«في أثر عنايات الزيات»... هكذا تحولت إيمان مرسال إلى طالع نخل ومستكشف وحطّاب

2019-11-19 12:00:00

«في أثر عنايات الزيات»... هكذا تحولت إيمان مرسال إلى طالع نخل ومستكشف وحطّاب

"الصدف كانت تلعب أدوارًا حقيقية في ذلك الزمن، مصائر البطلات القدامى أمام الشاشة وخلفها كان يمكن أن تتحول إلى الشهرة أو الموت بسهولة عجيبة، كأن القدر كان في تلك الأيام مراهقًا يلهو مع جيل الانتقال بين حفلات الكوكتيل والتغيير الاجتماعي والدار القومية وجبهات عبد الناصر الفنية".

لا يمكن بأي حال أن نكتفي بوصف كتاب «في أثر عنايات الزيات»، لإيمان مرسال، والصادر في القاهرة قبل أيام عن دار "الكتب خان"، بأنه مجرد اقتفاء لسيرة الروائية المصرية الراحلة عنايات الزيات (1936-1963)، صاحبة الرواية الوحيدة «الحب والصمت» والتي صدرت بعد انتحارها بسنوات قليلة.

افتتنت إيمان مرسال، بالسيرة المقتضبة الغامضة لعنايات الزيات، المقالات القليلة المتناثرة عنها في أرشيف وسجلات الصحافة المصرية بعضها بقلم أنيس منصور والبعض الآخر يحمل توقيع مصطفى محمود، ورواية «الحب والصمت» التي قرأتها مرسال أكثر من خمس مرات لتهضمها وتمضي في رحلتها البحثية في سيرة عنايات الزيات، كتبت مرسال: "هناك فضول يتلبسنا عندما يكون الكاتب مجهولًا، مقطوعًا من شجرة، لا نبذة عن تاريخ الولادة أو الموت، معلومة عن جيل أو أصدقاء أو شلة أو آباء وأمهات في الكتابة (...) لمن كانت تقرأ عنايات؟ وهل كان مصطفى محمود من كتابها المفضلين؟ ومَن مِن مجايليها قرأ مسوداتها، أو تبادلت معه آراء عن الكتابة؟ هل تعرفت على أي من كتاب لحظتها التاريخية، أم كانت على هامش اللحظة الأدبية التي شكلتهم؟" (ص 31).

اختارت مرسال، بروح المغامرين والمستكشفين، أن تحفر عميقًا، في سيرة عنايات الزيات، وأن تجمع كل الخيوط المتاحة، لتقدم لنا سيرة، متكاملة، تسد فجواتها بأطراف أحاديث من معاصري ومعارف عنايات، ووثائق وصور الأسرة، وزيارات ميدانية إلى مدافن عائلة آل رشيد التي تنحدر منه الأسرة، وبعض التأويلات. لقد ذهبت إيمان مرسال في بحثها حد أن بحثت في الأشخاص الذين شغلوا بال عنايات الزيات، مثل العالم الألماني الشامل المتخصص في المصريات والنباتات لودفيج كايمر، حيث عملت الزيات لفترة وجيزة برفقته في أحد المراكز الألمانية بالقاهرة، وذهبت أبعد من ذلك عندما نبشت حتى في تاريخ زميلاتها في الفصل، وخصصت فصلًا عن زميلتها اليهودية آفيز والتي صار اسمها إيميليا وكانت عنايات تناديها "آف آف". يرد في كتاب «في أثر عنايات الزيات» (ص 207): "متتبع الأثر يشبه أحيانًا من يبحث في الأرشيف، كل منهما يواجه أشياء متنافرة وعشوائية تحتاج من يتأملها ويجد العلاقات بينها، كل منها يبحث عن مصداقية للتأويل. قبل أن تتحول عنايات من كاتبة مجهولة إلى نداهة تطاردني، قبل أن أرى صورتها، وأسمع طرفًا من أخبارها، وأشعر أني مشدودة من أنفي لمعرفتها، كنت أبحث عن الكنز، عن أرشيفها الشخصي الذي لا بد أنه هناك، متفرق بين البيوت وجغرافيا القاهرة وفي ذاكرة من تبقى من حياتها أحياء".   

ويبدو أن مرسال، تأثرت بحكمة ابن جيلها، أسامة الدناصوري (1960 – 2007)، الذي كتب عن كتابة "النثر" في كتابه "كلبي الهرِم.. كلبي الحبيب": "أما أرض النثر فهي كالغابة المتشابكة الأغصان، كل أشجارها مثمرة، وقريبة المنال. لكن الثمار المرجوة دائماً خفية، إذ لا يراها سوى قاطنيها. لا.. ليس كل قاطنيها، بل ذلك الذي يمكنه أن يكون حطّاباً، وطالع نخل، وصياداً، ومستكشفاً، وقصّاص أثرٍ، في شخص واحد. حتى تمكنه الغابة من ثمارها العزيزة".

وهذا بالضبط ما قامت به إيمان مرسال، عبر عدّة زيارات للقاهرة، وجولات ميدانية، ومراسلات لأقرباء عنايات الزيات، واتصالات ولقاءات بصديقتها المقربة الفنانة نادية لطفي، لقد زارت مرسال مصلحة المساحة في الدقي لتسأل عن شوارع تغيرت أسماؤها، وجوبهت ببعض العقبات مثل مساعدة نادية لطفي التي تحرس صندوق ذكريات "الأرشيف الشخصي" الخاص بعنايات الزيات، أو من مؤسسي موقع شجرة عائلة آل رشيد والذين كانوا يجهلون قرابة عنايات لهم من الأساس..

الكاتبة المنسية

"الصدف كانت تلعب أدوارًا حقيقية في ذلك الزمن، مصائر البطلات القدامى أمام الشاشة وخلفها كان يمكن أن تتحول إلى الشهرة أو الموت بسهولة عجيبة، كأن القدر كان في تلك الأيام مراهقًا يلهو مع جيل الانتقال بين حفلات الكوكتيل والتغيير الاجتماعي والدار القومية وجبهات عبد الناصر الفنية". (ص 100)

وتتجلى هذه الصدف في قصة الصديقتين بولا "نادية لطفي" وعنايات الزيات، الأولى كانت مشروع ممثلة خدمتها الظروف وبدأت تألقها في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، بينما صديقتها الكاتبة الواعدة، زميلتها في المدرسة الألمانية، عنايات، تزوجت وأنجبت ثم أرادت الطلاق ودخلت في دوامة من الصراعات في المحاكم مع طليقها، وهذا الأخير كان يشحن ابنهما ضد أمه بشكل دوري في كل زيارة، أثر ذلك كثيرًا على عنايات، لكن القشة التي قسمت ظهر البعير كان رفض رواياتها من قبل الدار القومية للنشر، لم تتحمل عنايات ذلك فانتحرت بابتلاع الحبوب المنومة، ومن الصدف أن تتصل الدار القومية بعد تلك الواقعة، كما يرد في الكتاب، بمنزل آل الزيات، لتضيف معلومة: ما رُفض كان الترجمة التي تقدمت بها عظيمة الزيات شقيقة عنايات. مرسال تفسر ذلك بأنه حرج من المؤسسة القومية من أن يتم الزج باسمها في موت كاتبة شابة بسبب رفضها لروايتها!

أثناء رحلة البحث، تتكشف خيوط مطمورة في هذه القصة المطمورة أيضًا بدورها، تفاصيل انعتاق عنايات من أسر مؤسسة الزواج، خروجها للعمل، تلقيها للعلاج النفسي في مستشفى بهمن، علاقتها بأنيس منصور ويوسف السباعي ومصطفى محمود، ومتاجرة بعض هؤلاء باسمها وقصتها الحزينة، تأويلات حول إقصاء روايتها من سجل روايات المرأة العربية على الرغم من تزامنها مع لطيفة الزيات التي يؤرخ بروايتها «الباب المفتوح» في هذا المبحث، وحتى تهميش قبرها في حجرة جانبية في مقابر العائلة، لقد حفرت إيمان مرسال بعيدًا في سيرة عنايات الزيات، في وقائعها المنظورة وفي دخيلتها، وأضافت في ختام كتابها الجميل، والذي يمكن بسهولة تصنيفه كـ "رواية" إن أرادت ذلك، لكني أعرف عدم اكتراثها بالقوالب لحساب الكتابة الجيدة، هذه أولويات جمالية. أضافت مرسال فصلًا في ختام الكتاب، دعوة لتأسيس "أنطولوجيا جز الشعور"، تلك اللحظة التي تمر بها كل أنثى، والتي كتبت عنها السيدات الكاتبات، وأوردت مرسال قائمة بأولئك اللواتي أقدمن على لحظة جز الشعر، وهو المشهد الأخير الذي شوهدت به عنايات الزيات قبل أن تنهي حياتها، حتى أن جارتها مدام النحاس ظنت أنها قادمة من صالون كوافير، في حين أن عنايات، في الواقع، كانت قد كتبت رسالة تعتذر فيها لابنها، وكانت قد انفصلت تمامًا عن الدنيا، واختارت أن ترحل قبل حتى أن تنجز روايتها الثانية التي كانت قد شرعت بالفعل في كتابتها.