أفلامٌ عربية في "كارلوفي فاري الـ54"... تمزّقات أفراد ومتاهات عيش

2019-07-15 13:00:00

أفلامٌ عربية في
لبنى آزابال في آدم

أفلام كهذه، المتفاوتة جماليًا في صناعتها واشتغالاتها، تستلّ حكاياتها من وقائع العيش في مناخ مضطرب، وفي يوميات مرتبكة، وتروي فصولاً من مسارات أفراد ومصائرهم.

ـ 1 ـ

يزداد انفتاح "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" (جمهورية تشيكيا) على السينما العربية. دورةٌ تلو أخرى، تشارك أفلامٌ عربية في مسابقات وبرامج. الرغبة في إتاحة المجال أمام العرب، للتواجد في المهرجان التشيكي الدولي، واضحةٌ، كوضوح الرغبة في تفعيل تواصل بين ضيوف المهرجان وروّاده، وتلك السينما. الدورة الـ54، المُقامة بين 28 يونيو/حزيران و6 يوليو/تموز 2019، غير مكتفية بأفلام عربية حديثة الإنتاج (وإنْ يكن عددها قليلاً)، تُعرض في برامج مختلفة، فهناك أيضًا تكريمٌ للمخرج المصري يوسف شاهين (1926 ـ 2008)، بعرض 11 فيلمًا روائيًا طويلاً له، معظمها مُرمّم حديثًا، مُختارة من مراحل وأساليب وهموم عديدة.

الاحتفال التشيكي بالسينما العربية مُثير للاهتمام. مشاهدون يملأون صالات العروض المختلفة لكلّ فيلم، ما يعكس توقًا إلى اكتشافِ جديدٍ وقديمٍ مصنوعَين في دولٍ غير معروفة سينماها بالنسبة إليهم. امتلاء الصالات في أكثر من عرضٍ واحد لكلّ فيلم (هناك 3 عروض على الأقلّ لكلّ فيلم) دليلٌ على حماسة المُشاهدة، وإنْ تختلف الآراء لاحقًا، فلكلّ مُشَاهد مزاجه وهوسه وانفعالاته وثقافته ووعيه المعرفيّ إزاء كلّ فيلم. التصفيق إشارة إلى اهتمام وإعجاب، لكن الرأي النقدي للمُشاهِد غير متوافق دائمًا مع حماسة اللحظة الأولى للمُشاهدة.

هذا عاديّ. العلاقة بين مُشاهدين أجانب وأفلام عربية تخضع لأمزجة عديدة، لعلّ أبرزها "حبّ الاطّلاع والمعرفة"، خصوصًا في لحظة تاريخية تشهدها القارة العجوز حاليًا، في مسألة الهجرات العربية والإفريقية الكثيرة، أو بسبب ما تشهده الجغرافيا العربية نفسها من اضطرابات وارتباكات ومنعطفات، فإذْ بمُشاهدين عديدين يعتبرون السينما أفضل وسيلة للتواصل مع تلك الجغرافيا، ولفهم جوانب من حالاتها، ماضيًا وحاضرًا، بعيدًا عن جفافية الأخبار.

علاء الدين الجمّ
 

ـ 2 ـ

إذًا، هناك حضور سينمائي عربيّ متواضع في "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الـ54". حضورٌ يطغى عليه نتاجٌ مغاربيّ (فيلمان مغربيان وفيلمان تونسي وجزائري، بإنتاجات مشتركة مع دول أوروبية وعربيّة)، بالإضافة إلى فيلمٍ سعوديّ واحد، بعنوان "آخر زيارة" لعبد المحسن الضبعان، المُشارك في مسابقة "شرق الغرب"، ثاني أهمّ برنامج بعد المسابقة الرسمية. البرنامجان الآخران لن يقلاّ أهمية عن هاتين المسابقتين: في "نظرة أخرى"، هناك "طلامس" (إنتاج مشترك بين تونس وفرنسا، 2019) للتونسي علاء الدين سليم، المعروض للمرة الأولى دوليًا في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، و"معجزة القدّيس المجهول" (إنتاج مشترك بين المغرب وفرنسا وقطر، 2019) للمغربيّ علاء الدين الجمّ، المُشارك في "أسبوع النقد" في الدورة نفسها للمهرجان نفسه. وفي برنامج "آفاق"، هناك "بابيشا" (إنتاج مشترك بين فرنسا والجزائر وبلجيكا وقطر، 2019) للجزائرية الفرنسية مونيا مدور، و"آدم" (إنتاج مشترك بين المغرب وفرنسا وبلجيكا، 2019) للمغربية مريم التوزاني.

هل يمكن إضافة "أبناء الدنمارك"، المُشارك في المسابقة الرسمية، إلى تلك اللائحة العربية في "كارلوفي فاري"؟ إنتاج الفيلم دنماركيّ. مخرجه، علاّوي سليم، مولود في كوبنهاغن عام 1987، لكنّ له جذر عائليّ متحدّر من العراق. موضوعه يحمل جانبًا عربيًا إسلاميًا، وإنْ مواربةً، فالصراع، الذي يتناوله الفيلم، قائمٌ بين تشدّدين فكريين وإيديولوجيين ودينيين، دنماركي يميني متطرّف وإسلاميّ متزمّت. رغم هذا، فإنّ جنسية الجهة الإنتاجية الأساسية تحسم الانتماء الجغرافي لكلّ فيلمٍ، وإنْ يعاين مسائل وحالات تختلف هويتها عن جنسية تلك الجهة. علمًا أن "أبناء الدنمارك" مُشاركٌ باسم الدنمارك.

 مريم التوزاني
 

ـ 3 ـ

بعيدًا عن مسألة الهوية الإنتاجية، وبعيدًا عن "أبناء الدنمارك" أيضًا، تلتقي الأفلام الـ5 عند مسألة جوهرية: أزمة الفرد في مواجهة تحدّيات الراهن والجماعة، والتحوّلات الحاصلة في البيئة الاجتماعية، التي ينتمي الفرد إليها. 

تتّخذ الأزمة أشكالاً متنوّعة. مسارات أفرادها مختلفة تمامًا، لكنها منطلقة من نواة متشابهة. الاختلاف بينها يصل إلى درجة أنّ أحدها (طلامس) ينتقل إلى ما يُمكن وصفه بالفانتازيا، مع لقاء في الغابة يحصل بين الجندي أس (عبدالله المنياوي)، الهارب من المؤسّسة العسكرية، بالسيدة أف (سهير بن عمارة)، الراغبة في انعتاق من حصارِ زواجٍ وحَمَلٍ وبيئة ثرية، وانتقال حياتهما معًا من مدنيّة مُثقلة بخيبات ومواجع وتمزّقات وقلق وانكسارات وضياع، إلى عيشٍ في الطبيعة، باعتمادٍ مطلق على ما تمنحه الطبيعة من مواد وأدوات، كأنّها عودة إلى الأصل البشريّ في مواجهة عنف الحضارة، وبشاعة الواقع، وقسوة الحياة الآنيّة.

وإذْ تحضر الفانتازيا، وإنْ بشكلٍ مُخفّف وموارب، في "معجزة القدّيس المجهول"، فإنّ الواقعية (القاسية غالبًا) حاضرة بفعالية أكبر في "بابيشا" و"آدم" و"آخر زيارة". وإذْ يتشابه "بابيشا" و"آخر زيارة" في مواجهة (تختلف حدّة إحداها عن حدّة الأخرى) صرامة التشدّد الديني، المنعكس تشدّدًا اجتماعيًا وارتباكًا نفسيًا؛ فإنّ "آدم" ينحو باتّجاه تعرية مصائب امرأتين في اضطراب يومياتهما، فتحاولان خلاصًا من ضيق العيش في ماضٍ أو ذاكرة أو وجعٍ. وفي مقابل التوازن الدرامي والسردي والإنسانيّ بين الرجل والمرأة في واجهة المشهد وأعماقه المتنوّعة، في "طلامس"؛ فإنّ الواجهة والأعماق كلّها معقودة على المرأة، شابّة او أكبر سنًا، في "بابيشا" و"آدم"؛ بينما يحتلّ الرجل صدارة الحكاية ومساراتها في "معجزة القدّيس المجهول" و"آخر زيارة"، وفي هذا الأخير تغيب المرأة كلّيًا عن المشهد، مباشرةً وفي الخلفيات الدرامية والاجتماعية والحكائية أيضًا.

هذا غير معنيّ بالجندرة، أو بأي كلام يُفرّق بين المرأة والرجل. ملاحظة تعكس شيئًا من خصائص تلك الأفلام، ومحاولات مخرجيها (بينهم مخرجتان) البحث في شؤون الفرد وهواجسه، وفي مقارعة تحدّيات العيش في اجتماعٍ غارقٍ في نزاعاتٍ وأزمات وتبدّلات، وفي أحلام أفرادٍ يريدون خلاصًا أو راحة أو انتصارًا لحقٍ طبيعي في اتّخاذ قرارات الحياة والتفكير والعمل والتنقّل والتأمّل والانفعال. وإذْ تعاني المرأة تمزّقات عيشٍ في بيئتها، لأسبابٍ جمّة، فإنّ الرجل مُصابٌ، بدوره، بمآزق وارتباكات، فيحاول خروجًا منها بأقلّ الأضرار لبلوغ أمانٍ ما، وإنْ يكن هذا الأمان المطلوب أو المرغوب فيه ملتبسًا أو غير كامل.

علاء الدين سليم وسهير بن عمارة وعبدالله المنياوي
 

ـ 4 ـ

سينمائيًا، يتفرّد "طلامس" لعلاء الدين سليم بسماتٍ تجعله الأجمل بصريًا، والأعمق دراميًا. الجندي أس يتحمّل تراكمات قاسية في مؤسّسته العسكرية، لأسباب عديدة، تبلغ ذروتها مع انتحار زميل له في الثكنة القائمة وسط الصحراء. يغتنم فرصة إجازة تُمنح له بسبب وفاة والدته، فيفرّ إلى غابةٍ يبني فيها عالمًا خاصًا به، "تكتمل" مفرداته مع وصول السيدة أف، الحامل والمرتبكة في حملها وعلاقتها بزوجها الثريّ للغاية، والمنشغل عنها بأعمالٍ وصفقات وسفر.

محاولة عبد المحسن الضبعان في صُنع "آخر زيارة" جادّة. هذه محاولة نقدية هادئة لحالة متزمّتة في سلوك تربويّ، يتحمّل الابن مشقّاته وتبعاته وآثاره، فيتمرّد على والده، وعلى المحيط الاجتماعي المتكامل لوالده، وإنّ بصمتٍ وسلبيّة، غالبًا. أمّا نجمة (لينا الخضري)، في "بابيشا"، فتريد تحقيق حلمها بأنْ تُصبح مُصمّمة أزياء، في مناخٍ عابقٍ بتوتر واحتقان جرّاء اندلاع نزاع عنيفٍ بين أصوليي الجزائر والسلطة الحاكمة في تسعينيات القرن الـ20 (العشرية السوداء). اغتيال شقيقتها دافعٌ لها إلى تمسّك أعنف وأقسى وأحدّ برغباتها، مع أنّ رفضها الأصولية سابقٌ للاغتيال. وإذْ تغرق عبلة (لبنى آزابال) في حزنٍ ملتبس الأسباب والتفاصيل (والالتباس متوافق وحساسية اللحظة الدرامية الظاهرة في تسلسل أحداثٍ درامية متتالية) لرحيل زوجها، تاركًا معها ابنة وحيدة تُدعى وردة (دعاء بلخودة)؛ فإنّ سميرة (نسرين الراضي) تأتيها صدفة، حاملة في بطنها جنيناً تريد إجهاضه في الدار البيضاء، قبل أن تبدأ مع عبلة رحلة، نفسية وروحية وانفعالية، للخروج معًا من ورطة الانغلاق والشقاء والألم، قبل ولادة الجنين، والاحتفاظ به، وتسميته آدم، كأنّ نسرين تريد معه بداية عصرٍ جديد ومختلف (آدم).

مع السارق (يونس بواب)، في "معجزة القدّيس المجهول"، تتبدّل الأمور. إخفاء أموالٍ في بلدة ريفية، قبل أنْ يهرب من رجال الشرطة الذي يُطاردونه، تمهيدٌ لعودة لاحقة (بعد 10 أعوام) إلى البلدة نفسها، ليأخذ تلك الثروة. لكن بناء معبد لـ"القدّيس المجهول" مكان إخفائه المال دافعٌ له إلى خوض تجارب ومغامراتٍ، غير منزّهة كلّيًا عن انتقادات تتناول علاقاتٍ وانفعالاتٍ وتفاصيل حياتية، فتُعاين أهوال العيش في بيئة مُشبعة بالأساطير والأوهام والماورائيات.

التشدّد الديني ناهضٌ في جزائر التسعينيات الفائتة (بابيشا)، لكنه أصيل في تربية سعودية (آخر زيارة)، فينعكس على ارتباك العلاقة بين أبٍ وابنه. التشدّد الاجتماعيّ في مغربٍ يجتهد لخروج دائم من سطوة انغلاقات متعدّدة (آدم)، يعثر على مُرادف له في ثقل متنوّع الأشكال في تونس، يمتدّ من راهنٍ مضطرب إلى ماضٍ مرتبك (طلامس). أما اختلال الموازين بين واقع وأوهام، فيظهر في حكاية بسيطة عن مال ورغبات متواضعة، تنقلب إلى ما هو أعمق (معجزة القدّيس المجهول).

معجزة القديس المجهول
 

ـ 5 ـ

أفلام كهذه، المتفاوتة جماليًا في صناعتها واشتغالاتها، تستلّ حكاياتها من وقائع العيش في مناخ مضطرب، وفي يوميات مرتبكة، وتروي فصولاً من مسارات أفراد ومصائرهم.