«ماليندي» لمحمد طرزي.. التاريخ والجغرافيا والخيال

2019-08-16 16:00:00

«ماليندي» لمحمد طرزي.. التاريخ والجغرافيا والخيال

دخل سيف الماليندي في التيه، ودخلت ماليندي فيه أيضًا، وسرعان ما تداعت الحضارة العربية وتراجعت بفراسخ عن المشهد العلمي والحضاري في الشمال والغرب. وكأن سيف لا يمثل نفسه فقط، بل استبطن الكاتب عبره، دلالات عميقة، ليصبح التأويل متاحًا، ويجري تفسير الشخصيات والعلامات إلى عمق تاريخي وقيمي، لا يقف عند حدود الحكاية والوقائع المروية.

في روايته الأحدث «ماليندي.. حكاية الحلم الإفريقي»، الصادرة في بيروت مؤخرًا عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"،  يواصل الروائي اللبناني الشاب محمد طرزي (١٩٨٣) الحفر في مشروعه السردي، الاستكشافي، لخلق قنوات فنية وأدبية، متصلة بموضوعه الشاغل: "التواجد العربي في شرق إفريقيا"، بعد روايتيه «جزر القرنفل» و «إفريقيا.. أناسٌ ليسوا مثلنا» جاءت «ماليندي» لتتمم الثلاثية، وترسم جانباً واضحاً من مشروع الكاتب.

اتكأ طرزي على ثلاثة مخطوطات نادرة، ليستشف منها القدر المتاح من حياة "سيف بن يوسف الماليندي"، هي: «خزينة الأسرار في قواعد علم البحار» للبحار العربي أحمد بن ماجد (١٤٢١ - ١٥٠٠)، و «الحروب الصليبية كما لم يرها العرب» لقاضي القضاة أبو منصور الصقري، و «مذكرات موسى بن عطّار» من عرب غرناطة. وماليندي، مدينة ساحلية وميناء رئيسي يقع حاليًا في دولة كينيا بالساحل الشرقي لإفريقيا، وهي المحطة الأخيرة التي أبحرت منها سفن المملكة البرتغالية بقيادة فاسكو دي غاما قاصدة ميناء كاليكوتا الهندي، عابرين ممراً ملاحياً جديداً، في ذلك الوقت في نهايات القرن السادس عشر. اكتشافه أدى بشكل تدريجي إلى سحب البساط من تحت أقدام الملاحين العرب، واستغناء السفن التجارية القادمة من أوروبا إلى آسيا عبر رأس الرجال الصالح، عن خدمات غالبية الموانئ العربية، وقلّصت أهمية طريق الحرير الشهير، الممر التجاري الأكبر في العالم، والذي جعل كل مدينة تقع على جانبيه، حاضرة مزدهرة مستقرة اقتصاديًا ومنفتحة ثقافيًا على تجار من جنسيات مختلفة وبضائع ومصنوعات تنتمي لثقافات وحضارات متنوعة.

«ماليندي»، الواقعة في ٢٦٣ صفحة، تنبني على خط زمني تصاعدي، خط كرونولوجي يسير إلى الأمام، يتهادى أحيانًا ويقفز أحيانًا، بتقطيعات سردية تحدد مسار الحكاية وتشذبه. وتُحكى عبر راوٍ عليم، بضمير الـ "هو"، مع مساحات واسعة من الحوار، تمسرح الأحداث وتجّذر الشخصيات وتحقن النص بالدراما. وتتدحرج الأحداث عبر تفاعلات التاريخ والجغرافيا، إذ تتبنى «ماليندي» الفرضية الفنية التالية: "الرواية الجيدة.. جغرافية جيدة" أو هي كذلك في أحد أوجهها على الأقل، وتتجلى النزعة الجغرافية، عندما تبرز خريطة في منتصف النص، خريطة نادرة رسمها ابن ماجد لفاسكو دي غاما وحدد موقع سفنهم في الممر الملاحي في عرض المحيط الهندي.

يشكل الرافد المعرفي، واحدًا من المساعي الفنية في الرواية، إذ بخلاف هذا الزخم التاريخي، هناك شذرات واضحة وعميقة متعلقة بعلم البحار، الشطرنج، الأنثروبولوجي وغيرها من الحقول المعرفية التي ترفد النص وتصنع تفاصيله الصغيرة.

يرسم محمد طرزي الحياة اليومية في إمارة ماليندي العربية، ببراعة، لا براعة المتبحر في التاريخ فقط، بل وبراعة العارف بالجغرافيا أيضًا، مستغلاً معرفته المتعمقة بدول شرق والجنوب الشرقي لإفريقيا بفضل سنوات من العمل والإقامة في تلك البلدان البعيدة. ضفّر طرزي الرافدين التاريخي والجغرافي، وجدلهما بالخيال، الذي سد به الفجوات الواضحة في الأصل التاريخي لسيرة سيف الماليندي. وهي فجوات ليست بالقليلة، نظرًا لشح المادة المخطوطة عنه، لذلك اختار الكاتب أن يملأ تلك الفجوات، ويسدها بالخيال، فخلق التفاصيل، والمفردات المحيطة بحياة سيف، منها مثلاً قصة الحب الحزينة مع رفقة بنت الوزير مطيع اليهودي. وصديق سيف، ابن زعيم قبائل الجيبانا، والزعيم لاحقًا، وحيد الأشول، الإفريقي القوي.

تخوض إمارة ماليندي، حربًا طويلة مع مملكة منبسي "مومباسا"، في فترة تضطرب فيها إفريقيا والعالم كله بتغيرات تفور على الخريطة، ممالك تنقسم وأخرى تتوحد وغيرها يتعرض للاحتلال، حروب ومعاهدات سلام وقوافل تجارية برية وبحرية. في البداية تميل الكفة لصالح منبسي، وتنجح في احتلال ماليندي، لعدة أيام فقط، إذ سرعان ما تنتفض المقاومة وتطرد المنبسيين. لتنهض ماليندي، على أكتاف زعيمها العربي مروان الماليندي، ومن بعده ابنه يوسف، والد سيف، الذي يخسر حكمه بعد أن وافق على مقايضة رخيصة، فأجبر أحمد بن ماجد على مرافقة فاسكو دي غاما إلى الهند لاكتشاف الطريق الذي سيغير موازين القوى بين العرب والإفرنج، مقابل عشرة بنادق باعها له مفاوض يهودي يمثل مصالح البرتغال، وظن شيخ ماليندي أن تلك البنادق ستعينه لينتصر على منبسي وليثأر لمروان ابنه البكر الذي قُتِل في إحدى المعارك بين الفريقين. لم يدر في خلده أن البرتغاليين سيبيعون في السر نفس السلاح للمنبسيين، فلم يظفر من الصفقة إلا بنصر سريع وقصير أعقبته هزيمة فادحة. لم تكن هي الهزيمة الوحيدة التي جناها الشيخ، كانت الهزيمة الأخرى، متمثلة في إجباره على تسليم ابنه يوسف كرهينة برفقة السفن البرتغالية المتجهة للهند. لضمان الولاء. لكن الصفقة لم تؤتِ أكلها في أي شيء، بل خسر الشيخ ابنه لعشرين سنة، إذ بيع في الهند كبضاعة رخيصة وانتهى به الحال محتجزًا في معبد هندوسي لعقدين، كخادم للمعبد والرهبان.

دخل سيف الماليندي في التيه، ودخلت ماليندي فيه أيضًا، وسرعان ما تداعت الحضارة العربية وتراجعت بفراسخ عن المشهد العلمي والحضاري في الشمال والغرب. وكأن سيف لا يمثل نفسه فقط، بل استبطن الكاتب عبره، دلالات عميقة، ليصبح التأويل متاحًا، ويجري تفسير الشخصيات والعلامات إلى عمق تاريخي وقيمي، لا يقف عند حدود الحكاية والوقائع المروية.

كان لتنوع الجنسيات والثقافات المتداخلة في تلك العصور، وطفولة فكرة الدول بمعناها الحديث، وسذاجة فكرة الحدود، دور في ترصيع مسار الحكاية بتلك الأحجار الكريمة متباينة الأنواع، شخصيات تعترض حياة سيف، أحباش وفرس وصينيون وأفارقة وعرب من اليمن وعمان والحجاز وسواحل شرق إفريقيا ومصريون... الأمر الذي كان يجب أن ينعكس على اللغات واللهجات المختلفة ارتباطًا بالخلفية الثقافية والاجتماعية لكل منها على حدة، وربما يكون هذا المأخذ الوحيد على النص، إذ تتشابه لغات وأساليب الشخصيات -عبر الحوارات- ويتشابه معهم صوت الراوي العليم، فتتكرر المفردات والأساليب والصياغات على ألسنتهم جميعًا، أي أن ثمة أحادية تطغى على اللغة فتقلل وتكاد تلغي درجاتها وتشكيلاتها وأطيافها وتجلياتها، ولم يفلت من ذلك سوى صوتين، الأول هو الاقتباسات الموضوعة في مفتتح كل قسم من أقسام الرواية، وكلها منسوبة لأحمد بن ماجد، والثاني لشخصية ظهرت عرضًا أثناء رحلة عودة سيف الماليندي إلى وطنه بعد عشرين عامًا من الاغتراب والتيه، وذلك عندما قابل رجلًا مصريًا هو مالك السفينة التي ستعود بسيف من جدة إلى ماليندي، إذ طفحت الدارجة المصرية على الشخصية، وانعكست فورًا بشكل فعال نجح في إكساب الشخصية الروائية ثقلاً واضحًا.

لا يجد سيف في ماليندي أي شيء من وطن صباه، وسرعان ما يتلاشى في الزحام والسنين، يخفت، وتخفت المملكة، وتنتصر الخيانات والوشايات، ينهزم العرب وينتصر الأوربيون بمعاونة من الوزير اليهودي. هذه غمزة واضحة يسهل استخراجها من وراء السطور. لا تبقى في نهاية «ماليندي»، الرواية، والإمارة، سوى مرارة في الحلق، مرارة لا يزيحها سوى يقين القارئ بأن أحمد بن ماجد لم يكن خائنًا للعرب كما أشيع عنه، بل كان عالمًا فلكيًا وبحارًا وأديبًا ومخترعًا أُجبِر إجبارًا على خوض تلك الرحلة كملاح لفاسكو دي غاما، ويقين القارئ بأن هذه الرواية، تسعى ضمن مساعيها الفنية، والجمالية، والمعرفية، لإنصاف هذا المغبون العربي الذي لم يقل أحدٌ عنه قولة حق إلا بعد مرور أربعة قرون على رحيله، حتى باتت الدول العربية الآن تتنازع نسبه إلى نفسها.