«أرواح صخرات العسل»... حكاية التمرد على الطاعة

2019-07-24 11:00:00

«أرواح صخرات العسل»... حكاية التمرد على الطاعة

لكن الأسلوب الشيّق الذي أتبعه الكاتب في عرض القصة بأكثر من وجهة نظر، والتشكيك في حدوثها من عدمه، تزيد عند القارئ الفضول والتفكير، والحكم على الشخصيات ومصائرها، ومن ثم التعاطف، من غير أن يكون هناك إملاءات أو أحكام جاهزة على الشخصيات وعلى الأحداث التي تجري، من قبل الرواة  داخل النص.  

ليس من السهل، على "الفن الروائي" تحديداً، أن يستقبل حدثاً آنياً، كـ" الثورة" مثلاً، وينتج من خلاله عملاً روائياً متميزاً. هذا يحتاج إلى ثورة في الكتابة الروائية، إن جاز التعبير. كما أن الفن الروائي وتقنياته القديمة والحديثة، على مستوى الشكل، والأسلوب، واللغة، لا يتحمل ثورة "عفوية" -في الكتابة- كما يجري في الواقع، بل يحتاج إلى ثورة، مخطط لها مسبقاً.

ويبدو أن النتاج الأدبي السوري اليوم، لا يقل تشظياً عن مشهد الحياة في سوريا بعد الثورة السورية، وما تلاها من قتل وتدمير، ونتائج مأسويّة على البشر والحجر. عملية التشظي هذه، رأيناها عبر تجارب مربكة على مستوى الشكل تارة، وعلى مستوى المضمون تارة أخرى، وعلى مستوى هيمنة الحدث؛ كان حاضراً وجاثماً فوق قلوب الساردين. وكأن هنالك رعب من أن تسبق أدواتُ القتل الفتاكة، بمحو تاريخ البشر والمكان، وإعادة كتابته من فوق. بينما ذاكرة الكاتب تلهث وراء التفاصيل التي بإمكانها محاولة نبش قبور ضحايا، تم دفنهم على عجل، أو هاجروا مع حكاياتهم وأحزانهم وآلامهم، أو أختطفتهم أيادي "الأمن" إلى غياهب السجون والمعتقلات إلى أجل غير مسمى. 

لكن الروائي السوري ممدوح عزام (١٩٥٠)، في روايته «أرواح صخرات العسل»،(سرد للنشر، ٢٠١٨)، يضعنا أمام نص روائي قائم على خط زمني عام، وهو ببساطة، العودة للزمن إلى الوراء قليلاً، ومن ثم التقدم نحو اللحظة الأشد ظلاماً التي تمر في سوريا، وتأثير الثورة، ومن بعدها الحرب، على مصائر شخصيات الرواية. وما يميز كتابة ممدوح عزام، في هذه الرواية، هي أنه جعل جزءاً من تاريخ سوريا امتدادًا للحدث، أو حدثاً فوق الحدث الآني، من خلال سرد تاريخ أبطال الرواية، والذي ماتوا في منتصف العشرين من عمرهم.

 وكأن أحد تكوينات العمل الروائي الذي يخاطر في تناول حدث آني، لا يمكنه الاعتراف في الحدث الآني بوصفه مفصولًا عن الزمن الذي قبله، والاكتفاء به، بل هناك حقبة تاريخية بأكملها، هي من صنعت هذا الانفجار/الحدث، ويجب استعادته، لا بوصفه خلفية للحدث الآني، بل باستنهاضه، وإخراجه من مكانه الخامل في الذاكرة الجمعية، وسرده، بوصفه جزءاً لا يتجزأ من اللحظة الراهنة. 

تحكي الرواية قصة ثلاثة شبان، عابد، وحامد وخالد. والثلاثة ماتوا في زمن الثورة والحرب، رغم أنه لم يكن لديهم موقف سياسي، كأنهم قد آثروا الصمت والحياد. ولا تكتفي الحكاية، في سرد كيف انتهت حياتهم، بشكل مأسوي، بل الرواية قائمة على صداقة هؤلاء الثلاثة منذ أيام الطفولة، وإخلاصهم لبعضهم البعض، وكيف كانت تلك الصداقة، بنقائها، وبراءتها، تهدد شكلاً سائدًا من أشكال الحياة، وكيف حافظوا على هذه القيم، التي ولدت معهم بالفطرة، من دون أن يجري تلويثها أو إنهاؤها، رغم محاولات تحطيمها من المجتمع الأبوي، والسلطة المتمثلة في المدرسة، ونمط التعليم، وشخصية المدير، والمعلم، ورئيس الحزب. 

كما تخلو الرواية من إشارات واضحة إلى النظام الدكتاتوري الذي حكم البلاد على مدار زمن طويل، بشكل مباشر، لكن شخصية الطاغية، كانت متمثلة في تكاثر روح الحاكم المستبد والفاسد، القامع لشعبه، من خلال منظومة التعليم، المتمثلة بشخصية مدير المدرسة "برهان العلمي" في قرية "المنارة" وهي قرية ريفية تابعة لمدينة السويداء في سوريا، وكيف تتم عملية زرع الخوف والرعب داخل نفوس الأطفال، في المدرسة، إضافة إلى الآباء الحاقدين على أبنائهم، ويعبرون في تصرفاتهم وغضبهم عن كبت سلطوي، يفرغونه على زوجاتهم وأطفالهم، كمحسن الجوف والد عابد، الذي كان يمارس كل أشكال العنف والكراهية على ابنه، حتى خيل لعابد أن محسن ليس والده، وإنما الرجل الأنيق جميل الصخري الذي رآه مرة في حياته، عندما زارهم في البيت، والذي كان صديق والده أو تربطهما علاقة عمل: "إن وجود ذلك الرجل الغامض العجيب، الذي مسح رأسه بيده الدافئة، جعل عابد يدرك أن الله أرسله إلى هنا، لا لينقذه بحضوره، إذ لا يمكن لأحد أن يُضرَب في حضرته أبداً دون أن يتعرّض للتوبيخ، بل لأن وجوده يحرك في أعماقه فردوساً من البهجة". كما أن والد خالد لا يختلف كثيراً في بلادة مشاعره تجاه ابنه عن والد عابد: "قال خالد إن أباه سلّمه للمعلم في اليوم الأول للدراسة وهو يقول: " إلك اللحم وإلنا العظم". وفي تلك الأيام صار يظن أن المعلم سوف يأخذ ذات يوم لحم فخذه للشواء، أو لطبخ الفاصولياء."

كما يُتبع مرحلة الدراسة إجبار الشباب للانضمام إلى الحزب وإعلان الولاء المطلق له، لينتج عن عملية التدجين هذه، مجتمع خانع، مطأطأ الرأس، وفي حال الرفض، يكون المصير العقاب والتهميش، والحرمان من فرص العمل، وتكوين "مستقبل" ما، بعيداً عن الفقر والجوع والحاجة. 

تتفتح قصص المجتمع بأكملها داخل الرواية والتي تظهر أن هنالك أجيال مهزومة، وأجيال شابة يراد ترويضها من الطفولة، وقبول كل أشكال الطاعة. 

منظومة تعليم، لا تؤمن بالتعليم، ولا تؤمن بالإنسان حتى، إنما تقتلع من منهجها التعليمي مصطلح "التعليم" ذاته، وتستبدله بـ" التربية". هناك مهمة بـ"تربية" هذا الجيل، وتأديبه. وتظل عبارة " العصا لمن عصى"، هي النبع، الذي تسقى منها روح الكراهية. 

بينما الشبان الثلاثة، وبسبب الحب الذي في داخلهم، وتوقهم إلى حياة أفضل، يتعرضون للأذى والإهانة، والنبذ. كانت الصداقة المتينة، وحمايتهم لبعضهم البعض، وذهابهم إلى "صخرات العسل"، وقضاء الوقت في تأمل الطبيعة، وعزف الموسيقى. كما أن المرأة حاضرة في الرواية، بشخصيات متعددة، وكاشفة لنظرة المجتمع لها، وقمعه لها، وربما أكثر شخصية متمردة، كانت شخصية " حليمة" أم حامد، إمرأة  في منتصف الأربعين من عمرها، زوجها غائب طوال لوقت، لأسباب سفره إلى ليبيا والعمل هنا.

في الرواية ، تتعدد أصوات الرواة. الرواي العليم/ الكاتب، يتحول داخل الراوية إلى "صحافي استقصائي"، في حال جاز لنا استعارة هذا المصطلح من عالم الصحافة، ومن جانب آخر هو باحث عن القصة الحقيقية، أو الموضوعية، وهو يسائل روايين آخرين، وهما نائل الجوف، المقرب، والمطلع على كواليس حياة آل الجوف، الذي ينتمي إليها الشاب عابد. وأحمد الشايب، الذي كرس حياته لمعرفة أسرار الناس، في المنطقة، ممكن وصفه بـ" كاتب تقارير، أو مخبر إيجابي"، كما أنه لا يخبر أحد من أين أتى بالخبر السرّي، أو القصة الخفية التي لا يعرفها أحد. إنما يكتفي في القول، عندما يسأل من أين جاء بهذه المعلومات أو تلك بعبارة "لديّ مصادري". 

لكن الأسلوب الشيّق الذي أتبعه الكاتب في عرض القصة بأكثر من وجهة نظر، والتشكيك في حدوثها من عدمه، تزيد عند القارئ الفضول والتفكير، والحكم على الشخصيات ومصائرها، ومن ثم التعاطف، من غير أن يكون هناك إملاءات أو أحكام جاهزة على الشخصيات وعلى الأحداث التي تجري، من قبل الرواة  داخل النص.