كابوس (قصة لجورجيت رزق الله)

2020-01-10 14:00:00

كابوس (قصة لجورجيت رزق الله)
RUBA SALAMEH

تدخل أمها إلى الغرفة، تجدها متكورة على الأرض، يسيل منها بعض اللعاب. تضع الأم يدها على فمها وتركض إليها، تنادي ولكن هي تنظر إليها بفراغ، لا شيء جديد ، تسترجع الذكر تلو الأخرى، تبكي. ثم لحظة صمت، تشعر الأم بأنها امتدت للأبد. فجأة يتحول نحيبها إلى ضحك هستيري. لم تعد تستطيع التفريق بين ما هو واقع وما هو الخيال. كابوس فعلاً.

 صباح أحد الأيام، أي ساعة لا يهم:

حوض استحمام أزرق اللون متشقق يحتل أكثر من نصف المساحة. في وسط شقة صغيرة في بلدة ما، مسترخية بكامل ملابسها. موسيقى صاخبة تصدح في كل البيت وقطعة صغيرة من القطن موضوعة داخل أذنيها. عقلها مشوش وأفكار متداخلة. لا يوجد أي فكرة تقف على حِدا. أوهام تسيطر عليها. تحولها إلى واقع غير موجود فتفرد جنب فمها أو تزمه. أصبحت حياتها عبارة عن كتلة من الأوهام الكبيرة والصغيرة. كابوس

الثالث من كانون الأول:

كانت دائماً تحلم بكل الحكايات والقصص التي تؤلفها و تحكيها لنفسها. كانت تتحول قصصها إلى كوابيس مرعبة. في كل ليلة تستيقظ فزعة، تحاول الهروب. لكن لم تكن تجد أي باب أو مخرج لترك كل هذه المخاوف خلفها وتمضي. 

كان كل شيء يكمن في التفاصيل: تفاصيل حياتها الصغيرة كأنها غارقة في حوض استحمام كبير يغطي جسدها النحيف مليئ بفقعات الصابون برائحة الياسمين.

هوس الإهتمام؛ كانت تهتم بكل ما يتعلق بها وبالآخرين. يتسلل بكيانها كما يتغلل الصابون الماء، اندماج، أو حد الانفصال والانعزال عن كل ما حولها. لا شيء جديد، مازالت مستلقيه في حوض الاستحمام ومغمضة عينيها، تتذكر كل ما جرى بحياتها وما أوصلها إلى هنا. علاقتها معه وذلك القبو المخيف الذي قبعت به سنين من حياتها تتأمل عتمتها وتتخيل ناسها وأفكارها.

الخامس من كانون الأول: 

ليلة الأمس وعدها بالزواج. قلبها في مكان وعقلها بمكان آخر، كالفرق بين السماء والأرض. تتقلب بسريرها. تتصفح الانستغرام بملل. تترك هاتفها وتبحلق بالسقف. تتذكر ذلك اليوم قبل سنة مثل اليوم عندما طلب منها أن تبيت عندها تلك الفتاة لكي تستطيع السهر معهم. لا شيء جديد، تتقلب أكثر، تحك جبينها وتتنتقل الحكة إلى كل جسدها، تحك أكثر، فتنزف دماً. ترفع جسدها بثقل وتذهب إلى المطبخ لتعد كوباً من القهوة. 

العاشر من كانون الثاني، الساعة الواحدة ظهراً:

الوقت كالسلحفاة، تتخبط في مكتبها، ذهاباً وإياباً، تضع يديها في جيب بنطالها، تضغط بعض الأرقام على هاتفها، تتحدث، تحاول أن تنجز بعض الأعمال العالقة من أسبوع، لا تستطيع التركيز، تعيد يدها إلى بنطالها، ذهاباً وإياباً مرة أخرى. 

الوقت يزحف فوق سعادتها. تدق الساعة. عقاربها تشير إلى الرابعة عصراً. موعد المغادرة. تترك كل شيء كما كان على مكتبها. تحمل حقيبتها وتعود إلى البيت منهكة من اللاشيء. تخلع حذائها. تدس نفسها بالسرير لتبكي وتنام، لا شيئ جديد اليوم، تستيقظ، تحرث شقتها الصغيرة ذهاباً واياباً مئات المرات. 

صباح الحادي عشر من كانون الأول، الساعة --- :

صباح يوم جديد، تتقلب بالسرير، تعمل، العودة إلى البيت، لا جديد إلا جولة أخرى من البكاء، كأنها تتبارز مع الزمن. 

مساء بارد قليلاً منتصف أيلول، الساعة العاشرة مساءً: 

يجلسان جنب إلى جنب في مقهى شعبي في بلدة صغيرة بعد 2 كم عن مدينة بيت لحم. هي تجلس مقابل لهما بين مجموعة من الأصدقاء. يمسكان أيدي بعضهما البعض بعفوية مطلقة. تلمع عينيها وتركز النظر إليهما. تتدارك نفسها سريعاً لحظة تلاقي أعينهم. 

كان الجو بارداً ذلك اليوم على غير عادة أيلول في هذا الوقت من السنة. 

الرابع والعشرون من كانون الأول، الساعة الحادي عشر ليلاً: 

في ذلك المساء المجموعة نفسها في بيتها، يجلسون في غرفة صغيرة تحت بيت أهلها، الجو ماطر خارجاً. يحترق الفحم بداخل الكانون، رائحته معبقة بالهواء وبأجسادهم. انها ليلة عيد الميلاد. يتبادلون الهدايا والضحكات. كانوا أصدقاء في لحظة، كانت صديقته طالبة جامعية تسكن في سكن الطالبات، ومن قوانين السكن عدم التأخر خارجاً بعد الساعة العاشرة. تدق الساعة منتصف الليل ويبدأ التصفيق والتسليم بالأيادي والأحضان، وبعد مرور لحظات من تداخل الكلمات والأجساد يستأنفون احتفالهم يشربون النبيذ ويلعبون ويضحكون. ينظر إليها ويطلب منها أن تنام صديقته عندها مرة أخرى، توافق على الفور بنخب المحبة والصداقة. كانت مجرد صديقة وأصبحت كابوس متجدد كل يوم. تغيرت الأقدار. الآن تحاصرها هذه الذكرى. تسترجعها عشرات المرات كابوساً، تفكيراً. تعانق صديقها مثلي الجنسية المتزوج من امرأة وهو يحب صديقه المتواجد معهم، يتصافحان. اشمئزاز. تسترجع الذكرى، هي كانت صديقة وهو لم يهمها، هو أيضاً صديق. لا شيء جديد، مسترخية على سريرها تربط بين هذين الصديقين. ماذا لو كانت تعانقها نفاقاً مثلهم؟

صباح يوماً مشمس بعد بضعة أشهر، الساعة الثامنة صباحاً:

لا شيء جديد في هذا الصباح أيضاً، إلا كابوسها ليلة الأمس. تفتح باب الشقة فتلمع الشمس على وجهها وشعرها بني اللون. تضع نظارتها الشمسية على عينيها وسماعاتها بأذنيها وتنزل الدرج. تترك سيارتها مركونة أمام الشقة. لديها الكثير من السيناريوهات تسيطر على تفكيرها. قد تتخلص منها بالمشي والموسيقى. في منتصف الطريق تطلب رقمه ، الخط مشغول. يتجهم وجهها، تشعر بأن الدم قد تجمع في نقطة واحدة في رأسها، كانت بركاناً يسير ويستمع إلى موسيقى هادئة. لا شيء جديد فقط موجة جديد من الأفكار تخبط برأسها، يصبح مشيها أشبه منه إلى الركض، ينتفض جسدها،تتمتم بالسباب والشتائم. الموسيقى مازالت هادئة في أذنيها. 

مساء ذات اليوم، الساعة الثامنة مساءً:

تجلس في سيارتها أمام شجرة الصنوبر الكبيرة أمام دير للكنيسة. تنتظر أمها بأن تنهي صلاتها يذهبان معاً لتناول العشاء. تفتح هاتفها لتضيع بعض الوقت، تحاول جاهدة بأن لا تفكر بأي شيء. تتصفح صفحات الفيسبوك والانستغرام، تظهر أمامها صورة صديقته، تقرب الهاتف إليها وتكبر الصورة تدقق بكل تفصيلة صغيرة فيها، ملابسها، وحجابها، ضحكتها، الكلمات أسفل الصورة. هذه الذكريات اللعيبة لا تكف عن ملاحقتها، هذا الحجاب هو نفسه الذي ارتده يوم ذهب ثلاثتهم لحضور مسرحية قبل أشهر. تشغل السيارة وتهرب مسرعة إلى اللامكان تاركةً أمها ورائها. 

صباح النهاية:

تدخل أمها إلى الغرفة، تجدها متكورة على الأرض، يسيل منها بعض اللعاب. تضع الأم يدها على فمها وتركض إليها، تنادي ولكن هي تنظر إليها بفراغ، لا شيء جديد ، تسترجع الذكر تلو الأخرى، تبكي. ثم لحظة صمت، تشعر الأم بأنها امتدت للأبد. فجأة يتحول نحيبها إلى ضحك هستيري. لم تعد تستطيع التفريق بين ما هو واقع وما هو الخيال. كابوس فعلاً.


هذه القصة القصيرة هي نتاج لإحدى ورشتي الكتابة، ورشة قصص أريحا القصيرة التي تمت في خيرف ٢٠١٨، وورشة قصص رام الله القصيرة التي تمت في صيف ٢٠١٩، بإشراف عدنية شبلي وبمبادرة من المؤسسة الثقافية لبنك الإعمار الألماني في فرانكفورت، وبالتعاون مع معهد جوته في رام الله.