهرها للميتافيزيقا؟ ويقدّم فرضيته حول هذه المسألة بأنّ الإجابات التي تقدّمها العلوم والعلوم الإنسانية، والمتعلقة بأصل الإنسان ومصيره، هي إجابات جزئية مشتتة في الأغلب الأعم، وأنّ الإجابة الشاملة قد تخرج عن نطاق كل إبستيمية. وبالتالي، فإنّ سبب وجود الفلسفة هو طرح الأسئلة المتعلقة بتلك المسائل، والتفكير فيها، وتقديم إجابات عقلانية عنها، وهي إجابات ذاتية في جوهرها وماهيتها. وعلمية الفلسفة إنما تكمن في التماسك العقلاني لطرحها، وقوة حججها المنطقية. 

يقسّم الباحث كتابه إلى قسمين؛ يبحث الأول في معنى الحرية، ويحمل عنوان "الحرية بوصفها بحثاً عن المطلق"، وفيه ثلاثة فصول. بينما يبحث الثاني في الحرية والعنف، ويحمل عنوان "الحرية والعمل"، ويضم ثلاثة فصول أخرى.

يتناول الفصل الأول، وهو أطول فصول الكتاب، سؤال الهوية الذي لا ينفك الإنسان يطرحه على نفسه. ولمعالجة هذا السؤال يبحث الكاتب عن الإنسان أولاً في الفضاء، أي من الخارج، من عالمه المحيط. ويبحث في مسألة نهائية هذا الفضاء، أو لا نهائيته. ومن ثم يبحث في طبيعته، فيعرض في سياق ذلك النظريات العلمية الحديثة حول مفهوم الفضاء؛ فهو إما منحنٍ مغلق على نفسه، أو مائل مع إشارة سالبة، أو أنه ممتد بصورة مستمرة. ليخلص في نهاية عرضه إلى أنه أياً ما كان مفهوم هذا الفضاء فهو فضاء متناهٍ، ولينتقل بعدها إلى الحديث عن مسألة وجود الله، إذ لا تنفصل قضية وجود الله عن مشكلة الفضاء نفسه. 

ثم إنه يتناول مسألة الوجود الإنساني في سياق الزمان، فكل "جديد يمرّ بالزمان قبل أن يصبح واقعاً. وكل ما هو إنساني، أو غير إنساني، لا يمر إلّا داخل إطار زمنه الخاص". ويقدّم في ذلك لمصطلح "الزمان الذاتي" الذي يحمل معنى المطلق بالنسبة لمن يعيشه، وهو على خلاف "الزمان الموضوعي" المتعلق بالكون الخارجي، ليقودنا إلى سؤاله عن الديمومة؛ فهل هي بالفعل خارج الأشخاص الأحرار والمبدعين؟ وهل لها وجود مستقل؟ 

كما ويعرض المسألة من زاوية ثالثة، وهي "أصل الحياة"؛ فهل يستطيع العلم حل لغز الإنسان بالبحث في أصل وجوده؟ وهل تستطيع العلوم أن تكشف المعنى الكلي للمادة؟ ويأخذنا ببحثه إلى مزيد من الأسئلة، فـ "هل المادة هي أصل نفسها؟ وهل كيان الكتلة الكونية هو الكتلة الكونية عينها؟"، ليصل إلى أنه لا يمكن للمادة أن تكون أساس نفسها، إذ يقود ذلك إلى القول بأزليتها، والأزل لا يبدأ بزمان، بينما المادة الزمنية لها عمر؛ "تتقدّم في السن وتتغيّر وتتحوّل".

وخلاصة ما سبق أنّ تاريخ المادة يتحدد بفضل الفضاء والزمان، لكنّ المادة ليست مبدعة ذاتها، كما أنها ليست أزلية، وبالتالي فلا بد من "وجود قوة قادرة على أن توجد نفسها بنفسها، قوة هي أساسها"، وهي قادرة على تفسير الوجود. وأنّ هذه القوة الأزلية الخالقة "لا يحتويها زمان ولا مكان"، وأننا "نكتشف أثر تعاليها فينا من طريق الكلام والنطق". هكذا يكتشف الإنسان بنيته الدائمة لذاته الفاعلة.

أما اللغة، فيتناولها الباحث من ثلاثة أبعاد؛ الأول، البعد البيولوجي، حيث تؤدي اللغة دوراً مهمًا في تكوين الفكر. والثاني هو بعد التحليل النفسي الذي يعارض فيه مذهب نورمان براون القائل بانتماء اللغة إلى اللبيدو، وتعبيرها عن رغبة جنسية طفولية قبل تناسلية مكبوتة. أما البعد الثالث فيتناول اللغة في حقل المعرفة اللسانية الذي يبحث في أصلها. وهنا يعرض الباحث مذاهب العلماء والفلاسفة المفكرين في المسألة، من فردينان إلى جاكسون وتشومسكي ودريدا وهايدغر، ليذهب إلى القول بأنّ اللغة هي "شرط الحضور كله للذات أمام ذاتها عينها، وأمام العالم"، ومن دونها تبقى المشاعر والأفكار غامضة ليس لها شكل محدد.

يحدد الباحث مهمته في الفصل الثاني من الكتاب في البرهنة على أنّ الحرية الإنسانية مرادفة للبحث عن المطلق، فجاء بعنوان "الحب والحرية بوصفهما بحثاً عن المطلق". والحب الذي يبحثه هنا هو الحب الجنسي الذي يؤدي في النهاية إلى حرية روحية، مستعيناً في تبيان قوله بالميثولوجيا المتمثلة أولاً بقصة آدم وحواء، ثم الأسطورة الأفلاطونية حول الأندروجين، ثم وبشكل أكثر تفصيلاً أسطورة إيروس المجنح، إله الحب والرغبة والجنس عند اليونان، والذي يحمله الحب إلى ما هو أبعد من إشباع حاجته الجسدية، فتوقظ في نفسه رؤى سماوية تُلبسه أجنحة تحلّق به بعيداً عن واقعه، فكان هذيانه في الحب هو طريقه إلى الحرية التي لا تنتمي إلى عالم الموضوع.

في الفصل الثالث من الكتاب، والذي يحمل عنوان "الحرية بوصفها معرفة للمطلق"، يقدّم الباحث لمفهوم الحرية من حيث هي روحية تأملية غير عملية، فيعرض المفهوم الفلسفي للحرية عند كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل وبرغسون. ليخلص إلى أنّ الحرية الإنسانية - التي هي بحث عن المطلق - إنما هي في جوهرها "التحرر بواسطة المعرفة (أو وعي الذات) من كل ما يشكّل عائقاً بين الإنسان والمطلق"، وأنّ ذلك العائق هو الشر الذي قد يأتي بأسماء متعددة "كالجسد أو الطبيعة الحسية أو المادة" ونحو ذلك؛ وكي يبلغ الإنسان هذه الحرية، عليه أن يسيطر على "القوى المظلمة الكامنة في كيانه، والناحية المادية كلها في وجوده"؛ وأنّ أعمق معاني هذه الحرية يكمن في البحث عن أصل الذات، والسعي للعودة إلى هذا الأصل؛ وأخيراً، أنّ الحب والمعرفة طريقان تؤديان إلى المطلق.

ثم يأتي الفصل الرابع بعنوان "الحرية والمسؤولية"، ويعرض فيه الباحث موقف سارتر من الحرية التي تتأسس عنده على العدم، وعلى قدرة إعدام الماضي ومحوه، فهي حرية شاملة، إذ يعبّر عن ذلك بقوله: "لا يمكن إيجاد حدود لحريتي سوى حريتي عينها". وهي أيضاً مؤسسة عنده على العمل وحده، لا على المطلق ولا على ماهية الإنسان، فالإنسان هو من يرسم مستقبله بفعله. ويفصّل الباحث في ردّه على سارتر مستعيناً أحياناً بآراء سارتر نفسه حول مفهوم المسؤولية، وتصوّره عن مفهوم الطهارة في واقع الحياة العملية. ويوضح أنّ مفهوم الحرية عند سارتر إنما يتأرجح بين الكانطية والفعل الاختياري الكلاسيكي، وأنه لا يمكن بحال تأسيس مفهوم الحرية على الممارسة العملية. كما أنّ مبدأ المسؤولية ليس صالحاً ليكون أساساً لها، إذ تحتاج المسؤولية إلى معيار يحددها، وإذا كان هذا المعيار مثلاً أعلى، أو نوعاً من المطلق، فهي تقودنا من جديد إلى "الحرية الروحية".

أما الفصل الخامس، والمعنون بـ "في البدء كان العمل والعمل كان عنفاً"، فينظر فيه الباحث في الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى القطيعة بين الفلسفة والعالم الواقعي الخارجي. ومنطلق هذا البحث أنّ القول بالحرية الروحية، المنتمية إلى عالم الفكر التأملي، يضعها في دائرة الترف الذي لا تملك ممارسته سوى فئة محددة من الناس. وهنا يوضح الباحث أنّ العمل، أي عمل، يلتصق التصاقاً شديداً بالعنف، وأنّ ثمة صراعاً دائماً بين الغاية والوسائل المستخدمة لتحقيقها، وأنّ كل فعل يومي يمارسه الإنسان هو ممارسة للعنف من وجه ما. ويضرب مثالاً على ذلك الرجل الذي يتذكر جياع العالم أثناء تناوله الطعام، فيفكر أنّ الجميع، بما فيهم هو، بشكل أو بآخر، يرتكبون عنفاً تجاه هؤلاء الجياع، لكنه في الوقت نفسه، إذ يفكر بهم ويفسد على نفسه تناول وجبته، يمارس عنفاً جديداً تجاه نفسه. فأي عمل يحمل معه مقداراً من الشر والسوء لا يمكن تفاديه. من هنا، يوضح الباحث مدى صعوبة تجريد الأنا من أنانيتها، وبحثها الدائم عن المصلحة، وهذا الجانب الضعيف فينا، كما يقول، هو "الناحية المظلمة من وجودنا". ويشير أخيراً إلى أنّ الحرية التي هي موضوع البحث هنا عبارة عن "نشاط يحاول أن يكون على جانب كبير من الوعي، يعمل في خدمة مثل أعلى"، ولا نعرف متى يمكن تحققها. كما أنها تحمل في طياتها نقائض العمل، أي إنّ ما سبق قد لا ينطبق عليها.

أما الفصل السادس والأخير؛ "الحرية والفاعلية"، فيستهله الباحث بقوله "إنّ مفهوم الفاعلية حين يوضع في خدمة مثل أعلى، مهما كان نبيلاً، يشكّل خطورة كبيرة"، فباسم الفاعلية قد يُبرر الكثير من العنف، وهذا أمر يقرّه التاريخ ويشهد عليه، ولعل أبرز تلك الشواهد تحولات الماركسية التي سعت لبلوغ نموذج الإنسان الحر، لكنّ هبوطها إلى أرض الواقع، وتعاطيها مع مشكلاته، مزقها إلى تيارات سياسية متعددة؛ لينينية وتروتسكية وماوية وغير ذلك، بل ووُظفت توظيفاً عنيفاً باسم حرية الإنسان التي تنظّر لها.

ختاماً، فإنّ هذا الكتاب من ذلك النوع الذي لا يؤخذ مجزأً، فهو كسلسلة متصلة لا يكتمل فيه المعنى إلا باكتمال قراءته ومدارسته، وقد أجاد الباحث فيه تدرّج الانتقال من سؤال إلى آخر، ومن نتيجة إلى أخرى، ليصل به إلى حيث أراد، مفككاً العلاقة بين الحرية والعنف، من خلال بحث فلسفي يحفر عميقاً في ذات الإنسان، وهو حفرٌ لازمٌ تتطلبه طبيعة موضوعه إذ يتناول الحرية من حيث هي مرتبطة بذات الإنسان الفاعلة، وحين يكون الإنسان موضوعاً لفكره ومعرفته، فالأمر يحتاج بطبيعة الحال تحليلاً لذاته وبنيته الداخلية. ولا يسع القارئ في نهايته إلّا أن يشارك الباحث أمله الذي أبداه في خاتمته، بحدوث التقدم المأمول نحو حلم "العالم الحر"، حيث تتقدم الأنفس الإنسانية بتخليها عن أنانيتها وحبها للتسلط، وبانفتاحها على الآخر، وتجاوزها صراعات الماضي وتناقضاته، لوقف العنف وبلوغ السلام المنشود.