إيليا سليمان الممثل... الصمتُ لغةً

2019-05-30 14:00:00

إيليا سليمان الممثل... الصمتُ لغةً

يُدرك إيليا سليمان تمامًا أن امتلاكه صُورًا يُتيح له الاستعانة بالصمت. يحصل على صورة ويستغلّها مستعملاً لغتها إلى أقصى حدّ ممكن. يُشدّد على أن حوارات أفلامه أشبه بـ"مونولوغ". يقول إنّه يشعر بانغلاق الصورة على نفسها، وبأنّ المُشاهد "يبقى خارجها وخارج الحوار أيضًا، حين يكون في الفيلم حوار"،

يجعل إيليا سليمان الصمتَ تعبيرًا أصدق وأعمق عن فعل السينما في معاينة واقع أو حالة أو انفعالٍ أو حدثٍ. يجعله تأكيدًا بصريًا إضافيًا عن جمال السينما ونقائها وحيويتها. يُمثّل في أفلامٍ يُخرجها، وله تجربة تمثيلية واحدة ("باماكو"، 2006) مع مخرج آخر (عبد الرحمن سيساكو). التمثيلُ جزءٌ من صناعة فيلمية، يريدها مزيجًا من الذاتيّ الحميم والوقائع الحيّة والذاكرة الفردية والحكايات الجماعية. مزيج غير مُكتمِل من دون النواة الأساسية: لغة سينمائية تُجدّد في مفهوم الصورة الفلسطينية في الفنّ السابع، وفي كيفية جعلها مرايا ومرويّات، من دون حكاية كلاسيكية أو سرد تقليدي، فالأهمّ بالنسبة إليه كامنٌ في تكسير المفردات المتداولة في البناء الدرامي، صانعًا من تكسيره جذرًا لسينما تُوازن بين تنقيبٍ في ماضٍ وتفكيكٍ لحاضر، وتذهب بعيدًا في قراءة فلسطين وأحوالها، عبر قراءة تفاصيل صغيرة لليوميّ في حياة أفرادٍ، بينهم هو شخصيًا وأفراد من عائلته وبعض أصدقاء ومعارف. مُستعينًا لهذا بأقلّ قدرٍ ممكن من الكلام، ومُعتمدًا على أكبر قدرٍ ممكن من الصمت.

والصمت، الملازِم لإيليا سليمان الممثّل، جزءٌ أساسيّ من البناء الدرامي لسينما إيليا سليمان المخرج. مساحة الصمت في لقطاتٍ ومشاهد عديدة امتدادٌ لصمت شخصيته التمثيلية (إ. س.)، التي ـ بتأديته إياها في أفلامه الروائية الطويلة الثلاثة تحديدًا، "سجل اختفاء" (1996) و"يد إلهية" (2002) و"الزمن الباقي" (2009) ـ يُحوّلها إلى عينٍ ترى وتراقب وترصد وتلتقط، وتُمعِن النظر في محيط صاحبها؛ وإلى عين تتلصّص، وبهذا يُعيد التأكيد على أحد أجمل معاني السينما: التلصّص. فالممثل غير راغبٍ في كلامٍ، تمامًا كالمخرج الذي يكتب أفلامه من دون أن يمنح الممثل فرصة واحدة للنطق بحرفٍ أو كلمة أو جملة.

إن شئت كما في السماء
 

ففي حفلة تكريمه في بلدته الناصرة، بعد عودته إليها مُخرجًا سينمائيًا، يُصاب الميكروفون بعطبٍ يحول دون نطقه حرفًا أو كلمة أو جملة، هو المستعدّ لكلامٍ عن تجربته ومشاريعه أمام أناسٍ يريدون الاستماع إليه، قبل أن يدفعهم عطب الميكروفون إلى ثرثرات وخروج من القاعة. فالمناخ أهمّ، والأجواء المحيطة بشخصيته المتكرّرة في أفلامه تلك أفضل من أن تغرق في كلام أو صخبٍ أو ثرثرة. لكن التكرار طبيعي، فهو ابن الناصرة العائد إليها ليكتشف أحوالها ويكشف حالات ناسها، وهو المخرج الذي يصنع اشتغالاته السينمائية فيها ولها وعنها، ما يجعل التكرار صنيعًا بصريًا متكاملاً، له فصول ومحطّات يُبرزها هذا الفيلم أو ذاك، عبر شخصية واحدة، ومناخات واحدة، لكن بمسارات عديدة ومُكثّفة. التكرار تجديديٌ، وهذا نادرٌ في السينما العربية، وفعلٌ بصريّ يُبلور أفقه فيلمًا تلو آخر، من دون مللٍ أو فبركة. التكرار درسٌ في أصول الابتكار السينمائيّ، الذي يستمدّ مفرداته من تخييلٍ يُعيد رسم الواقع بحذافيره، فتُصبح السينما واقعًا، ويُصبح الواقع مرايا تعكس مجريات حياة بطيئة وهادئة شكلاً، إذْ تحمل في ذاتها غليانًا وغضبًا وألمًا وانكساراتٍ وخيباتٍ ومواجع وأحلامًا موؤودة، وهذا كلّه غير متمكّن من قول دقائقه لولا الصمت المتفوّق على بلاغة الكلمة في صنع الحياة.

هذا لن يحول دون كلامٍ تقوله شخصيات أخرى، وإنْ باقتضاب. فالصمت، الشبيه تمامًا بتكثيفٍ درامي وجمالي وسرديّ لحكايات وانفعالات ومسارات ومرويّات، يُقابِل بلادة عيشٍ في مدينة يكاد التكرار يلتهمها في يوميات متشابهة، تلتقطها عدسة إيليا سليمان المخرج بسحرٍ وصفاء بصريّين يرويان واقعًا بشغفِ سينمائي يريد من كاميراه أن تجمع ما يُصادف عدستُها من تفاصيل وهوامش وخبريات ووقائع، قبل أن يتكفّل المونتاج بصنع صُوَرها. وهذا يكتمل بحضور إيليا سليمان الممثّل، الذي يُلغي كلّ حدٍ ممكن بين العين والعدسة، فتختفي الكاميرا بالعين، وتُصبح العين كاميرا، ويُتاح لهما مجالٌ أوسع للتمدّد في المساحات المختلفة، التي يريدها إيليا سليمان السينمائيّ، ثم يكون التوليف رابطًا يصنع بناءً دراميًا، مُحمّلاً بقصاصات حكائية، كلّ واحدة منها مستقلّة عن الأخرى، وكلّ واحدة منها مكتفية بذاتها، وكلّ واحدة منها تتكرّر يوميًا، لكن إيليا سليمان الممثل يحتويها بصمته فينقلها إلى إيليا سليمان المخرج كي يصنع منها تلك السينما المشحونة بكمّ هائل من هوامش الحياة والعلاقات واليوميات.

البداية التمثيلية معقودةٌ على مشاركته في فيلمٍ جماعي بعنوان "حرب الخليج.. وبعد؟" (1991)، مع التونسيّين نوري بوزيد وناجية بن مبروك واللبناني برهان علوية والمغربي مصطفى درقاوي. الجزء الخاص به معنون بـ"تكريم بالقتل". الشخصية الأساسية: رجلٌ يجلس إلى طاولة عليها جهاز راديو، وينتظر اتصالاً هاتفيًا لحوار إذاعي، لكن جرس الهاتف لن يرنّ. إنها حرب الخليج الثانية (2 أغسطس/ آب 1990 ـ 28 فبراير/ شباط 1991). هواجس كثيرة تُثيرها الحرب في مخيّلة سينمائيين. يختار سليمان شخصية صامتة، إذْ لن يكون هناك اتصالٌ هاتفي ولن يكون هناك حوارٌ إذاعي ولن يكون هناك كلام. هذه ليست صدفة. لكن، في الوقت نفسه، لن يكون هناك تعليقٌ أعمق وأصدق وأهمّ من صمتٍ يواجِه المرء به خراب عالمٍ يتبدّل، والتبدّل لن يكون إيجابيًا.

يد إلهية
 

في مؤتمر صحافي يعقده بعد وقتٍ قليل على انتهاء العرض الدولي الأول لجديده "إن شئت كما في السماء"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 – 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي (ينال تنويهًا خاصًا من لجنة التحكيم، ويفوز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد ـ فيبريسي")، يقول إيليا سليمان إنّ "الصمت مقاومة". هذا تفسيرٌ يتجدّد فيلمًا تلو آخر. هذا فعل إنسانيّ، لكنّه سينمائيّ بامتياز أيضًا. فالصمت لن يكون استسلامًا أو استقالة، وإنْ يطغى التشاؤم، فالسخرية الأجمل ناشئة من الصمت، والكوميديا المريرة ناشئة من الصمت، والمقارعة الأفضل للتحدّيات ناشئة من الصمت. "الصمت مقاومة". هذا درسٌ سينمائيّ أيضًا.

"تكريم بالقتل" يتحدّث عن شخصِ السينمائيّ نفسه، وعمن حوله أثناء تلك الحرب. هذا كافٍ له للتنبّه إلى ما سيكون أساسيًا في أفلامه اللاحقة، أيّ التمثيل: "لماذا أبحث عمن يُشبهني ليتحدّث بالنيابة عنّي؟ لماذا لا أكون أنا أمام الكاميرا؟" ("السفير" البيروتية، 11 يناير/ كانون الأول 2009). طالما أن الشخصية الأساسية هي إيليا سليمان نفسه دائمًا، فعلى إيليا سليمان نفسه أن يُؤدّيها، فهو العارف بها وبخفاياها ومسالكها ومشاعرها ورؤيتها. هذا أساسيّ. هذا منسحبٌ على أفلامٍ لاحقة، تصنع من الشخصي والذاتي عوالم سينمائية مفتوحة على الجماعة والذاكرة.

لعلّ الحرب نفسها تفرض على إيليا سليمان صمتًا أمام هول الجريمة، المُضافة إلى جرائم مختلفة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. الصمت خيار. الصمت لغة. الصمت موقف. وهذا لن يكون سلبًا أو استسلامًا بل تحدّيًا لقسوة البشاعة الحاصلة في الواقع، وسخريةً من واقع وعيش وآخر. فالصمت يُترجِم انفعالاً ذاتيًا يعجز الكلام عن أن يُضاهيه.

سجل اختفاء
 

يُمكن لـ"تكريم بالقتل" أن يكون درسًا في الأداء الصامت. فصمت إيليا سليمان ملاصقٌ لموقف إزاء وقائع العيش في بؤر الخراب اليومي، كأنْ يكون (الصمت) مدخلاً إلى تعرية بيئة أو حيّز أو علاقات أو مشاعر. أو كأنْ يكون الأداء التمثيلي صامتًا هو أيضًا، إذْ تغيب التعابير كلّها في ملامح إيليا سليمان الممثل، الرافض نمطًا أدائيًا يعتمد كثيرًا على تعابير وجه مُبَالغ فيها. هذا مُرادف لشخصية إ. س. التي يؤدّيها إيليا سليمان في أفلامه الروائية الثلاثة. الصمت ظاهرٌ في عدم كلامه، وظاهر أيضًا في ملامحه وحركاته ونظراته. هذا ليس جمودًا، ولا تغييبًا لأي انفعال أو تعبير، بل فعلاً يبغي التمتّع بالتلصّص، المباشر والواضح غالبًا، على محيطٍ وأشخاصٍ وتصرّفات وسلوك ونيّاتٍ وحالات، فيمتصّها كلّها محوّلاً إياها إلى متتالياتٍ بصرية بديعة وساحرة وقاسية في سخريتها وكوميديتها السوداء.

يقف إ. س. في شارع أو حيّ. يستمع إلى ما يُخبره به أحدهم. يجلس إلى طاولةٍ في مقهى مع أصدقاء صامتين مثله، أو مع أحدهم، ينظران معًا من دون أن ينتظرا شيئًا. يُطلّ من غرفة منزلٍ على خارجٍ لمتابعة مجرياتٍ عاديّة للغاية في بلدٍ مضطرب ومُصاب باحتلال (مجنون يرقص. امرأة تمرّ أمام جنود إسرائيليين يواجهون متظاهرين فلسطينيين. شابّة بهيّة تغادر سيارتها وتمشي قرب حاجزٍ فتُسقط برجه أمام ذهول جنود إسرائيليين). يختفي من المشهد، فالتلصّص محتاج أحيانًا إلى اختفاء، تاركًا الكاميرا تراقب ما يريد مراقبته. والتلصّص صمتٌ يؤكّد فعل السينما في حوارها مع الحياة والناس.

يشتغل إيليا سليمان على سيرته الذاتية. أفلامه انعكاسٌ لها، أو لمقتطفاتٍ منها. هذا أساسيّ في اختياره التمثيل، إذْ يجد فيه ترجمة سينمائية أصدق وأعمق وأهمّ لهذه المقتطفات. يقول إنّ السيناريو يدعوه إلى التمثيل، وإلى أن يكون جزءًا أساسيًا من تركيبة كلّ فيلمٍ من أفلامه. ينفي أن يكون هذا مُدبّرًا سابقًا، إذْ يقول إن هذا "ليس استراتيجية، بل استجابة لما يطلبه السيناريو". كتابة السيناريو له. السيناريو معنيٌ به شخصيًا، أي بسيرته تلك. إذًا، لن يتمكّن أحدٌ من تأدية شخصية واقعية وحقيقية كشخصية إيليا سليمان، إلاّ إيليا سليمان نفسه. سرد الذات محتاج إلى من يُلبّي مطلبه، تمثيليًا. هذا ما يفعله إيليا سليمان، إذْ كيف يُمكن لمُشاهد عاشقٍ للسينما أن يُشاهد "سجل اختفاء" و"يد إلهية" و"الزمن الباقي" من دون إيليا سليمان الممثل؟
 

الزمن الباقي

في الفيلمين الأولين، يؤدّي إيليا سليمان الممثل دور إيليا سليمان المخرج، العائد إلى بلدته الناصرة. في الفيلم الثالث، يستعيد ذكريات طفولة ومراهقة ومطلع شبابٍ في ناصرةٍ تعود به إلى ما قبل ولادته، إلى نكبةٍ تحلّ بفلسطين وبالفلسطينيين عام 1948، ثم يتدرّج السرد إلى أعوام لاحقة، أبرزها مطلع سبعينيات القرن الـ20. هذا ليس سهلاً لغيره إدراكه، رغم أن التمثيل براعةٌ، والممثل يُفترض به أن يؤدّي أدوارًا لشخصيات حقيقية كأنه هو الشخصية الحقيقية. هذا يحصل إنْ يكن الفيلم سردًا لحكاية، لن تكون الشخصية فيه هي نفسها مخرج الفيلم. يصعب على ممثلٍ أن يمنح شخصية إيليا سليمان، في أفلامه الثلاثة، ما يمنحها إياه إيليا سليمان نفسه: انعدام كلّ حدٍ ممكن بين الواقع والتمثيل، ونقل الواقع إلى التمثيل من دون أن يفقد الأول حساسيته وجماليته، ومن دون أن يؤثّر الثاني في حساسية الأول وجماليته.

في حوارٍ قديم لي معه، أسأله عن الصمت في أفلامه، فهل الصمت ـ بالإضافة إلى كونه لغة سينمائية متكاملة ـ "نوعٌ من تحية لسينما لم تعد موجودة، مثلاً؟". ينفي إيليا سليمان هذا. يقول: "لديّ نظرية أعرف أنه يصعب إثباتها: كوني لم أتعلّم السينما، ولم أتابع المسار التاريخي لها، بدءًا من مرحلتها الصامتة؛ وبما أن ثقافتي السينمائية عشوائية، ما يجعلني أعدّ من واحد إلى عشرة بطريقة غير مرتّبة أو منتظمة؛ ولكوني لا أملك هذه الثقافة السينمائية كلّها؛ أقول، لهذه الأسباب كلّها، ربما، جئت السينما بالبساطة نفسها وبالترتيب الخاص بروّادها. تركيب الفيلم، بالنسبة إليّ، مزدوج: بسيط ومعقّد في آن واحدٍ. يمكنك أن تقرأ بساطته، وأن تنغمس في تعقيداته. لذا، أظنّ أني الشخصان معًا: البسيط، لأني لا أملك مرجعيات كثيرة؛ وفي الوقت نفسه المعقّد والمركّب، لأني قرأت كثيرًا من هنا وهناك، وشاهدت كثيرًا هنا وهناك".

يُدرك إيليا سليمان تمامًا أن امتلاكه صُورًا يُتيح له الاستعانة بالصمت. يحصل على صورة ويستغلّها مستعملاً لغتها إلى أقصى حدّ ممكن. يُشدّد على أن حوارات أفلامه أشبه بـ"مونولوغ". يقول إنّه يشعر بانغلاق الصورة على نفسها، وبأنّ المُشاهد "يبقى خارجها وخارج الحوار أيضًا، حين يكون في الفيلم حوار"، فعبر الصمت وبه تُخلَق وسائل كثيرة لحثّ المُشاهد على ملء الفراغ: "كمُشاهِد، يُمكنك أن تتخيّل ما تريد، وأن تُشاهد ما تريد" ("السفير" اللبنانية، 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002).