جدلية الحلم والحكم في مسرحية "هالة والملك"

2019-07-03 15:00:00

جدلية الحلم والحكم في مسرحية
فيروز، من المسرحية

لا شك هنا أن الرحابنة يريدون إبلاغنا أن الحاكم يبقى دائمًا فاقدًا الحكمة ما دام قابعًا في قفص العرش الذي يحول بينه وبين الحلم، ولم يمتلك الحكمة إلا حين غيّر رداءه. 

في المسرح لا يتجسد الحلم على الخشبة كما يتجسد في الرواية أو القصة أو القصيدة، حيث تحمله الكلمات في سردها. الحلم في المسرحية يمشي أمامنا فنراه، وينطق ليخبرنا عن ذاته، ويصور لنا عوالمه من خلال جسد الممثل وصوته. هكذا كُتِب على المسرح أن يفعل، يجاهد ليقول لنا ما يريد، هو فن المصاعب. ويختلف المسرح عن الأدب المكتوب، تُدخلنا الكلمات في الحلم فنعيشه ونحمله لنحلمه بالضرورة. وكما أن "المسرح هو الأدب الذي يمشي"، كما عرفته مارجوري بولتون في كتابها "تشريح المسرحية"، (القاهرة، 1962)، يخرج لنا الحلم في المسرح ماشيًا. في مسرحية "هالة والملك"، للأخوين عاصي ومنصور الرحباني، نرى الحلم متجسدًا في شخصية "هالة"، وفي شخصية المتسول (شحاد المدينة) الذي خرج الحلم في صوته ومقارعته الحاكم بحكمته. وعلى الرغم من مضي سنوات طويلة على العرض الأول للمسرحية، إلا أن حوادثها تعطيها راهنيةً، تجعل المتلقي يخال أنها قد وُضِعَت لعصرنا لا لفترة ستينيات القرن الماضي.

تأتي راهنية المسرحية من حوادث تجري فيها، تحسبها وكأنها تتحدث عن حالنا هذه الأيام، على الرغم من أن العرض الأول لها قُدّم سنة 1967، في بيروت. وتتناول حال الملك "داجور" التي تشبه حال العديد من الرؤساء والزعماء العرب الذين مازالوا يصوّرون أنفسهم على أنهم براء من الأخطاء والانتهاكات التي تحصل في بلدانهم، في ظل حكمهم. وعادةً ما نراهم وقد اعترتهم الحمية، وبدأوا بمحاربة الفاسدين حين يتجاوز أحدهم الحدود الموضوعة له، وهي عادة ما تكون حدودًا واهيةً، يتوافق عليها أهل السلطة بمعرفة الحاكم، ولا تجري محاسبة أحدهم إلا حين استفحال أمر فساده، وحين تتخطى رائحة فساده حدود البلاد وتصل إلى أنوف صحافة الغرب وقادة دوله. ودائمًا ما يكون هنالك كبش فداء، يقدم على أنه المقترف الذي كان يتحكّم بالفساد ويرعاه، فيودع السجن أو يجري التخلص منه، والاحتفال بإعلان الانتصار على الفساد. كما تصور المسرحية الملك داجور عاجزًا لا يمكنه محاسبة بطانته الذين نبّهته البائعة المتجولة "هالة" والمتسول إلى أنهم يكذبون عليه في كل الأمور، لكنه يظهر نفسه عاجزًا عن محاسبتهم، ومع ذلك لا يرى غضاضةً في الاستمرار في الحكم، على الرغم من معرفته بعجزه عن سياسيةِ البلاد سياسةً صائبةً. 

وكما عادتهم دائمًا، يتخيل الرحابة مدينةً أو قريةً، أو حتى ساحة مدينةٍ، تجري فيها حوادث مسرحيتهم. وفي مسرحيتنا هذه يأخذنا الرحابنة إلى مدينة "سيلينا" المُتَخيّلة التي يحكمها الملك "داجور"، والذي يؤدي دوره الفنان الراحل نصري شمس الدين. يعيش الملك وحدةً وضجرًا، فيخبره عرافه الذي يؤدي دوره الفنان جوزيف ناصيف، أن أميرةً مقنعةً ستشارك هذه السنة في العيد التنكري السنوي المسمى عيد "الوج التاني" (أي الوجه الثاني)، وتقول نبوءة العراف أن الملك سيغرم بها ويتزوجها. ولهذا يخرج الملك بأمر ملكي استثنائي يقضي بمنع الاحتفال بالعيد وإلغاء مظاهر التنكر لكي يتعرف عليها. تأتي فتاة فقيرة اسمها هالة، تؤدي دورها الفنانة فيروز، إلى ساحة المدينة لتبيع الأقنعة في هذا العيد، لكنها تفاجأ بإلغاء هذا التقليد السنوي، فتبقى في الساحة محاولة بيع ما يتيسر لها، فيظن الجميع أنها الأميرة وقد تنكرت بهذا الزي. يأخذونها إلى القصر، لكنها ترفض الزواج بالملك، وتخرج من القصر، من دون أن يستطيع أحد منعها كونها أصبحت أميرة، وتعود إلى الساحة لتبات في العراء. في هذا الوقت، يتعجب الملك من تأخر وصول الأميرة، فيكذب عليه الجميع حول موضوع مغادرتها، غير أن المتسول الذي يؤدي دوره الفنان وليم حسواني، يخبره بالأمر ويعيد سببه إلى رفضها الزواج منه. 
 


يدور حوارٌ بين الملك والمتسول، فيه كثير من الحكمة والصراحة، ويناقش فيه الطرفان جدلية العلاقة بين الحلم والحكم، حسب رؤية الرحابنة، القريبة من المثالية التي ينشدوها على الدوام في أعمالهم. يحصل هذا في خاتمةِ المسرحية، حين يخاطبُ المتسولُ الملكَ ليخبِرَه حقيقة أن الجميع يكذب عليه في موضوع رفضِ الفتاة هالة الزواجَ منه، ويماطلون في إخبارِه ذلك إلى حين يستطيعون تدبر الأمر. يسألُ الملكُ المتسوّلَ عن سبب رفضِ الفتاة الزواجَ منه لتصبحَ ملكةً: "حدا بيرفض يكون مَلِك؟"، يجيب المتسول: "أنا". يتعجب الملك من الأمر فيخبره المستول عن السبب: "أنا شحّاد المدينة بِرفض كون مَلِك.. أنا هلأ شحاد، لكنْ بِحلم، ولما الحلم بيتوهج بحلم صير مَلِك، بس الملك ما إلو مستقبل.. واقف عا الباب الأخير، عا الباب المسكر.. ما بيقدر يحلم أكتر لأنو مَلِك، شو بعد بيئدر يصير؟ الملك ما عاد يطلع.. ما عاد يقدر يتحرك، إذا تحرّك بينزَل" (أي يسقط).

هنالك موقف لافت، ولطالما برز في مسرحيات الرحابنة، تجلى حين ألبسوا المتسولَ ثوبَ الحكمة التي نطق بها في حضرة الملك بعد أن حصل منه على الأمان. والحكمة هي الحد الفاصل الذي يفصل بين المتسول والحاكم، هذا الحاكم الذي يجسدونه فاقدًا الحكمة، على الأقل في هذه المسرحية. من هنا كان لافتًا نُطْقَ الملك بالحكمةِ فجأة حين ارتدى ثوب المتسول متنكّرًا به لكي يقابل هالة ويحاورَها ليعرِف منها سبب رفضها الزواج منه. في حواره مع هالة يخبرها الملك المتقمص شخصية مستولٍ عن الفرق بين الملك والمتسول، يقول: "الملك آعد بالنظام أنا خارج النظام.. أنا آعد بالشحادة أنا مخلوط بالوحش؛ لمّا بدي إشحد بئعد بالشفأة ولما بدي نام بنام بالوحش". ومن الملاحظ أن الحكمة لم تفارق المتسول، وظل يخاطبُ الملك بحكمةٍ، فلو أنه ارتدى ثوب الملك لكان فقدها. ولا بد أن المتسول يعرف هذا الأمر، لذلك نراه يحمل ثوب الملك الذي أثقلَهُ، ويرفض ارتداءَه، على الرغم من البرد الذي نخر عظامه، يقول للملك: "عم يلفحني البرد وإنتَ لابسلي تيابي وتعبت إيدي وأنا حاملك تيابك". وفي هذا تتجلى واحدة من لفتات البراعة التي يتصف بها الرحابنة في مسرحهم حين يولون التفاصيلَ الصغيرةَ عنايةً تجعلُها حاملةَ الرسائل الكبيرة. 

لا شك هنا أن الرحابنة يريدون إبلاغنا أن الحاكم يبقى دائمًا فاقدًا الحكمة ما دام قابعًا في قفص العرش الذي يحول بينه وبين الحلم، ولم يمتلك الحكمة إلا حين غيّر رداءه. 

حين تخبره هالة عن بطانته التي تكذب عليه في كل الأمور، يسألها عما يجب أن يفعل بهم، تجيبه ألا يحاسبهم أو يسجنهم: "الملك إذا حاكَمُن.. إذا حبَسُن بيخلصو.. وساعتها على مين بدو يعمل ملك؟". وهنا، حين يحاول الحاكم الإشارة إلى براءته وعدم مسؤوليته عما يحدث في مملكته من فسادٍ وظلمٍ، ينطق الحاكم ذاتَه بوقائع تدلّ على أنه متمسّك بالسلطة ولو كان ثمن ذلك إطلاق يد الطبقة الحاكمة لتعيث فسادًا في البلاد، وما ينتج عن ذلك من نقل الفساد إلى كثير من أبناء الرعية، ويبرر الملك لنفسه تمسكه بالحكم حين يقول: "لو ها الملك تعلّم شي مهنة كان بيقدر يترك ويستغنى، (أي يترك الحكم)، لا نجار تعَلّمْ ولا حداد تعَلّمْ، المُلْك والشحادي متل بعضن مَنّنْ شغل، ولازم الملك يضل عامل ملك" (أي يجب أن يبقى ملكًا). وهنا بالتحديد نرى الحكمة وقد فارقت الملك لأنه بدأ ينطق بلسان الملك لا بلسان المتسول. فالحاكم يعرف الخلل، لكنه لا يعمل على إصلاحه، وهو الذي أشارت هالة إلى نتائجه حين أخبرته عن أحوال مملكته والفقر فيها: "الملك ما بيعرف شو في بالبيوت الفقيرة اللي بوابا واطية"، وهو الذي يتغنى بالأرض الجميلة: "ما أجمل الأرض لما الإيدين المجهولة بتنزلا إفّة مليانة سعادة"، لكنه لا يعلم كم يفتقر شعبه لسعادة من هذا القبيل، وفاقد السعادة لا يرى الجمال في أي شيء. طبعًا نبقى هنا أسرى الكلام الجميل عن حاكم مغرّرٌ به، مع العلم أن الوقائع تخبرنا أن الحكام المطلقين لديهم أجهزتهم التي تعرف كل ما يجري في ممالكهم وتخبرهم به، لكنهم يفضلون أن يُبقوا كل شيء على حاله لإدامة واقع الحال منعًا لأي تغييرٍ، يؤيد كلامنا معرفة الملك بفساد بطانته وتجنبه محاسبتهم.

حين يعجز الملك عن إنجاز شيء، وحين ينتفي الحلم لديه، لا يجد ما يفعله سوى اجترار نفسه، وحين لا يبقى من نفسه ما يمكن اجتراره تتعالى أناه وتتضخم، وهي التي من خلال تضخيمها يمكنه حكم الناس. فتضخّم أنا الحاكم تجعله يُنصّب ذاته إلهًا، يسأل المتسول الملك مستكملًا حوارهما حول الحلم: "شو في أكبر من الملك؟". يجيب الملك بسرعة وببديهة حاضرة تبرز لا وعيه: "مَ شي" (أي لا شيء)، وهي إجابة خرجت بلغة إلهٍ لا لغة ملكٍ. وهنا تكمن خطورة الحُكم حين يصبح الحاكم عاجزًا، أو قادراً، وفي الوقت عينه، رافضًا تقديم أي شيء لشعبه. وفي هذا تلميحٌ من الرحابنة إلى خطورة محاولات الملوك والحكام التّجسّدَ آلهةً بتعاليهم على شعوبهم وتقديمهم الأوهام لهم. لكن الملك لم يفهم رد المتسول الحكيم حين قال له: "إنتَ ئلت المَ شي أكبر من الملك"، لأن هذا الملك أصبح عاجزًا ومديرًا ظهره للأمور المصيرية، حتى صار اللاشيء أكبر منه. 

يمكننا القول إن الحلم في تناقضه مع الحكم وصراعِه معه في المسرحية هو محور المسرحية، على الرغم من أن جدلية الحلم والحكم لم تُعالج إلا في خاتمة المسرحية وذروة حوادثها. ومع ذلك تنطبع لدى المتفرج فتصبح محوريةً لديه، وربما هي الرسالة الأهم التي يريد الرحابنة إيصالها من خلال عملهم هذا. يسأل الملك المتسول حول أسباب رفض الغريبة الزواج منه وبالتالي رفضها أن تصبح ملكة، فيجيبه المتسول: "ها الغريبة عايشة عم تحلم، ما بدا تبطّل تحلم". فالفقراء لا يريدون التخلي عن الحلم، الحلم هو السعادة لديهم وهو الأمل في غدٍ جميل، بينما الحكم يُجرّدهم من هذا الحلم، يُجرّدهم من الجمال الموعود.