هل وجب علي أن آخذ بمقولة رولان بارت "موت المؤلف" لأنها صادرة في القرن العشرين ولا ألتفت لمقولات تين لأنها صادرة في القرن التاسع عشر؟ وهل يجب علي أن أعيد كتابة مقولات بارت وغيره في مقدمة كتابتي ثم أخضع النصوص لها؟
وأنا أتابع النقد الأدبي والدراسات الأدبية مما يصدر عن كثير من النقاد والدارسين العرب ألحظ أنهم يعتمدون على مرجعيات أجنبية في الغالب مترجمة، لكي يمهدوا لما سيكتبون، ولا اعتراض على هذه المنهجية، فهي المنهجية السليمة عموماً في الدراسات الأدبية، إذ الأصل أن يكون لدى الناقد والدارس تصور نظري للموضوع الذي يريد أن يخوض فيه، وأعتقد أن هذا لا يغيب عن ذهن هؤلاء النقاد والدارسين منهجيا، بل إنني وأنا أقرأ رواية أحمد أبو سليم «كوانتوم»، 2018، وهو أستاذ فيزياء؛ فقد درسها في الاتحاد السوفياتي يوم كان قائماً، لاحظت أنه في تمهيده لها يصر على ضرورة الوعي النظري في الأساس، ولاحظت أن ما صدر به روايته ورد في متنها على لسان إحدى الشخصيات.
وأنا أدرس في الجامعة كنت أصر قبل أن أشرف على رسالة أحد الطلبة أن يدرس معي مساق "موضوع في النقد الأدبي"، وكان تدريسي يقوم على قراءة مواد نظرية صرفة مثل السرد والزمن واللغة الروائية والعتبات والشخصيات، ودائماً كنت أعتمد على أصول أو على دراسات أنجزها متخصصون مثل سعيد يقطين وعبد العالي بوطيب وعبد الملك مرتاض ومحمد يوسف نجم، وكنت أشرح النصوص للطلاب واطلب منهم أن يطبقوها على إحدى الروايات.
اللافت فيما يكتب من نقد أدبي ومن دراسات أنك وأنت تقرأ الاقتباسات ثم التطبيق تجد بوناً شاسعاً أو أنك أصلاً لا تفهم الاقتباسات جيداً، فتبدو لك كما لو أنها حلية وزينة وضرب من التباهي بأن صاحبها أطلع على مصادر ومراجع أجنبية، دون أن يدرك أن الأهم من هذا هو مدى هضمها.
وما تلحظه أيضاً هو أن كثيراً من الاقتباسات لا تتكئ على أصول، وما تخرج منه بعد قراءة الدراسات والأبحاث هو أن أصحابها أرادوا إعطاء مصداقية لأبحاثهم من ناحية، والتباهي بأنهم يعتمدون على منظرين ثقاة لا تشوبهم شائبة.
وحين أنظر في دراساتي ومقالاتي ألحظ، وهو ما لحظه غيري أيضاً، خلوها من التنظير النقدي إلا ما ندر، ولعل ذلك يعود إلى أنني أرى أن الأساس هو استيعاب المادة النظرية ثم تطبيقها على النصوص، فما يهم أكثر القراء هو التطبيق لا النظرية التي تهم قليلين، عدا أن كتب النقد النظري تكتظ بها أرفف المكتبات، وأن أكثرها يكرر بعضه، وأنظر في كتب نقد الرواية؛ المترجمة والمؤلفة، لترى هذا وتتأكد منه. والصحيح أنه راق لي في هذا المجال ما قام به الناقد كمال أبو ديب في كتابه «جدلية الخفاء والتجلي... دراسات بنيوية في نقد الشعر»، إذ إنه لم يمهد لكتابه بمقدمة نظرية عن البنيوية، لا لما ذكرت سابقا، وإنما لأن استيعاب القارئ العربي للبنيوية، نظرياً، يبدو أمراً صعباً، ولذلك قدم نموذجاً تطبيقياً لها، ومع ذلك لم يألف القارئ العربي هذا اللون من النقد.
لقد جاءتني فكرة الكتابة في هذا الجانب من خلال الدراسات التي قرأتها أولاً، ثم من خلال نص أدبي لمحمد الماغوط ورد في كتابه «سأخون وطني» عنوانه "يا شارع الضباب"، وفيه يسخر الكاتب من اليسار العربي بتوجهاته المختلفة؛ الماركسية والماوية والتروتسكيين، بل ومن يساريين فرنسيين آخرين ذاع صيتهم وترجمت كتبهم إلى العربية سخروا من أحزابهم الشيوعية.
في "يا شارع الضباب" يجسد الماغوط الهوة الواسعة بين النظرية والتطبيق، فاليساريون العرب يتكئون على كتب ماو وماركس ولينين وتروتسكي وريجيس دوبريه وآخرين لينجزوا ثورتهم والتغيير المنشود، ولكنهم معزولون عن واقعهم ويعيشون في عالم النظرية ويظلون يكررون عبارات ويدعمون صحة مواقفهم بما ورد في الكتب، لا بناء على معطيات واقعهم.
شخصياً غالباً ما أقرأ النصوص وأفحصها ثم أدرسها، وقد استحضر مقولات نقدية غربية وقد لا استحضر، متكئاً على مقولة لجورج طرابيشي "إن أسوأ أنواع النقاد هم أولئك النقاد الذين يملكون مفتاحاً واحداً لجميع الأقفال"، أي الذين يحفظون عبارات ويريدون أن يخضعوا لها النصوص جميعها. ببساطة يضعون العربة قبل الحصان.
مؤخراً انشغلت بقضية الكاتب والمكان وخضت جدلاً بشأنها، ما أغضب بعض الروائيين الذين سخروا مما أذهب إليه، وهجوني بمقالات في صحف عربية تصدر من العواصم الأوروبية.
وأنا أدرس صورة القدس في الرواية العربية اتبعت المنهج الاستقرائي لألاحظ الفرق بين من كتب عن المدينة وهو ملم بتفاصيلها من خلال الإقامة فيها وكاتب آخر لم ير القدس. ومؤخراً قرأت روايات عديدة؛ اثنتان منها لمهندسة معمارية هي سعاد العامري «مراد» و«دمشقي»، ورواية أحمد أبو سليم «كوانتوم»، وهو فيزيائي، ورواية سليم البيك «تذكرتان إلى صفورية» وبطله دارس الأدب الفرنسي ويعاني من إشكالية الهوية في العالم العربي وأوروبا، ولاحظت بوناً شاسعاً في رواياتهم سببه اختلاف تخصصاتهم وتجاربهم ومناطق إقامتهم. الثلاثة فلسطينيون والكتابة صادرة عن اختلاف اهتماماتهم وتجاربهم أيضاً. تلتفت العامري إلى المكان وهندسته، ويلتفت أبو سليم إلى الفيزياء والنظرية، ويحضر سؤال الهوية في رواية البيك.
ولسوف أجدني هنا أعود إلى منهج هيوبوليت تين الذي يركز على عناصر أهمها البيئة ومعطيات العصر، وهو جزء من المنهج الوضعي الذي لا يغفل الحياة الشخصية لصاحبه.
هل وجب علي أن آخذ بمقولة رولان بارت "موت المؤلف" لأنها صادرة في القرن العشرين ولا ألتفت لمقولات تين لأنها صادرة في القرن التاسع عشر؟ وهل يجب علي أن أعيد كتابة مقولات بارت وغيره في مقدمة كتابتي ثم أخضع النصوص لها؟
كم حفلت الدراسات الأدبية العربية بمقولات غاستون باشلار الذي ترجمه غالب هلسا عن الانجليزية! حقاً كم حفلت دراساتهم بالاقتباس من "جماليات المكان"! وغالباً ما ألحظ عدم استيعابهم للمقولات. والطريف أن الناقد المغربي حسن نجمي الذي اطلع على ترجمة غالب هلسا وقارنها بالأصل الفرنسي لاحظ في كتابه "شعرية الفضاء" أن الترجمة غير دقيقة وأنها بذلك لم تؤد المرجو منها، بل أدت دوراً سلبياً.
إنني مع ذلك ما زلت أفكر في الأمر !!؟