«سوريا الأخرى... صناعة الفن المعارض»... سوريا الباردة في فترة التسعينيات 

2019-11-12 15:00:00

«سوريا الأخرى... صناعة الفن المعارض»... سوريا الباردة في فترة التسعينيات 

إذا ليس من السهل على المثقف السوري، أن يعبر عن آرائه السياسية، والثقافية، والاجتماعية، بهذه السهولة وهو داخل البلد، وهذا يحتم على البعض تقديم بعض التنازلات، إما بالصمت، أو باتّخاذ موقف سياسي معارض، بمعزل عن أي خطاب ثوري، أو كما تقول ميريام كوك في كتابها: "ربما لا تمنع السلطة الحاكمة السلوك المعبِّر عن المعارضة، لكنها تقاوم النشاط الثوري". 

في السنوات الخمس التي سبقت انطلاقة الثورة السورية، ازداد اهتمامي بالسينما الأوروبية، وتحديداً الأفلام التي تناولت فترة الحرب الباردة. إذ كان ينتابنا ونحن ما زلنا نعيش في سوريا، تحت حكم استبدادي، أن المعسكر الاشتراكي لم ينهار بعد، وما زال قائماً.  

كان الفيلم الألماني "حياة الآخرين" (The Lives Of Others) الذي أُنتج عام ٢٠٠٦، وأخرجه فلوريان هينكل فون دونرسماك، من أكثر الأفلام السينمائية محاكاة للواقع في سوريا قبل الثورة. إذ تجري أحداث الفيلم في فترة الحرب الباردة في ألمانيا الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية ١٩٤٩ - ١٩٩٠)، والتي تدور أحداثه حول تكليف جيرد ويسلير، الذي يعمل في وزارة "الأمن القومي" في ألمانيا الشرقية بالتجسس على حياة الكاتب المسرحي جورج دريمان، وزوجته. كما أن الفيلم يلقي الضوء على الخوف الدائم الذي يعيشه المثقفون في ألمانيا الشرقية، والذين يخضعون لمراقبة دائمة، كيفما تحركوا، هذا عدا المضايقات، والتهديدات، والاعتقالات. وكان أغلب هؤلاء المثقفين، رافضين لمغادرة ألمانيا الشرقية، والهروب إلى ألمانيا الغربية، لأنّ ما يحدث في ألمانيا الشرقية، هو ما يستحق الكتابة عنه. ولذلك أدرك النظام الخطر الذي يشكله هؤلاء عليه، ولذلك كان يراقب أدق تفاصيل حياتهم.

كتاب «سوريا الأخرى... صناعة الفن المعارض» للباحثة الأمريكية ميريام كوك، والذي صدر باللغة العربية أواخر عام ٢٠١٨، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة الطبيب والباحث السوري حازم نهار (صدر بنسخته الإنكليزية في عام ٢٠٠٧) يوثق ملمحًا من ملامح الحراك الثقافي والفني في سوريا في فترة التسعينيّات، وهي الفترة ذاتها التي زارت فيها ميريام كوك سوريا: "أقمت في سورية بين خريف عام ١٩٩٥ وربيع عام ١٩٩٦". 

ما جعلني أتذكر فيلم "حياة الآخرين" الألماني، هو عنوان النسخة العربية لكتاب ميريام كوك «سوريا الأخرى» إذ أن عنوان الكتاب الأصلي Dissident Syria أي «سوريا المنشقة»، كما أن صدور الكتاب بلغته الأصلية، كان بعد عامٍ من إنتاج فيلم "حياة الآخرين". 

حياة أخرى تتشكل داخل حياة يجري فرضها بالقوة، وتلميعها من الخارج، وبلاد أخرى لا أحد يعرفها ممن يعيشون خارجها، داخل بلاد يجري تصديرها للخارج بأنها "سوريا الأسد" ولا شيء آخر غيرها. أو كالسؤال الذي يُطرح على الملتحقين بالخدمة الإلزامية العسكرية في سوريا، من قبل ضباط الجيش، عندما يسأل ضابط ما، مجند: "أنت من وين"، ليردّ المجند بعفوية " أنا من الشام" أو "أنا من حمص"، وليأتي الردّ الغاضب، والمنتشي من سذاجة المجند: " وقت أسئلك أنت من وين... بتجاوب: أنا من سوريا الأسد". 

هذه البلاد الأخرى، التي يعيش فيها آخرون مجهولون، هو الذي سيصبح أحد الدوافع الرئيسية للباحثة ميريام كوك، لتأليف كتابها البحثي «سوريا الأخرى». إذ ترى الكاتبة أن كثيرين في الغرب، يعتقدون أن غالبية الشعب السوري، خانع ومستسلم للسلطة الحاكمة، ولا يوجد أي نوع من المقاومة. وذلك بعد أن كان هدف زيارتها إلى سورية مقابلة الأديبات السوريات من دون معرفة مسبقة لما يمكن أن تجده في هذه الصدد، حسب تعبيرها. وعندما تتحدث عن الكاتبة السورية نادية الغزّي، تقول أن "أياً من أعمالها لم يترجم إلى لغات أخرى". كما أن عبارة "أدبنا حبيس الوطن" تلخص لها الحالة الخانقة التي يعيشها الأدب السوري في تلك المرحلة  فتقول: "كانت هذه أول مرة أسمع فيها هذه المرثية، التي رددّها آخرون طوال فترة إقامتي في سوريا. ولهذا السبب كان النقّاد الأجانب مثل جين فونتين لا يعرفون سوى النزر القليل عن الأدب في الداخل، وكانوا يعتقدون تالياً أن الأدب السوري ما هو إلا استجابة سيئة لقمع لا يميز بين أحد، وبالتالي أدبٌ غاية في البساطة لا يستحق الدراسة". 

كما أن الكتاب يكشف عن سلطة الرقابة والمنع التي يتبعها النظام اتجاه أي منتج ثقافي أو فني، يشعر أنّه يمثل خطراً عليه. كما يركز الكتاب أيضاً، على سيطرة النظام على الإنتاج الثقافي، والتحكم به، بتحميله شعارات مفرغة من معناها، لتعزيز شرعية وجوده. وتذكر كوك في مقدمة الكتاب "منح القانون العرفي لعام ١٩٦٣، المعزّز في عام ١٩٧٠، السيطرة المطلقة للحكومة على الإنتاج الثقافي وتوزيع المعلومات، حيث نصّت الفقرة الرابعة من قانون حالة الطوارئ على أنَّ دائرة الرقابة تشمل "الرسائل والاتصالات بجميع أنواعها، والرقابة الصحافية، والنشرات الدورية، والرسوم، والمطبوعات، والبث ووسائل الاتصال جميعها، والترويج والدعاية قبل النشر، إضافة إلى الاستيلاء عليها ومصادرتها وإيقافها". 

اتّبع النظام السوري وبالأخص في فترة التسعينات، سياسات عديدة في قمعه للمنتج الثقافي، وهذا ما لمسته مريام كوك أثناء تأملها للمشهد الثقافي في سوريا، فسياسة "التنفيس" الذي اتبعها النظام في تلك الفترة، أربكت المثقفين السوريين، فهم لا يعلمون سقف المسموح به في التعبير عن انتقادهم للنظام، ومتى يكونون قد تجاوزا الخط الأحمر. وهذا ما كان يشكك بأي مثقف معروف بمعارضته للنظام، ويتجاوز الأخير عن عرض فني أو خطاب ثقافي ما، ينتقد أداءه. وهذا ما أسمته الكاتبة بـ "الانتقاد المُكلّف" أو الانتقاد المشترى، وتعتمد في تحليلها هنا على كتاب دليل المواطنة لحسان عبّاس وأحمد معلا، التي تقتبس منه هذا المقطع: "يرتئي الرئيس أنّه من الأفضل وجود مستوًى آمن يمكن السيطرة عليه من الاستياء الشعبي، بدلاً من كبت مشاعر الشعب بشكل كامل". كما تقول كوك في مقطع آخر "الانتقاد المشترى هو آلية صمام أمان تسمح بما يدعوه السوريون "التنفيس". وهذا التنفيس هو تلك اللحظة التي يتشارك فيها الجميع رفضهم ووعيهم الظلم الواقع عليهم، فهو يوفّر لهم شيئاً من التنفيس الممتع للضغط المحقون في النفوس". 

في زيارتها إلى سوريا، تلتقي ميريام كوك، أبرز الكتّاب والفنانين السوريين في تلك الفترة، مثل الكاتب ممدوح عدوان وسعد الله ونوس. إضافة إلى لقائها بكاتبين كانوا في وقتها من أبرز كتّاب أدب السجون، والذين قضوا جزءًا من حياتهم في معتقلات النظام كالكاتب المسرحي غسان جباعي والقاص إبراهيم صموئيل. كما تلتقي أيضاً بالمخرج السينمائي محمد ملص. 

لكن في الفصل الأخير من الكتاب، يلفت أحد أصدقاء الباحثة من السوريين انتباهه كوك بأنها لم تهتم أثناء زيارتها بلقاء كتّاب سوريين من أجيال أصغر سنًّا. لتردّ عليه بأنّ "النساء اللواتي التقيتهن من المثقفين التقليديين المحافظيين، مثل كوليت خوري وإلفة الإدلبي. وأكدن لي أنه لا توجد موجة جديدة". 

أما اليوم عندما نتأمل الإنتاج الثقافي والفني السوري في السنوات التي تلت بداية الثورة السورية مطلع عام ٢٠١١، نلاحظ  أن أبرز ما ينتجه السوريون هو خارج سوريا، وهو الذي يطغى على المشهد العام. وهذا بديهي، إذ أن أغلب الفنانين والمثقفين السوريين المعارضين سواء قبل الثورة أو بعدها، خرجوا من سوريا، هاربين من بطش النظام. حتى أن أكثر الفنانين والأدباء والسينمائيين من جيل الشباب، بدأوا مشاريعهم الأولى، خارج سوريا. قلة من الفنانين والمثقفين المعارضين تحديداً، بقوا في سوريا، منهم من آثروا الابتعاد عن نقد النظام بشكل مباشر، ووجدوا حلولاً وحيلاً للتعبير عن آرائهم. ورغم ذلك، يُعتبر قرار البقاء لأي مثقف في داخل سوريا – وتحديداً القادرين على مغادرة البلاد بأي وقت- قراراً شجاعاً. 

إذن ليس من السهل على المثقف السوري، أن يعبر عن آرائه السياسية، والثقافية، والاجتماعية، بهذه السهولة وهو داخل البلد، وهذا يحتم على البعض تقديم بعض التنازلات، إما بالصمت، أو باتّخاذ موقف سياسي معارض، بمعزل عن أي خطاب ثوري، أو كما تقول ميريام كوك في كتابها: "ربما لا تمنع السلطة الحاكمة السلوك المعبِّر عن المعارضة، لكنها تقاوم النشاط الثوري".