إن الفيلم الوثائقي "مع أبو جمال" ليس فقط عن أبو جمال، هذا الفلسطيني الكبير الذي يبيع السجائر وغيرها في دكانه، بل إنه يوثّق زوار هذا الدكان، وأصدقاء أبي جمال، إنه عن الوطن وشهدائه في النصف الثاني من شهر كانون الأول لعام 2018، وعن الإضراب الذي اجتاح مدينة رام الله في تلك الفترة،
يبدو أن الوضع على أرض فلسطين يشكل مادةً دسمة لصناع الأفلام ورواة القصص في الغرب وتثير فضولهم، كما تدفع صناع الأفلام القادمين من هذه الدول، بكل ما فيهم، للبحث عن القصص في أبسط الأشياء، وأكثرها تعقيداً وإيلاماً؛ فيبدأون رحلتهم في البحث عن شيء مجهول، أو أنهم قد يلبون نداءً لصرخة إنسانية مدوية كما حصل مع المخرجين خوليو بيريز وكارليس بوفر، حينما قررا زيارة أكبر سجن مفتوح في العالم، إنه فيلم يوثق رحلة مخرجيه لقطاع غزة، بل هي قصص تصرخ لعلها توقظ في البعض الضمير الحي في فيلم "غزة".
لكن، في كانون الأول عام ٢٠١٨، كانت مجموعة شبابية من النرويج والدنمارك وأخرى فلسطينية قد التقت في رام الله في ورشة تمكين رواة القصص، التي أنتج فيها المشاركون أربعة أفلام وثائقية قصيرة، والتي ينافس أحدها على جائزة "طائر الشمس" للأفلام القصيرة في مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، إننا نشاهد في هذا الفيلم ٣٦ دقيقة من الغربة والحب والعفوية المطلقة أمام الكاميرا. إنه فيلم "مع أبو جمال" لمخرجته النرويجية سيري نيربو، والذي تم تصويره في مدة لم تتجاوز الأسبوعين خلال زيارة نيربو الأولى لمدينة رام الله. هذا الفيلم يكشف عما اكتشفته مخرجته في زيارتها الأولى لهذا الوطن الذي لا يشبه موطنها في دفئه.
ما أعلمه عن مخرجة "مع أبو جمال" سيري نيربو أنها عفوية، لدرجة أنها قد تطلب منك أن تغني بصوتك المتعثر لتصنع مقطعاً وثائقياً، إلا أنها قبيل زيارتها لرام الله كانت تعلم أنها تريد أن تصنع فيلماً عن دوار المنارة، لعل هذه البقعة من أشهر المناطق في مدينة رام الله، المنطقة المزدحمة دوماً والتي ترى فيها خمسة أسود ينتصبون أمامك داخل مساحة دائرية، هذه البقعة التي يتربع في محيطها المتظاهرون، ومن ينظمون الوقفات الاحتجاجية لنصرة الأسرى، والشهداء، والمرأة، وما إلى ذلك. لكن نيبرو وخلال رحلتها لاستكشاف المكان، كانت قد اصطدمت بفلسطينيين يبدؤون نهارهم بكوب قهوة لا تكتمل طقوس احتسائها إلا بسيجارة، يذهب هؤلاء الباحثون عن لقمة العيش منذ الصباح الباكر لشراء سيجارة واحدة أو سيجارتين من بقالة أبي جمال، الذي يسرّ ببيع السجائر كل واحدة على انفراد، يخرج علب السجائر من أكياسها البلاستيكية ليبيع واحدة تلو الأخرة، وبالطبع فإنه لن يمانع أن يبيعك العلبة كاملة أيضاً.
لقد استأجر أبو جمال دكانه من مالكه منذ مدة تزيد عن خمسين عاماً، ربما يكون الخشب شاهداً على ذلك. في دكان أبو جمال ملصق صغير ينادي بمقاطعة البضائع "الإسرائيلية"، ولكنه أيضاً يبيع صناديق مياه "عين جدي"، والتي يتم تعبئتها من مياه واحة عين جدي، والتي جعل منها الاحتلال "محمية طبيعية" لأسباب اقتصادية وسياسية. أما عن البضائع الأخرى التي يبيعها العم أبو جمال فما هي إلا ما يستطيع أن يدفع ثمنه العامل الفلسطيني البسيط في مدينة رام الله.
إن الفيلم الوثائقي "مع أبو جمال" ليس فقط عن أبو جمال، هذا الفلسطيني الكبير الذي يبيع السجائر وغيرها في دكانه، بل إنه يوثّق زوار هذا الدكان، وأصدقاء أبي جمال، إنه عن الوطن وشهدائه في النصف الثاني من شهر كانون الأول لعام 2018، وعن الإضراب الذي اجتاح مدينة رام الله في تلك الفترة، والذي قد اعتبره أبو جمال دون جدوى أبداً، أنه عبثي؛ معللاً ذلك أن هذا الإضراب لن يرجع متراً واحداً من أرض فلسطين. يبدو اليأس واضحاً على ملامح أبي جمال الذي أرهقه الزمن تاركاً له صوراً لزوجته أم جمال التي فقدها منذ سنوات طويلة، وصوراً من حفل زفاف ابنه الذي أبعدته عنه المسافات. إن هذا الفيلم عن وحدته في دكانه الحالك البارد عندما يغلق على نفسه الباب ليتضامن ويعلن إضرابه وفاءً لروح الشهداء بعد بيعه لعدد من السجائر لزبائنه.
إن هذا الفيلم هو رحلة مخرجته، وتوثيق لبعض أيامها في فلسطين، التي قضتها مع أبي جمال، إنه عن كسر أبي جمال وسيري نيربو لحواجز اللغة، والثقافة مع الوقت، والتواصل بالدفء والعطاء. تقول نيربو إنها قد صدمت عند زيارتها لفلسطين من عادات أهلها، ليس وكأنها لم تحبها، ولكنها شعرت بالأمان وسط كل هذا الدمار، لقد وجدت شيئاً ما عند أبي جمال وغيره، هذا الشيء الذي لم تعشه من قبل في بلدها النرويج، لقد شاركها أبو جمال الطعام رغم قلة كميته، طلب من أحدهم أن يحضر لها كوباً من القهوة قبل أن يشتري حاجياته. إن هذا الفيلم كفيلٌ بأن يجعلك تبتسم وتضحك على مدار ستة وثلاثين دقيقة لن تشعر بها أبداً.