ترمي الكاتبة مفاتيح كثيرة لنصها، وتتكشف أستار النص/ اللغز بالتدريج. تخبرنا عن الاسم الذي نهض من الورقة وصار رجلًا برأسٍ وقدمين. ينهض الاسم الذي هو نون، ويلاحق بدوره شخوصه وإذا تعثر ذلك فإنّه يتهيأهم، ليقع القارئ على التباس بين عالمي نون.
تمثل رواية نجوى بركات «مستر نون» (دار الآداب) بحثًا ناضجًا في قضايا إنسان ما بعد الحرب، أو تنقيبًا في بقاياه. تقف الكاتبة اللبنانية على ذلك الردم، لا تعيد تشكيلهُ، ولا تحاول تفكيكه أو ترميمهُ وإنّما تدفع بهِ إلى متاهة الموت، في عمل، أنتجهُ عقل خبير، ليهزّ الوجدان.
تبني بركات روايتها على حالات موت متعددة، انتحارًا أو قتلًا أو عبثًا. وتستخدم كاتبًا تمنّعت الكتابة عنه، لتجعل منهُ شاهدًا على عنفٍ ووحشية لا ينتهيان، وبذلك ينهض النص على حساسية وقسوة وعذوبة وجفاء، تتجسّد في علاقة نون مع ما يحيط بهِ من أمكنة ونساء. إذ شكلت النساء اللواتي أحطن بهِ فكرته عن العاطفة، وترتقي علاقته مع المكان ليصير الأخير شخصية معيارية وواحدًا من هموم النص الإنسانية، وذلك باستخدام لغة تصويرية تعكس تغيرات داخلية. إذ تتوارى الكاتبة خلف تساؤل نون عن أولئك الذين ألقوا الحجاب على شرفات بيروت التي لطالما أُشرعت للأزهار والحرية.
يدفع بناء برج أمام شرفة نون إلى مغادرة منزله، والإقامة في فندق، سنعرف أنّه مصح وبأنّ نون يخضع للعلاج النفسي لتداخل الأزمنة والأوهام لديه، وقد باع شقيقه المنزل ليسدّ نفقات العلاج. يبدو نون شخصًا تلقائيًا وحساسًا، يبحث عن إلهام خاص بين ركام الحروب. إنّه شخصية ركبتها الكاتبة بتولًا، لم تلوثه الآثام التي حدثت أمامه أو عبرته أو حدثت ضدّهُ. تتعاقب مشاهدات نون، لتؤدي الأبنية والناس دورًا واحدًا خربتهُ الحرب الآفلة.
تعبّر أزمة الكتابة التي يعيشها نون عن مجتمع مأزوم، طالما أنّ الكتابة غادرت صاحبها في انتظار تغير الزمان. يتعزز غياب الكاتب في موضوعهِ، بوصف نفسه، كائنًا افتراضيًا يخرقه الهواء.
ترمي الكاتبة مفاتيح كثيرة لنصها، وتتكشف أستار النص/ اللغز بالتدريج. تخبرنا عن الاسم الذي نهض من الورقة وصار رجلًا برأسٍ وقدمين. ينهض الاسم الذي هو نون، ويلاحق بدوره شخوصه وإذا تعثر ذلك فإنّه يتهيأهم، ليقع القارئ على التباس بين عالمي نون.
لا تعمد بركات إلى تصور قطعي لشخصياتها، وإنّما تركن إلى فكرة القارئ عن نماذجها، مثل لقمان، وهو أحد أمراء الحرب، يؤدي دور القاتل دائمًا، حدّ التصاقهِ بصورة القتل، كأنّما عبر تركيز القتل المتعدد في شخص واحدٍ، تمنح الكاتبة بحثها المضمّن في الحكاية عن علاقة الجلاد-الضحية. تركيزًا دراسيًا لا تشتته تشعّبات الحكاية، حتى يظهر كلّ منهما حاجة للآخر.
تستخدم الكاتبة بطلها المعذب للحديث عن علاقات الآباء وقد صنعته رأفة والده وتسلط والدته، قبل أن ينتهي الأول منتحرًا والثانية وحيدة في مأوى للعجزة، فالرواية محملة بمصائر رهيبة. منذ البداية تأثر نون تأثرًا نفسيًا عميقًا بتمييز والدته الشديد لصالح أخيهِ، بعدما انتظرت مولودًا بنتًا. ومن ثمّ يدفعه انتحار والده أمامه للتساؤل إن كان ابنًا ﻷحد في الحياة. وليكون مشواره في الدنيا سعيًا وراء يدٍ تغمره، بهذا فهو يطرح تساؤلات بريئة، لما كُتبَ له أن يشاهدهُ. في المصح رأى انتحار مريم وفي شقته رأى شايغا تُرمى من النافذة، شهد نون نهايات الجميع ما جعله ينشد نهايتهُ.
لدى بركات نزعة فضولية لبناء نصٍ يتحدث عن كل القضايا في المنطقة، من النفايات، إلى البراميل والمهاجرين والخادمات الآسيويات. تجمع حكايا عابرة في آلتها السردية المحكمة. تظهر شخصيات وتختفي، يستخدمها نون ليوضح شيئًا من عثراتهِ، وتستخدمها بركات لتوضح شيئًا من مقولاتها. تنمو الشخصيات وتأخذ حيزها، لتغيب ما إن يضيق وجودها بانتهاء المقولة التي حُمّلت إياها. حتى لعازر العائد من الموت، يظهر معادلًا ﻷولئك الراحلين إليهِ.
يجد السيد نون انتماءه العاطفي لدى شايغا النيبالية المضطهدة. حتى يحار القارئ أكان خلاص نون في الحبّ؟ أم في إنقاذ الضحية! يأخذها من عالمها البائس الاستغلالي إلى عالمه الحالم. وما إن خطف شايغا، حتى فكر بالعودة إلى الكتابة وإيقاف العلاج النفسي. إلا أنّ بركات لا تترك لهذه الدائرة أن تتسع، وإنّما تخنق عبرها شايغا ومن ثمّ نون. وتجعل من قصتهما، مثالًا لعلاقة الضحايا فيما بينهم. يفاوض نون السيد جو، مُشغّل شايغا، قبل انتباهه إلى أنّه يفاوض لشراء كائن بشري. في مشهد شايغا ونون وهما خاضعان للتعذيب بلغ تفسير بركات لعلاقة الضحية-الضحية نقطة بارعة، حيث تكرهُ الضحيةُ الضحيةَ وتتعلق بالجلاد.
تتابع بركات ميلها إلى تفكيك التفكير الانتقامي، وتصل إلى مكاشفة تجمع الكاتب/ نون مع القاتل/لقمان. يزعم لقمان وهو يدافع عن مصير خطّه له الكاتب، بأنّه لم يُمنح أية فرصة وقد رسمته إرادات كثيرة بصورة سيئة. بهذا تدين الرواية الحرب ولا تدين المتقاتلين، تدين الظلم وتترفّع عن الظالمين. تُخبئ بركات وراء نصها رفضًا مريرًا للواقع، تساوم الذاكرة على لحظات جميلة لبيروت وبيوتها وأهلها. تضع قصة الطبيب، والد نون، الرواية في مصافٍ إنسانية أخرى. فالطبيب الذي فتح النافذة وقفز منها، كان قد انتسبَ إلى غرباءٍ. عندما طلب من الممرضة التي أرهقتها المجازر أن تعطي الأطفال حقنة منومة، فإذ بها تعطيهم جرعة زائدة ثمّ تحقن نفسها بالإبرة ذاتها. ليقف لقمان عام ١٩٧٦ أمام مقدرة الطبيب على قتل الأطفال أثناء سعيه ﻹنقاذهم. وليتردد ذلك الموت الهادئ صارخًا في حياة الشهود وأدب الحرب.
يبلغ الالتباس مداه بين الكاتبة وبطلها بتشخيص المعالجة النفسية لمرضه على أنّه غير قادر على التمييز بين الواقع والخيال. بالمثل ترى بركات الأدب؛ أن يكون لك قدم في الواقع وقدم في الخيال. ولتكشف بعد هذا القول، حقيقة تُخرِج النص من الواقع وترميه إلى الخيال، عبر أسطر قليلة عن انتحار كاتبة في المصح النفسي وقد أنهت مخطوط روايتها المستر نون بالقول "أخيرًا تخلصت منهُ". أيكون الخلاص ناصعًا هكذا؟ ومثلما يتناسل القتلة، يتناسل الكتّاب!