أول وطأة قدم لي في بيروت

2019-08-07 12:00:00

أول وطأة قدم لي في بيروت
من معرض

وفي اليوم الأخير لي في بيروت تمكنت من الجلوس مقابل البحر لفترة طويلة، فأنا لم أرَ البحر لسنوات، فقد سرقوا بحرنا حقاً، وحاولت تذكر قصص جدي عن البحر وكل القصص التي عرفتها عن أمواج البحر والسفن والحوريات، فلا أدري متى أراه مجدداً.

في أول مرة أزور فيها بيروت، مدينة الفن والجمال والتناقضات التي ترسو على البحر الأبيض المتوسط تماماً كمدينة يافا حيث عاش جدي في سنوات الأربعينيات. قبل النكبة عمل جدي في ميناء يافا ورأى أم كلثوم في حفل لها هناك، حكى لي القصة أكثر من مرة. فقدمت من فلسطين عبر الأردن إلى لبنان للمشاركة في مهرجان "كرامة لحقوق الإنسان"، الذي يسلط الضوء على أفلام ترفض العنصرية وخطاب الكراهية والتمييز والظلم، ولأن كلّ دورة من دوراته السابقة تحمل شعارًا مختلفًا، فكان شعاره لهذه السنة "تكلم معها" ويقصد به الحوار مع المرأة والحوار لتغيير عنصرية المجتمع الذكوري ضد المرأة، حيث تعاني النساء والفتيات التمييز والعنف في مناطق كثيرة في العالم وتحديداً الدول العربية.

وعند وصولي الفندق كان لا بد من قسط من الراحة بعد يوم سفر طويل شاق يشوبه الشعور بالدونية والألم لأني فلسطينية أمر من تفتيش مذل من قبل الاحتلال الصهيوني. لو كانوا يعلمون بأن هذا العالم يسير بمبدأ التبادلية بمعنى أن ما من ذرة من حب وعطاء أو ذرة من شر وبغض بلا تبادل للأدوار لما فعلوا ذلك بنا نحن الفلسطينيين. خرجت من الفندق وقصدت مقهى جذبني اسمه (تاء مربوطة) شعاره (ة). تساءلت إن كان يقصد صاحبه التعبير بهذا الأسم عن حقوق النساء، فالتاء في اللغة من علامات التأنيث.

أثناء المشي في شارع الحمرا وسط بيروت امتلكني شعور بقوة الجذب والحب من أول وطأة قدم، جميل شارع الحمرا لديه قدرة غير طبيعية على إعطاء الزائر الحيوية فلا تمل من النظر يميناً ويساراً للمحال التجارية والمتسوقين والجالسين على المقاهي، كما والنظر لفن الجرافيتي على الجدران، إحدى العمارات رسمت عليها جدارية كبيرة جداً للفنانة صباح باللون البنفسجي سرقت نظري لدقائق. بالرغم من الصراعات والحروب التي مرت على هذا البلد إلا أن فيه طاقة على إظهار الوجه الجميل للبنان. 

متحيزة زنا للمرأة، اعتقدت أن المطعم نسائي أو يقدم صورة مختلفة للمرأة فذهبت إليه، بلا شك، فإن التاء في العربية من علامات التأنيث، فهي تلحق بالاسم، فتغير دلالته من التذكير إلى التأنيث. فيعتقد العرب بأن "أصل الاسم أن يكون مذكراً، فإن التاء تدخل على الاسم فتغير دلالته من التذكير إلى التأنيث. برغم حبي للغة العربية إلا أنها لغة ذكورية، من قال إن أصل الأشياء مذكر؟

في وسط المقاهي التي كُتبت أسماؤها بالإنجليزية أو الفرنسية نتيجة تبعيتنا الفكرية والاقتصادية للغرب، هنالك مقهى عربي باسم عربي هو مطعم غير عادي، فيه كتب في كل مكان وفي الطابق العلوي مكتبة. يقال إنه مطعم الشيوعيين، فيه لوحات عرضت لفنانين تجعلك تتلمس الحس الفني والثقافي العالي، والناس هنا منهمكون بالكلام والحوارات، ليسوا مثل الأوروبيين كل في عالمه ويتحدثون بأصوات منخفضة بل على العكس، تتعالى الحوارات والضحكات، حاولت التقليل من انبهاري بكل شيء، حتى أني انبهرت بالأمور العادية التي أراها كل يوم في بيت لحم أو رام الله، الانبهار والفضول جزء من التجربة مع أني في العقد الثالث ويجدر بي أن أكون أكثر اتزاناً. فقد تمنيت أن أسير بين الطاولات لأسترق السمع لأحاديث الناس وأصادقهم وأن أرى اللوحات عن قرب وأن لا يكون هناك مكان واحد أجلس فيه. 

في اليوم الأول في بيروت لاحظت وجود انسجام تام بعكس ما نراه على شاشات التلفاز أو نقرأه على هواتفنا الذكية، لازلت في ساعاتي الأولى والانطباع الأول قد يكون زائفاً لدرجة كبيرة. وللبحث عن المعرفة والمعلومات الأكثر صدقًا كنت أسأل الناس التي أصادفها. ما الذي يدفع الناس للاقتتال؟  قيل لي بأنها طائفية وجهل وبحث عن المكاسب والكراسي وهو فساد مستشري، ومع ذلك شعرت بموجة من السعادة والأمل عندما رأيت الناس التي قدمت للمهرجان والنقاشات الثقافية الغنية التي تلت عرض الأفلام.

بالرغم من أن  شعار مهرجان "كرامة لحقوق الإنسان" هو "تكلم معها" إلا أن الحوار ما بين الطوائف والأجناس المختلفة على مر العصور كان يخلق سوء فهم، فأقوى معتقداتنا لربما يكون سببه سوء فهم، وأقوى الحروب نشأت نتيجة مشاكل كلامية. سمعت أحدهم يتحدث على الراديو وأنا في التاكسي بأنه "يكره الأحزاب لأنها تضع شعارات وقواعد يجب أن يظل الشخص من عامة الشعب مؤمناً بها، أما القيادات فتسرق وتنهب وتستغل الإنسان البسيط الذي يجب أن يظل متمسكاً بالمبادئ ويحارب الآخرين من أجلها". قواعد وشعارات الأحزاب وحتى المعتقدات الراسخة قد تتنافى أحيانًا مع طبيعة الإنسان المتغيرة، كل شيء من حولنا يتغير والأرض تدور ويتغير موقعنا في مواجهة الشمس، وبرغم كل ذلك مطلوب منا اتخاذ مواقف ثابتة جدًا ومتحيزة جدًا لأحزابنا وأدياننا.

سألت سائق التاكسي عن منطقة عرض المهرجان وهويتها واتجاهها في خارطة بيروت وهي "سينما ميتروبوليس، أمبير صوفيل"، فقال هي منطقة مسيحية في بيروت الشرقية في الأشرفية، حي راق إلى حد ما. قد يكون سؤالي هو الطائفي وليست الأجابة.

زرت مخيم برج البراجنة في اليوم التالي، وبلا شك أن الزيارة حملت الكثير من الصدمات والتساؤلات، على من تقع مسؤولية كون المخيم بهذا البؤس وانعدام الخدمات؟ قارنت بين مخيمات فلسطين ومخيمات لبنان، قد يكون هناك قواسم مشتركة كثيرة على رأسها اللجوء وانعدام الأفق وشح الخدمات وتقليصات وكالة الغوث، ولكن هنا الوضع أصعب بكثير، ثلاثون ألف إنسان يقطنون ١ كيلو متر مربع ولا يستطيعون العمل في ٧٢ مهنة بحسب القانون اللبناني. لا أحد يبحث عن حل لأزمتنا نحن اللاجئين قلت لشباب من الخيم، ابحثوا عن حلول فردية لا تنتظروا هنا هكذا. أعلام الأحزاب الفلسطينية وأسلاك الكهرباء تتقاطع مع  خراطيم المياه فوق الشوارع لتحجب الضوء.

صحيح بأن الواقع حزين ولكن من أحد مخيمات لبنان خرج ناجي العلي برسوماته، بلا شك أن لبنان بيئة ثقافية تحفز الأدب والفن، برغم وجود عنصرية من اليمين اللبناني ضد الفلسطينيين. فهناك نشر ناجي العلي أولى لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ومن بعد ذلك حمل القضية الفلسطينية بفنه بكل إيمان وخلق شخصية حنظلة الشهيرة وهو الطفل اللاجئ ذو العشر سنوات. أصبح ناجي ملهماً لفناني الكاريكاتير وحتى الجرافيتي. 

وأنا هنا أيضًا أشعر بهذه الطاقة الثقافية التي تشعها لبنان، قدمت فيلمي «جدران المخيم» الذي يسلط الضوء على الجرافيتي والكتابة على الجدران في المخيمات الفلسطينية وتحديداً في مخيم الدهيشة الذي نشأت فيه. وتلا عرض فيلمي نقاش حول الثقافة والسينما والحياة في فلسطين وتحدثت عن تجربتي كمخرجة أفلام فلسطينية، كما وشاهدت أفلاماً كانت ضمن عروض المهرجان تتحدث عن حقوق الخادمات «خادمة في الجحيم» من الدنمارك، وفيلم «الحبل السري» عن امرأة تلد في أثناء ظروف الحرب ومنع التجوال القاهرة في سوريا، وفيلم «خيمة ٥٦» يتحدث عن اللاجئين السوريين في لبنان وانعدام الحقوق الأساسية ومن بينها الحقوق الجنسية. فتنوعت الأفلام واختلفت الموضوعات واتفقت حول قضايا المرأة وحقوقها في مجتمعات وثقافات عديدة. مؤكدين على أنّ العلاقات الإنتاجية في الحياة المعاصرة لم تعد تقوم على النوع الجنسي، إذ أصبح العمل يقوم على التفرّد الذاتي، بعد الانتقال إلى الاقتصاد المعرفي. لكن المجتمعات العربية لا تزال متخلفة عن العصر، في ضعف الإنتاج والفساد، وقد تكون عدم المساواة المجتمعية أحد الأسباب الأساسية لهذا كلّه.

ستفهم أنك في بيروت حين تحتار في أي اتجاه تود الذهاب، لمعرض أم لمسرح أم لندوة ثقافية أم لحفلة في منتصف الليل. والأفضل ألا تفكر كثيراً وأن تدع الأقدار تسير بك إلى حيث يجدر بك الذهاب؛ فالتقيت المخرجة مي المصري التي يجمعني بها صداقة تاريخية، وذهبنا إلى معرض «الوطن العائم» في مركز ثقافي يدعى "دار النمر"، هو معرض مشترك لفؤاد الخوري وجيريمي بيكوك. عند الاستقبال هنالك سيدة لبنانية تحدثت إلينا بالفرنسية متظاهرة بالرقي والثقافة العالية، تجولنا في المعرض الذي يحكي بالصور الفوتوغرافية عن رحيل الفلسطينيين من بيروت في العام ١٩٨٢، فأنا وهي فلسطينيتان في لبنان ويجذبنا أيضاً ما له علاقة بالفلسطينيين في لبنان، وبيروت التي في وجداننا لا تكتمل إلا بذاكرتها الفلسطينية. فلسطين بثورتها مرّت من هنا، صحيح أن الصور ساكنة لكنها تحمل في طياتها حرباً عارمة أكلت ما أكلت. قرأت عن الحرب التي عصفت بلبنان والمنطقة فصحيح أن التاريخ يشوبه بعض الكذب والتزوير إلا أن هذه الصور لا تكذب، قد تختصر أو تأخذ زاوية من الأحداث دون غيرها، قد تمتنع عن إظهار أمور ما ولكن لا تكذب. صور فيها الكثير من الألم والكثير من الحنين في آن واحد، هل يحن الإنسان إلى الوجع؟ وأفكاري تسرح وتتخيل الماضي الذي لم أعشه، تقول لي مي المصري التي عايشت الحرب وغطت أحداثها وأنتجت أفلاماً عنها من بينها فيلم «بيروت - جيل الحرب» تصف لي القصف ومنع التجول والمحاربين. 

يقول محمود درويش عن بيروت "بيروت لا تعطي لتأخذ... أنت بيروت التي تعطي لتعطي ثم تسأم من ذراعيها". ولقد سجل الخروج الفلسطيني من بيروت نقطة تحول في التجربة الفلسطينية برغم عطاء بيروت، عندما غادر ياسر عرفات وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية على متن الباخرة "أتلانتيس" وعن هذا الرحيل وما سبقه من دمار كان المعرض.

وفي اليوم الأخير لي في بيروت تمكنت من الجلوس مقابل البحر لفترة طويلة، فأنا لم أرَ البحر لسنوات، فقد سرقوا بحرنا حقاً، وحاولت تذكر قصص جدي عن البحر وكل القصص التي عرفتها عن أمواج البحر والسفن والحوريات، فلا أدري متى أراه مجدداً.