«الزمن الباقي»... حين يرث المغتربُ الوحدةَ

2019-05-29 10:00:00

«الزمن الباقي»... حين يرث المغتربُ الوحدةَ
كان ٢٠١٩

كحال الكثير من المغتربين الذين يعودون بذاكرات محمّلة بصور بهتت، يتشبثون بما بقي من الزمان والمكان، يحاولون إيجاد ثغرات تعينهم على الاستذكار، يبحثون عمّا يربطهم بالمكان، لكن الأمكنة تغيّرت، والأزمنة تبدلت، ولم يبق إلا بعض الشاهدين؛ كوالدته؛ التي لا تزال تجلس في نفس الزاوية مشرفةً على المدينة التي تتغيّر.

تمشّط أفلام إيليا سليمان التاريخ بحثًا عن شيءٍ ما، يستحضر ذكرياته وتاريخه الشخصي وسيرته العائلية، وحكايات أهل البلد، وهي كلها مجتمعة صورةٌ عن وعينا الجمعيّ تجاه النكبة ومآلاتها، تلك التراوما التي لا يزال صداها صارخًا، متسربًا إلى أدق التفاصيل فينا، فإن جزءًا من وعينا الذي تغذى من الشرخ في فلسطينيتنا، تشكّل لدى سليمان على هيئة سيناريوهات تحاول بتركيبات سينمائية متنوعّة نقل فصل من رواية الاغتراب، وهي ليست حالة فردية نادرة وخاصة بالشخصية المركزية في أفلامه.

إن عدم قدرتنا -من بقينا في فلسطين ولم نعايشها كوطن قوميّ لنا كما يجب للوطن أن يكون- على التخلّص من الحالة السياسية التي فُرضت على الأرض ما بعد النكبة يولّد لدينا شعورًا عميقًا بالاغتراب، فهو النفور الواعي من المؤسسة التي تحكم قبضتها علينا، ومن رموزها وممارساتها، في ظل تراجع القدرة على السيطرة وإحداث تغيير ملموس على الواقع المُعاش. يفضي بنا هذا الاحساس إلى حالات التكيّف، أو الانسحاب أو الثورة. ونحن، فلسطينيي الـ 48، لا نزال نعيش حالة هجينة تختلط فيها بوضوح اثنتان من هذه الثلاث.
 

الزمن الباقي


يزور إيليا وطنه ومدينته الناصرة بعد غياب غير معروف. صمته الثقيل المقصود، وتعابير وجهه الهائمة تسوقنا إلى مساحات من الأسئلة والبعد. أين أنا؟ لعل هذا هو لسان حال القادم من سفر، مُشبع بذكريات ومعلومات عصف بها الواقع وغيّر ملامحها فلم يعد يعرف الحاضر كم تزاحمت التفاصيل في غيابه وشكّلت المكان من جديد. هذا أحيانًا حال الغائبين، والمغيّبين وأحيانًا أخرى موقف الناظر إلى هذا الواقع، الرافض لشكله الجديد حتى وإن كان على قدر كبير من المعرفة بحيثياته.

لعل انشغال أفلام إيليا سليمان بتأمل وتفكيك حالات شهدتها مدينته الناصرة يجعل هذه الحالات تتعاظم لتشكّل موقفًا ناقدًا لحال فلسطيني الـ 48، فهو يكشف بعض العورات التي نتجت عن الاحتلال الثقافي المجتمعي، ويصوغ بأسلوبه الساخر الساحر مأساة تتجلى في شكل ومفهوم الهوية عند الأجيال المتعاقبة؛ الثائرة ثم المتكيفة ثم الثائرة من جديد.   

«الزمن الباقي».. الحاضر الغائب

لقد وقف فؤاد سليمان -الوالد- ذات يوم مختبئًا خلف قطعة من سور، يراقب المُحتلين للوطن، ويقف عاجزًا أمام مشهد يسلبون فيه بيوتنا ومحتوياتها. سلبوا مُذكّرات تركناها خلفنا لكنهم لم يسلبوا حكايات أحطناها بالعناية المكثفة في عقولنا وقلوبنا، إنها روايتنا عن تهجيرنا. وهذا هو حال المغترب، الذي يعود ليجد مدينته وقد تجعّدت صورها التي عرف. هو حاضرٌ هنا، لكن ذهنه لا يزال هناك في حقبة أخرى، مختلفة، أو ربما هي أذهاننا نحن التي علقت في تحركات فؤاد سليمان، حيث كان للمدينة شكلها الآخر، وتاريخها الآخر، وتفاصيلها الأخرى التي تنقلّت من بين الثورة والتكيّف. 

يصل المغترب إلى البلاد في فترة عيد الميلاد لتستقبله عاصفة، عاصفة تنذر بعاصفة أكبر في الحيز العائليّ والاجتماعيّ والسياسيّ. تعصف السماء بكل ما عرفه وألفه من قبل لدرجة تشويه الصورة المحفورة في ذاكرته.

تسير سيارة الأجرة التي تقلّه من المطار حين تهب العاصفة على حين غرّة، ويغسل الماء كثيرًا من المعالم على طول الطريق، فيسأل سائق السيارة الإسرائيلي زبونه الصامت: "اين القرى التعاونية؟"، وهذا ليس سؤالًا عبثيًا وليس رد فعل على عاصفة أخفى ضبابها بعض أنوار المباني.. إنه إنذار مزدوج، تارة يرمي للتشويه الذي سببه الاحتلال على مر سنوات، وتارة إلى فانتازيا ولدت من الحنين إلى وطن مسلوب.
 

الزمن الباقي


يعود بنا الفيلم إلى سنوات شكّلت تاريخ الحاضر الغائب (الحاضر الغائب مسمى أطلقه الاحتلال على الفلسطينيين الذي هُجروا من قراهم لكنهم بقوا في فلسطين ولم يعودوا يملكون الحق في ممتلكاتهم). إيليا؛ ذلك "الصّافن"، المُتأمل، الذي لا يعبّر بالكلام عمّا يدور في رأسه، فلهُ وسائلُه الأخرى التي يسوقنا فيها إلى مخازن ذكرياته، حيث يسرد الحكاية الشخصية التي تشبه الكثير من حكايات الناصرة.

هو المغترب الشاهد على التحوّلات، يقف هنا وهناك ويراقب، يكتفي بأن يكون حاضرًا شاهدًا؛ ربما غائب الذهن أو العواطف؛ لكنه هنا.

كحال الكثير من المغتربين الذين يعودون بذاكرات محمّلة بصور بهتت، يتشبثون بما بقي من الزمان والمكان، يحاولون إيجاد ثغرات تعينهم على الاستذكار، يبحثون عمّا يربطهم بالمكان، لكن الأمكنة تغيّرت، والأزمنة تبدلت، ولم يبق إلا بعض الشاهدين؛ كوالدته؛ التي لا تزال تجلس في نفس الزاوية مشرفةً على المدينة التي تتغيّر.

من أمكنته العالية، وانفراده يراقب ويتأمل الناصرة التي ينهشها الاحتلال بحضور هجين للشرطة في منزل قيل فيه للمتعاون ذات يوم "أنت بتستحيش ع حالك". ينهشها بقصص إطلاق الرصاص والسرقة وتفكك المجتمع المغترب عن نفسه وعن قيَمه.
 


يغيب المناضل عن المشهد ليحل مكانه شرطي، أو متنكر بزي شرطي يقوم بأعمال التنظيف، واختيار هذه الشخصية ربما تكون إشارة إلى رغبة السلطة الجديدة تنظيف ما تبقى من المعالم والتاريخ، ليس في الحيّز العام فحسب، بل في ذوات الناس.

وهل تختلف رام الله عن الناصرة؟ إن تنقله ما بين الناصرة ورام الله عبر الحاجز هو انعكاس لصورة الوطن الذي تم شطره. لا تختلف رام الله عن الناصرة، فقد شوّه أوسلو بعضًا منها، وخلق فيها فقاعة توهم نفسها باستقلال ينمو تحت عينه المراقبة وحضوره النشاز.. الاحتلال.

في صورة أقرب أن تكون دستوبيا، يعبُر الغائب الحاضر جدارَ الفصل العنصري بقفزة مُحكمة البهلوانيّة مستعينًا بالزانة.. مشهد يُقزّم ويسخر من الجدار، يقفز الفلسطيني وينتقل من ضفة إلى أخرى بكل دقّة وسلاسة إلى ضفة نجهلها. والجدار، لا يزال قائمًا، ليس بالإسمنت فحسب، بل بما يتجسد فيه من جدار ثقافي اجتماعي تمادى مع مرور الوقت بين الضفتين! 

على سرير ترقد أم المغترب في المستشفى، تنزع عنها أنبوبًا يربطها بالعلاج، وتُبقي بين يديها ما يربطها بالحنين.. إنها صورة المغترب، الحاضر الآن، جالسًا على مقعدها، يراقب الناصرة التي تتشكّل من جديد، تمامًا كما فعلت هي سنة تلو الأخرى من حياتها.

بغيابها تورثه المدينة المتقلّبة. وتورثه الشرفة والكرسي. وتورثه الوحدة. وتورثه؛ كما ورثت أجيال كاملة؛ مزيدًا من الاغتراب