تشاك بولانيك... صورة مخرّب

2019-08-03 13:00:00

تشاك بولانيك... صورة مخرّب

امرأة تقضم مؤخرتها، أطفال يقنعون ربّات البيوت بمضاجعتهم، رجال مقنّعون بهيئات نساء يضرب الواحد منهم الآخر ويربحون المال، شخوص تَقتل وتُقتل في مناخ سرديّ يبعث على الضّحك. بولانيك يشفق على الرجال، يتعاطف معهم، يقوّض صورة الذّكر الماتشو بتأصيله سردًا، ويذهب بعيدًا في توصيف رجال يمارسون العنف. 

"لا تتكلم أبداً عن نادي القتال، لا تتكلم أبداً عن نادي القتال. عندما يستسلم أحد المتبارزين يتوقّف القتال، رجلان فقط يتقاتلان في كلّ قتال. القتال بلا قمصان أو أحذية. القتال يستمرّ ما شاء من وقت. إذا كانت هذه المرة الأولى لك في نادي القتال فيجب عليكَ أن تقاتل." (رواية «نادي القتال»)

تلك قوانين القتال في نادي القتال الذي يؤسّسه البطل تايلر ديردن والراوي المجهول في أقبية الحانات تنفيسًا عن متلازمة الغضب التي يعيشها ديردن وكردّة فعلٍ على عالمٍ خنقه الاستهلاك ووصمته الأكاذيب والإخفاقات في التواصل مع الآخرين. تايلر ديردن الذي لا يعرف حدودًا لشيء، لا قوانين ولا عثرات تقف في طريقه في عالم وجوديّ يصنّع الوثنيّة الجديدة والفيتيشيّة بحثًا عن المعنى وهربًا من ضجر الامتلاء بالأشياء. وهنا تدخل نظرة بولانيك للأشياء، حيث تصبح الحقيقة هي الكذبة الأصيلة الوحيدة، والحريّة هي أن تفقد الأمل وكلّ أغراضك وتعترف بأنّ الله يكرهك وبالرغم من ذلك فالأمر ليس بشعًا كما نظن. نحن أمام روائيّ مغاير، روائي "فانكي"، تطلع من كتاباته رائحة المجاري التي تقضي على أمعاء المتلقّي، وكلّما غلبت الراحة وخنقت، كلّما شعر الكاتب بالرضا والسعادة، لأنّه يدرك أنّه بهذه الرائحة يعيدُ ترميم المدمّر، ويصلح الذكورة المهشّمة والمخصية التي يُشفق عليها، والتي تقبع تحت احتلال النظام الاجتماعيّ الأوحد حيث الجميع بلا خصيّ، على حدّ قوله.  

تشاك بولانيك روائيّ وصحفيّ أمريكيّ (1962-)، ألّف ما يربو على عشرين مؤلّفًا أدبيًا، أكثرها شهرةً روايته «نادي القتال» المنشورة عام 1996- وقد تحوّلت لاحقًا إلى فيلم سينمائيّ هامّ من بطولة براد بيت، يحمل نفس العنوان، وروايته ذات الخمس عشرة قصّة «المسكونون» (2005) حيث كلّ قصّة شبحٌ مرعب في انتظار القارئ ترويه شخوص زورانيّة، ومن قبلها «الناجي» (1999)، ومجموعة مقالاته «حكايات أغرب من الخيال»، و «نهارٌ سويّ»،  وكتابه «وحوش خفيّة» (1999) الذي كان أول مخطوط يرسله تشاك إلى الناشرين ويقابل بالرفض المتواصل رغم إعجابهم به، احترازًا من تبنّي كتاب صادم وحكاية كلّها التواءات. يتمخّض هذا الرفض عن كتابة روايته الأهمّ «نادي القتال» التي كشفَت وقتها عن الضائقة الروحيّة التي يمرّ بها الإنسان الأمريكيّ في ظلّ خلخلة العلاقات الاجتماعيّة، والبحث عن بديل لهذا الخصاء بالتجمّع في نادي القتال الذي ينجح في أن يكون حلبة اللقاء والتواصل، على عكس كلّ ما هو خارج هذه الدفيئة الدموية. ولعلّ الآيكون الأدبيّ الجديد، الرّجل المثليّ والأنيق والناعم، بولانيك، يفعل ما سبقه إليه آخرون، على طريقته التخريبية المرعبة والهاتكة التي لا تساوم: أن يطحن ويفتت الحلم الأمريكيّ الذي حوّل حياة الجميع إلى أغراض جميلة وغبيّة تُشترى وتُباع مثل بضاعة إيكيا، من خلال الرّسم الحيوانيّ للكائن البشريّ، فالحيوانيّة هي الجزء الأنقى والأصدق للإنسان، وتشاك أدركَ الأمر منذ أن خاضَ الكتابة في سنّ الثلاثين.
 


"نحن مستهلكون. نحن المنتجات الثانوية لهوس نمط الحياة. القتل والجريمة والفقر - أشياء لا تهمّني. ما يهمني هو مجلات المشاهير، والتلفزيون ذي الـ 500 محطّة، واسم أحد الرجال على ملابسي الداخلية." هكذا يلخّص بولانيك على لسان الراوي الشابّ سر قلق وضجر الإنسان العصريّ السّاقط في عالم العبوديّة المؤنّقة، عبوديّة الإعجاب بالكيتش وهوس شراء المنتجات من كتالوجات إيكيا وشركات التصنيع الكبرى."

ويبدو أن بولانيك لا يحتاج إلى قرّاء من النّوع الكلاسيكيّ الذي يبحث عن سردٍ ناعم.. فهو يروم قلب المعدات والسّطو على نفوس القراء والتهام قلوبهم.. يبحث عن الأثر الذي يخلّفه الغبار في سرده الغريب، العنيف، الشعريّ الحادّ، ليصلَ في النهاية إلى صورة مشوّهة تشوّه المشوّه في أصله وتُحقّق بشكل أو بآخر أثرًا في نفس القارئ. وتبدو الشعرية الفنيّة أو الـ  ars poetica في نصوصه القصصيّة تخاطب نرجسيّة الكاتب الذي يتمتّع بموهبة رصف التوصيفات والتطرّف في شفط أحداث واقعيّة ثمّ قذفها على الورق بجرعات من التحريف المتطرّف المتعمّد، ومن ثم إعادة رصفها في صور متتالية سامة على شاشات السينما.

نحن إذن أمام كاتب أسود، شعريّ السرديّة ساخر الأسلوب نابيّ الرؤية، ثمرة هجينة سقطت علينا من جيوب وليام بوروز، مثخنة بميزانتروبيا خلاقة، وفي كلّ ركن ترصده عين الكاتب تجد عوالم الإخفاق والفشل والتهميش كمثيرات طبيعيّة للعنف والضياع داخل الواقع الأمريكيّ الذي احتلّته النظريّة الاستهلاكيّة وفرضت قدسيّتها. إشراط بافلوفيّ يربط بين الباطن والخارج، بين الفعل وردّة الفعل.. ليغدو الروائيّ راقصًا حاذقًا يلعب في ساحات الغروتيسك، الكوميديّ، المشوّه، المرعب، العنيف، الوجوديّ، التّافه، السّخيف، الهازل، الأسود، الأبيض.. ينجح في تعريض كلابه لرنين الجرس واستثارة غرائزهم مهيئًا لهم وللقراء المناخ لذلك. 

كتابة بولانيك معادلة جبريّة مختلفة، تلامس العمق بقدر ملامستها السّطح، يكتب بوعيٍ بالقارئ، يجامله أحياناً كثيرة بسرده الخلاب، لا يفسّر ولا يحلّل ولا يغوص عميقًا في نفوس الشخصيّات أحيانًا أخرى، يتركنا أمامها في مشاهد سينمائيّة شعريّة صادمة، يرمينا في بحرها لنتعلّم الغوص أو الغرق، وإن كانت في بعض الأحيان زائدة عن اللزوم إلى حدّ التكلّف مثل كلّ صناعة أمريكيّة في نهاية المطاف. 

ولعلّه مختلف أيضًا في تعدّديته بقدر اختلافه حتّى في لفظ اسمه، إذ يروي حكاية اسم عائلته ذي الأصول الأوكرانيّة ولفظها متعدّد الخيارات بقرار جدّه وجدّته بأن ينطق الاسم كمزيجٍ من اسميهما، بولا ونيك، ليتحوّل لفظ العائلة من بالانيوك إلى بولانيك. وقد تكون لحظة العنف الأولى التي يتنفّسها الكاتب بعد انفصال الوالدين هي لحظة إطلاق جدّه النار على جدّته وقتلها بعد جدال يدور بينهما حول تكلفة ثمن ماكينة خياطة. يبدو الأمر مجنونًا، وعبثيًا وواقعيًا إلى حدّ يبعث على الضّحك ربّما، وقد كان فرِد، والد تشاك، المقتول هو أيضًا بيد صديقته في عام 1999، في الثالثة من عمره يراقب من تحت السرير ما يحدث فيما نيك يجول في البيت باحثًا ربّما عن ضحايا آخرين يلتهمهم قبل أن يوجّه المسدس نحو نفسه.  

بولانيك، الذي عمل ميكانيكيّا في بداياته، ومتطوّعًا في دور رعاية مرضى الإيدز والسرطان، والذي لم يتخذ قرار الكتابة إلا في منتصف الثلاثينات من عمره، يكتب عن الصّنم الاستهلاكيّ الكانيبالي لمحيطه الأميركيّ، مثل ميكانيكيّ يمارس مهنته بذكاء وإن أخفق أحيانا، وبقبضة الهوليغاني العنيف يهوي على بيئته بنفس القدر الذي تمارس فيه هذه البيئة عنفها على الآخرين.. لينكشف كلّ شيء أمامنا، حتّى بسطحيّته ونفاقه الناعم للقراء أحيانا وهروبه، ربما المتعمّد، من الإيغال في بواطن الشخوص وبواطن الظواهر.

سرد بالانيوك/بولانيك/بالانيك مختلف وجديد ومستنفد ومشوّه وعميق وسطحيّ وبصريّ وشعريّ ونثريّ وسميك وتخريبي، باغض للبشريّة ومؤرّق وخادش. ولعلّ هذا الخليط المهجّن (تماماً مثل هويّته المهجّنة والهجينة) ما تجعل من نصوصه أدبًا جديرًا بتحويله إلى سينما تستقطب الناس، وربما هي نفسها الخصلة التي يبدو أنها ملأت الروائي حد السطحية في بعض أعماله.

امرأة تقضم مؤخرتها، أطفال يقنعون ربّات البيوت بمضاجعتهم، رجال مقنّعون بهيئات نساء يضرب الواحد منهم الآخر ويربحون المال، شخوص تَقتل وتُقتل في مناخ سرديّ يبعث على الضّحك. بولانيك يشفق على الرجال، يتعاطف معهم، يقوّض صورة الذّكر الماتشو بتأصيله سردًا، ويذهب بعيدًا في توصيف رجال يمارسون العنف. 

 

عن هذه العوالم يتحدّث بولانيك في أول حواراته الموثقة في ربيع عام 1996.