ما بعد كنفاني... قطيعة ما بين الرواية والسينما الفلسطينيتين

2019-09-01 01:00:00

ما بعد كنفاني... قطيعة ما بين الرواية والسينما الفلسطينيتين

أما المخرج العراقي قيس الزبيدي، فقال وقتها، وفي ذات الإطار: انصراف الفيلم العربي عن المواضيع التقليدية إلى القضية الفلسطينية كان دافعها شباك التذاكر، وهنا استدعت حاجات السوق دخول منتجين تجار جدد، وبشكل خاص من سوريا ولبنان، وهذا يمكن أن يفسر الرداءة في النوعية،

ما بعد روايات غسان كنفاني، لا أذكر أن ثمة فيلماً أو مسلسلاً تلفزيونياً فلسطينياً أو عربياَ، أنتج بالاستناد إلى رواية أو نص روائي فلسطيني، مع أن عديد الروايات الفلسطينية حققت ولا تزال حضوراً محلياً وعربياً بل وعالمياً، وحصدت الكثير من الجوائز المهمة على المستوى العربي، ونافست على جوائز عالمية، ولهذا بطبيعة الحال أسبابه.

من أبرز هذه الأسباب قد يكون أنه لم يعد هناك جهات إنتاجية تتبع منظمة التحرير الفلسطينية، أو منظمات وحركات في إطارها، في حين لم تعد مؤسسات السينما العربية الرسمية، على قلتها، تلتفت إلى القضية الفلسطينية، خاصة بعد أن غادرها الفلسطينيون أو أنصارهم ممن كانوا يعملون فيها، فلم يعد هناك مؤسسة للسينما الفلسطينية خرجت من رحم حركة فتح، ولم تعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو "الديمقراطية" وغيرها تنتج أفلاماً، إلا ما ندر، فالأفلام التي أنتجت من وحي روايات "عائد إلى حيفا"، و"رجال في الشمس"، و"ما تبقى لكم"، منها ما أنتجته المؤسسة العامة للسينما في سورية، ومنها ما أنتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بشكل أساسي، غير الأفلام التي أنتجت من وحي روايات كنفاني في إيران، والبحرين...

فوزارة الثقافة الفلسطينية، ومنذ تأسيسها بقيام السلطة الفلسطينية عام 1994، لم تقم بدورها، ليس في إنتاج الأفلام فحسب، بل في دعم واضح الرؤى لإنتاج هذه الأفلام، ودعم الرواية الفلسطينية بمفهوم المنتَج الإبداعي الروائي عبر السينما، والأمر ذاته ينطبق على الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينية، رغم أن الجهتين تنفقان مبالغ مالية بمئات آلاف الدولارات، إن لم يكن أكثر، على دعم فعاليات وأفلام سينمائية ومسلسلات درامية، في كثير من الحالات هي دون المستوى، ولا سياسة واضحة، ولا لجان مؤهلة، إلا ما ندر، في اختيار وتحديد من يستحق هذا الدعم من عدمه، أما الفصائل الفلسطينية فهي في حالة سبات أغلب الأحيان على المستوى العام، فما بالك على المستوى الثقافي، الذي هو في ذيل القائمة بالنسبة للحكومات الفلسطينية المتعاقبة التي خصت وزارة الثقافة بأقل موازنة لا تخولها إنتاج نصف فيلم روائي، وكذلك منظمة التحرير التي ألغت مؤخراً دائرة الثقافة والإعلام فيها!

وبالعودة إلى الحديث عن أفلام سبعينيات القرن الماضي، وكلها عن روايات لكنفاني، والمستوى الفني لهذه الأفلام فالأمر مختلف، فما تسنى لي من مشاهدته بدا مرتبكاً حد الركاكة، على مستوى التمثيل، والتصوير، وحتى الحبكة، والتقنيات الإخراجية، وهنا أعود إلى ندوة "السينما والقضية الفلسطينية" التي أدارها المصور الشهيد هاني جوهرية العام 1972، ونشرت في مجلة "شؤون فلسطينية"، صيف العام نفسه، لأنقل آراء بعض رواد سينما الثورة الفلسطينية من فلسطينيين وعرب، بحيث تطرقوا للحديث بشكل عام عن الطريقة التي طرحت فيها فلسطين في السينما العربية، فقال كريستان غازي: طرحت السينما العربية القضية الفلسطينية أساساً عبر خطّين تجاري وثقافي نقلا بعض جوانب من القضية فوتوغرافياً ودون منهجية موحدة، كما فعلت عديد المؤسسات السينمائية التي ترغب فقط في نقل صورة تحرك العواطف السطحية دون تقديم مادة الفيلم في إطار سياسي واضح.

وكان غازي أخرج فيلماً بعنوان "الفدائيون" في العام 1967 في اقتباس روائي من بريخت.. "رغم أنني عالجت الجانب الوطني، وتناولت ضرورة التحام الجماهير العربية بالمقاومة ضد الاحتلال، أي اعتماداً على تحريك الحس الوطني بشكل مباشر، لم يطرح الفيلم أية مدلولات طبقية واضحة فإنه قد منع في معظم البلدان العربية، ولم تقبله سوى سورية واليمن الديمقراطية".

فيصل ياسري أشار وقتها إلى أنه في حرب 1967، "لجأ المنتج التاجر إلى استغلال القضية الفلسطينية لتحقيق الربح، فغدت بنظر المنتج البضاعة التي يطبق عليها الشعار السينمائي هكذا تريد الجماهير. بعد الحرب وبروز المقاومة كان السباق على أشده. كان هؤلاء المنتجون يدركون أن إنتاجهم سيء، ومع ذلك كانوا متعجلين لإنتاج المزيد قبل أن يكتشف الجمهور فسادها، وهكذا كانت دفعة الأفلام الأولى التي تصدت للقضية من أسوأ الأفلام وأكثرها تزويراً، وبنفس الوقت من أنجحها تجارياً.

أما المخرج العراقي قيس الزبيدي، فقال وقتها، وفي ذات الإطار: انصراف الفيلم العربي عن المواضيع التقليدية إلى القضية الفلسطينية كان دافعها شباك التذاكر، وهنا استدعت حاجات السوق دخول منتجين تجار جدد، وبشكل خاص من سوريا ولبنان، وهذا يمكن أن يفسر الرداءة في النوعية، فخبرة هؤلاء في المعالجة السينمائية، إذا سلمنا بوجودها، لم تستمد من الواقع الفلسطيني والصراع الدائر على الأرض، بل من السينما الأميركية والإيطالية التي استعيرت بأسوأ شكل وألصقت على المواضيع الفلسطينية.

وهنا لابد من الحديث عن "شباك التذاكر"، الذي هو نفسه الآن يسبب عزوفاً عن تعاطي الفيلم العربي وحتى الفلسطيني مع الرواية الفلسطينية، مع استمرار رداءة ما يقدم عربياً حول القضية الفلسطينية من أفلام موسمية، وعليه فثمة غياب فاضح لحضور الأدب الفلسطيني عامة، والرواية خاصة في السينما الفلسطينية والعربية والعالمية، رغم إنتاج رواية اللبناني إلياس خوري "باب الشمس"، ومحورها النكبة والقضية الفلسطينية على جزئين في فيلم من إخراج المصري يسري نصر الله.

"ميرال"... حالة خاصة

ولعل الاستثناء هنا، الرواية الصادرة بالإنجليزية للفلسطينية الإيطالية رولا جبريل بعنوان "ميرال"، حيث التقط المخرج الأميركي جونثان شنايبل، الرواية ليحولها إلى فيلم عالمي بطولة الممثلة فريدا بينتو هندية الأصل، التي تشبه إلى حد كبير صاحبة الرواية.

والفيلم المأخوذ عن رواية "ميرال"، كتبت جبريل التي اشتهرت كمذيعة في التلفزيون الإيطالي، سيناريو الفيلم أيضاً.

وذكرت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، العام 2010، أن كتاب "ميرال" يحكى قصة حياة رولا جبريل التي أصبحت من أشهر مذيعات التلفزيون الإيطالي منذ مولدها في القدس العام 1973، وانتحار والدتها بعد تعرضها للاغتصاب، ومروراً بطفولتها وشبابها اللذين أمضتهما في ملجأ للأيتام بالقدس الشرقية، حتى سفرها إلى إيطاليا لدراسة طب العلاج الطبيعي بمنحة من الحكومة الإيطالية.

وأكدت جبريل أن "ميرال" الذي يحمل أيضاً اسم ابنتها، يلخص الذاكرة الجماعية لجيل كامل عاش أحداث الانتفاضة الأولى في فلسطين، لافتة إلى أن الرواية تكشف مدى معاناة الفتيات الفلسطينيات جراء الاحتلال وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية، فالفيلم لا يخلو من إسقاطات ودلالات مثيرة سياسياً، دفعت كتاباً في صحف إسرائيلية الى وصف الفيلم بالخطير حتى قياساً بأفلام كادت تسجن مخرجيها كفيلم "جنين جنين" لمحمد بكري. ولعل ما أثار هؤلاء في الفيلم هو أنه يبدأ بإشارات تعايشٍ تنقلب سريعاً مع نكبة 1948، وما خلفته من مآس ومجازر، ومن بينها مجزرة دير ياسين، عبر حكاية المناضلة هند الحسيني التي حولت منزلها ومنزل جدها إلى مدرسة لأيتام المجزرة، وغيرهم من الأيتام، وكانت إحدى خريجاتها كاتبة النص التي فضلت اسم "ميرال" لتتحدث به عن نفسها، كما ينتهي الفيلم ذو الإنتاج الفرنسي الإيطالي الهندي الإسرائيلي المشترك، بإهداء من أسرته إلى كل من لا يزال يؤمن بأمل في تحقيق السلام، لكن الفيلم، يبدو بلا شك فيلماً فلسطيني المضمون والنكهة في مجمله، فعلى الرغم من مخرجه الأميركي اليهودي، ومن بطلته الهندية الهوليوودية فريدا بينتو، التي جسدت "ميرال" أو رولا جبريل، والنجمة العالمية فينيسيا ردغريف، إلا ان السطوة كانت للفنانات الفلسطينيات، وعلى رأسهن هيام عباس، التي جسدت دور هند الحسيني باقتدار.

الفردانية في السينما الفلسطينية

ويضاف إلى ذلك أن المخرج الفلسطيني في ربع القرن الأخير أو يزيد، كان هو، ولا يزال، المنتج أو جامع المال لإنتاج فيلمه، وهو كاتب نص الفيلم أو المشارك في كتابته، في أحسن الحالات، وأحياناً يكون المصور والتقني وأحياناً الممثل الرئيس أو غير الرئيس، وهذا ينطبق على المخرجات، ولو استعرضنا بالأسماء نجد أن أياً من المخرجات والمخرجين الفلسطينيين البارزين لم يقوموا بتحويل رواية فلسطينية إلى فيلم، كحال إيليا سليمان، وهاني أبو أسعد، وميشيل خليفي، ورشيد مشهراوي، وآن ماري جاسر، ومي المصري، ونجوى نجار، والأمر ذاته ينطبق على التجارب الناجحة للمخرجين والمخرجات الشباب، وهذا ربما مرده شحّ التمويل من جهة، والتأثر بالتجربة الأوروبية من جهة أخرى، خاصة أن جهات أوروبية بالمجمل هي من تقف، منذ ثلاثة عقود أو أقل قليلاً أو أكثر، وراء تمويل جزئي أو كلي لغالبية الأفلام الفلسطينية.

وهذا ما شدد عليه الفنان والكاتب عامر حليحل في حديث خاص، حيث قال: أعتقد أن السبب في حالة الطلاق هذه يعود إلى قيود السينما وحرية الرواية. السينما الفلسطينية في ظل غياب الدولة كجهاز، وفي ظل غياب المشروع كشعب، مقيّدة إنتاجياً في منحٍ خارجية وأموال غربية، فهي بالتالي تفرض عليها نمطاً سينمائياً فنياً يلائم مصدر التمويل، أي أن السينما الأوروبية حتماً أثّرت في وعلى السينما الفلسطينية من ناحية الشكل، ومن ناحية فنية الكتابة وأنماط تناول السينما، بغض النظر إذا كانت تفرض أجندات في المضامين أم لم تفرض. الحديث هنا عن الأساليب والأنماط الفنية والأدوات المستخدمة في صناعة السينما، أما الرواية فهي عمل فردي حر لا يتكئ على موازنات وموارد وأموال ودول وتصاريح، لذا أصبحت بعيدة عن السينما وقيودها أكثر.

وأضاف حليحل: أعتقد أيضاً أن السينما الفلسطينية أخذت المنحى الشخصي في صناعتها، بمعنى أن المخرج في معظم الحالات هو الكاتب، فتكاد لا تجد مخرجين لا يكتبون أفلامهم، وهو أيضاً تأثير أوروبي. أعتقد لو أن الموارد تأتي من هوليوود لاختلف الأمر. كنا سنشاهد سينما منقولة من الأدب، وسينما فيها الكاتب غير المخرج.

ولعل هذا ما يفسر خروج عديد من الروايات حول الهولوكوست في أفلام هوليوودية، من بينها رواية "معلمة الكتب" للروائية إلفريدي يلينيك أو إلفريدي يلينيكوفا، وهي روائية نمساوية ولدت في مورزوشلاغ بالقرب من غراتس عاصمة ولاية ستيريا في جنوب شرق النمسا، يوم 20 تشرين الثاني 1946 لأب يهودي تشيكي ناجٍ من معسكر أوشفيتز بيركينو الألماني النازي وأم كاثوليكية ألمانية، ورواية أو كتاب "قائمة شندلر" لتوماس كينلي الأسترالي من أصول إيرلندية  الذي قابل مصادفة أحد الناجين من المحرقة، وزوده بحكاية شندلر والقائمة الأصلية، وهي الرواية التي تحوّلت إلى فيلم بذات العنوان من إخراج ستيفن سبيلبيرغ، وحازت كما الفيلم روايات عدة، وكذلك رواية "سارقة الكتب" للأسترالي لأبوين نمساوي وألمانية، ماركوس زوساك، وبات من أهم الأفلام حول المحرقة عالمياً، والقائمة تطول، ليس آخرها "القارئ" عن رواية للألماني برنارد شلينك.

أما الجهات الإنتاجية الرسمية وشبه الرسمية في إسرائيل، فقامت وتقوم بإنتاج عديد الأفلام المتكئة على روايات إسرائيلية، من أشهرها "قصة عن الحب والظلام" لعاموس عوز، و"عرب راقصون" لسيّد قشوع، و"بوفورت" لرون ليشيم، و"مطيّر الحمام" لإيلي عمير، و"الخاطبة" لعمير غوتفروند، والقائمة تطول، وهو ما يطرح سؤالاً حول دور الجهات الرسمية الفلسطينية ذات العلاقة في تعميم الإنتاج الأدبي الفلسطيني عبر بوابة السينما، خاصة أن المسرح الفلسطيني ما زال يواصل إنتاج مسرحيات تتكئ على روايات وكتب ومجموعات شعرية فلسطينية، من بينها "جدارية" محمود درويش، و"ذاكرة للنسيان" لدرويش نفسه، و"المتشائل" لإميل حبيبي، و"قناديل ملك الجليل" و"زمن الخيول البيضاء" لإبراهيم نصر الله، وغيرها الكثير.

وهنا أكد الفنان عامر خليل، مدير المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي) في حديث خاص: تحويل الروايات ومعالجتها وإظهارها على الشاشة بحاجة إلى تقنيات ليست سهلة كما هو الحال في المسرح، علاوة على ذلك فإن مستوى صناعة السينما، إن كان ثمة صناعة سينما في فلسطين، فإنه متواضع جداً، علاوة على تلك العقدة التي ترافق الفلسطيني في السينما، فهو المخرج والكاتب والمنتج والممثل، خاتماً حديثه الخاص بالقول: الإبداع الفني شخصي جداً وفردي، لكن الإنتاج الفني عمل جماعي، وهذا ما يجب علينا أن ندركه.