الشاعر طارق حمدان وظلم المصادفات

2019-09-23 12:00:00

الشاعر طارق حمدان وظلم المصادفات

كانت المقالة الوحيدة التي لم تنشر، وضاعت من على الجهاز، هي مقالة طارق، فشعرت أن هذا الشاعر حتى التكنولوجيا تتآمر عليه، وسيبقى معروفاً كمذيع في مونت كارلو، أو كموسيقي أو سائق الدراجات، مرت الأيام والشهور، وحين أتذكر المقالة أشعر بغصة، فأهز رأسي كي أنسى.

كنتُ حضرت أمسية شعرية شارك فيها الشاعر طارق حمدان، في شهر مارس الماضي ضمن فعاليات مهرجان "سينما فلسطين" في تولوز، ولاحظت أن التصفيق بعد قصائده شديد الحماس سواء التي ألقاها بالعربية، أو حين تتبعها القراءة الفرنسية.

وصلت كلماته قلوب الجميع كما وصلتني... ولا يُشَبّه لي أنا فقط بأنه يرسم صوراً نادرة من حياتنا اليومية والتيه الذي نعيشه، إنه يرسمها بطريقة مألوفة لكن من الصعب تكرارها، أي أنك لن تسمعها سوى منه رغم أننا جميعاً نشعر بها. 

نَظمُ طارق على المسرح، حي؛ يتحول لشخصيات تراها بجانبه تروح وتأتي وتقهقه، تبكي، تنتحر، فلا يمكن أن ترى طارق وحده دون أن ترى شخوص قصائده السوداوية

يقول في  "قلب في الشارع":

"في الأمس سقط قلب على الأرض

ارتطم بإسفلت الشارع وظل يتدحرج حتى استقر أسفل البناية.

جارتي الكاثوليكية قالت بأنه قلب شيطان

ركله الله من الأعالي

الفتاة الهيبز هرعت تصيح من آخر الشارع: "المصانع..المصانع"

صاحب الدكان العربي ظل ينظر إلى القلب ويردد:

الله أكبر، سبحان الله

صاحب المقهى

كان سعيداً بالطلبات التي انهالت عليه فجأة

لأناس يشربون البيرة ويأكلون الفستق أمام هذا القلب

سواح آسيويون تواجدوا بالصدفة، سحبوا كاميراتهم

وأخذوا يلتقطون صوراً وسيلفي

ساعي البريد الشيوعي توقف بعجلته يضحك:

هذا قلب إلهكم الميت".

إن التفاعل الكبير مع طارق، جعلني أتساءل لماذا حدث هذا مع شعره بالذات؟ هل هو الإلقاء أم أن ذلك بسبب حضوره على المسرح؟ لكني وجدت كلاهما عادياً، وأن جاذبيته تكمن في اصطياده لشخصيات نراها يومياً في حياتنا، ثم يحررها على المنصة راكضة نحو الجماهير، فكل قصيدة تذكرنا بامرأة ما، صديق، غريب مر بنا،  في كلمات غير متكلفة أو رمزية، أو متفذلكة، قصائد تشبهنا، تشبه ماضي الشعر الحديث!

قصائده لا تحدثنا عن تفاصيل حياته من خارجها، أو ينقل لنا صورة فوتغرافية، بل يكتب كيف تمر هذه الحياة داخله، وتحطمه كما حطمت آخرين، كما لو أنها صورة "X-Ray" للروح، أي كما نرى أنفسنا تماماً؛ أسوياء على السطح لكن محطمين ومستباحين من العمق، يقول في "أبجدية":

"الليلة الماضية

سحبني أحدهم مرغما إلى حفلة تكنو

أنا الذي لم أرقص يوماً

رقصت حتى ارتجفت ناصيات الشوارع

ولم أشرب يوماً

شربت حتى انتهت القوارير

ولم أضاجع يوماً

فضضت مئات البكارات على طاولة البار

حين حل الصباح

استيقظت وأنا أتمرغ بالقيء والدماء

كل هذا كان من ليلة الأمس

تلك التي بدأت قبل خمسة آلاف عام"

إنه يستعير أناساً نعرفهم، يكتبهم دون أن يستسهل كينونتهم، بل يكشف فداحة ما يمرون به في صمت، يقول في قصيدة "ساحة العدم":

"أستيقظ مبكراً كل يوم

أنهض من السرير

ألملم ملابسي التي خلعتها قبل أن أدخل في اللحاف

ألبس ما تيسر منها 

أتفقد وجهي في مرآة الغرفة

أتوجه إلى ماكينة القهوة

أحضّر فنجاناً

أشعل لمبات البيت

أفتح التلفاز

أشرب القهوة

بعدها

أطفئ التلفاز، ماكينة القهوة، لمبات البيت

أخلع ملابسي مرة أخرى

وأدخل في اللحاف

هكذا ينتهي اليوم في ساحة العدم

ما بين لم الملابس وخلعها".

بعد انتهاء الأمسية الشعرية، أخذت منه ديوانه "ضحك ونشيج" الذي يقرأ منه، وذلك بالحيلة، إذ لم يكن بحوزته سوى عدد محدود لأصدقائه في تولوز، ولم أكن قد قابلته من قبل، على الرغم من أنه ذكرني بأننا تقابلنا ذات مرة في غزة حين جاء زيارة.

 ولم أذكر تلك المرة، لكني بالتأكيد سأتذكر هذه المرة، فهناك شعر لا يمكن نسيانه، ومن الأفضل ألا نربط الشعر بصاحبه كثيراً، أي أن تميت المؤلف كما ينصح "ت إس إليوت"، وهذا ما حدث مع طارق، حتى أنني تفاجأت حين أرسلت له شكراً عبر "ماسنجر" الفيسبوك أنه كان بيننا شجار قديم عقب واحدة من مقالاته.

وهذا يدل على أنني عرفت طارق إعلامياً فقط، وربما لذلك فإن الأديب الذي يعمل في الإعلام والمجتمع المدني مظلوم، فغالباً ما يتم تعريفه بالثانية وليس الأولى، وغالباً لا تكون الأولى مقنعة إذا لم تتحقق على الأرض أي قرأت أعماله أو استمعت إليها، لكن من حظي أنني كنت نسيت كل ذلك عن طارق حين حضرت الأمسية.

بيد أنني أتساءل كيف يرى طارق نفسه الشاعرة، وكيف ينظر إليها؟ وسط مواهبه المتعددة في الموسيقى والإعلام وسباق الدراجات النارية، ربما لذلك لم ينشر سوى ديوانين بينهما سبع سنوات، وهذا ما يجعل شعر طارق محمّل بالمفاجآت ولا أقصد نهاية قصائده مع أن هذا النوع من الدهشة موجود أيضاً، ولكن أقصد الجودة التي تأتي بعد غياب، وربما يكون نضج الحكاية الشخصية بشكل أو بآخر.

ليلتها، عدت إلى المنزل وكتبت عن الكتاب، فقد كانت القصائد لا تزال حية داخلي تماماً كأنه يلقيها الآن، أراها من لحم ودم، شعرت بالسعادة وأنا أفعل ذلك، فقد عبرت الكلمات تماماً عن شعوري، وهو الذي أجده صعباً حين أكتب عن الشعر والشعراء، وهي مرات قليلة ونادرة، وحين أفعل لا يهم إذا ما كان الكتاب قديما أم حديثاً، ومن كتب عنه أو لم يكتب.

وحين بدأت أحضّر المقال للنشر في اليوم التالي، هاجم فيروس جهازي الحاسوب، ومسح كل الملفات تماماً، والبرامج، فأصبح الجهاز كأنه جديد، ولم أستطع أن أجد المقالة وكل أرشيف كتاباتي.

حزنت كثيراً، وغضبت من نفسي أن كل مرة أثق بجهاز حاسوب يفعل معي ذات الشيء ويكون هناك مقال أو نص لم أنشره، وسأفتقده بشدة للأبد، فقد رُمي في الحاوية الإلكترونية، في اللاشيء تحديداً.

كانت المقالة الوحيدة التي لم تنشر، وضاعت من على الجهاز، هي مقالة طارق، فشعرت أن هذا الشاعر حتى التكنولوجيا تتآمر عليه، وسيبقى معروفاً كمذيع في مونت كارلو، أو كموسيقي أو سائق الدراجات، مرت الأيام والشهور، وحين أتذكر المقالة أشعر بغصة، فأهز رأسي كي أنسى.

اليوم كنت أرتب خزانة أوراقي، وفي أوروبا تحتاج غرفة للأوراق وليس فقط خزانة، ووجدت كتاب طارق والذي دفن مع بقية الكتب، لأني لا أمتلك مكتبة بعد في منزلي، وشعرت أنني يجب أن أواجه الكتاب من جديد وأكتب عنه مرة أخرى لأنه يستحق، أردت أن أبدأ كما بدأت في مقالتي الأولى، وأتدرج كما فعلت في تجربته الشعرية وسط مجايليها، ولكن لا، ما ذهب فقد ذهب ولا أريد أن أسترجع المقالة ذاتها.

وقررت أن أقرأه من جديد وأكتب كأنها أول مرة، وهكذا كان، إلا أنها كانت ذات الدهشة والابتسامة والسهولة والحب، التي تشعر بها وأنت تقرأ هذا الرجل، فكل شيء انسيابي، لا يوجد تلبس للحالة أو اصطناعها، هو يكتب وفقط، ولو أن هناك صوراً كلاسيكية لا يزال يحتفظ بها لكن المفاجأة أن المتلقي لا يزال يحب هذه الكلاسيكية، وكتبتُ من جديد أيضاً:

"كنت حضرت أمسية شعرية شارك فيها طارق حمدان، في  شهر مارس الماضي ضمن فعاليات مهرجان "سينما فلسطين" في تولوز، ولاحظت أن التصفيق بعد قصائده شديد الحماس سواء التي ألقاها بالعربية، أو حين تتبعها القراءة الفرنسية..."