السينما سينما... وللخطابية منبرٌ خارج الـ"كادر"

2019-03-01 16:00:00

السينما سينما... وللخطابية منبرٌ خارج الـ
عن الآباء والأبناء لطلال ديركي

أما التأثّر بشخصية مختارة في فيلم وثائقيّ تحديدًا، أو عدم التأثّر بها، فهي من "أعمال" المُشاهِد، الذي وحده يتحمّل مسؤولية كيفية مُشاهدته، وكيفية التأثر بما يُشاهده.

يُثير البعض ضجّة حول غياب إدانة النظام الأسديّ، بسبب جرائمه، في الوثائقي الجديد لطلال ديركي، "عن الآباء والأبناء" (2017)، وفي غياب أية إشارة إلى "الثورة السورية"، في حوار مُصوّر معه لحساب الموقع الإلكتروني للصحيفة اليومية اللبنانية "النهار". يُدخِل هذا البعض وثائقيٌ آخر بعنوان "لسّه عم تسجّل" (2018)، لسعيد البطل وغياث أيوب، ضمن خطاب جامد ومنغلق، يقول ضمنًا إنّ غياب الإدانة يعني أن العمل غير صالح أو غير سوي أو غير جدّي، أو أنه "مُتعالٍ على الثورة، وعلى صانعيها".

الضجّة هذه ـ المُتمثِّلة بتعليقات "فيسبوكية" تأتي في لحظة الترشيح الرسمي لـ"عن الآباء والأبناء" لـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي (2019) ـ تنزع عن الفيلمين، وعن المُخرجين الثلاثة، خياراتٍ، هي جزء من انفعالٍ شخصي وتأمّل ذاتيّ، ومن محاولة فنية ـ ثقافية لتوثيق لحظةٍ أو حالةٍ أو حكاية، وفقًا لأدوات التعبير السينمائيّ. المهاجمون يريدون أن تنسجم اشتغالات هؤلاء المخرجين، وغيرهم أيضًا، مع تصوّراتهم هم والتزاماتهم هم ومبادئهم هم، وإنْ يعترف بعضهم بـ"عجزٍ" ما لديه عن تحقيق أفلامٍ، يُفترض بها ـ عند إنجازها ـ أن تكون مُلكًا لتصوّراتهم والتزاماتهم ومبادئهم.
 

عن الآباء والأبناء لطلال ديركي


هذا يُذكّر بحدثٍ مماثل، تشهده بيروت مطلع عام 2001. فالعرض البيروتي (24 فبراير/ شباط 2001) لـ"الرجل ذو النعل الذهبي" (2000)، للسوري الراحل عمر أميرالاي (1941 ـ 2011)، يؤدّي إلى نقاشٍ صاخب، جزء منه ينعكس في مقولة لا علاقة لها بالسينما إطلاقًا، تُروّج حينها فتظهر كـ"إدانةٍ" لعمر أميرالاي لأنه غير مكترث بأهواء آخرين، وبأمزجتهم وانفعالاتهم ومواقفهم والتزاماتهم، كأن المطلوب منه أن يكون بوقًا لهم، فيُلغي نفسه وتأمّلاته ومشاعره وأمزجته ومواقفه وأسئلته وهواجسه، إرضاءً لهم. وهذا على نقيض معنيين بأهمية الفعل السينمائي الوثائقي في الفيلم، وإلى صدق مخرجه، في ارتباكاته وأسئلته ومحاولاته، الثقافية والأخلاقية والإنسانية، الهادفة إلى مقاربة شخصية عامة كالرئيس السابق لمجلس الوزراء اللبناني، الراحل رفيق الحريري (1944 ـ 2005)، بما تحمله الشخصية من ثقل وتأثير وحضور، لبنانيًا وعربيًا ودوليًا. هؤلاء المعنيون يختزلون الضجّة المثارة حينها بتلك المقولة، من دون تبنّيها طبعًا، لاهتمامهم بالسينمائيّ الوثائقيّ في الفيلم، وفي اشتغالات أميرالاي، وفي السينما: "جماعة رفيق الحريري يريدون فيلمًا لهم، لم يعثروا عليه في "الرجل ذو النعل الذهبي" فنبذوه وهاجموا مخرجه؛ وأعداء رفيق الحريري يظنّون أن عمر أميرالاي، من موقعه اليساري المتمرّد، "يجب" عليه أن يصنع فيلمًا يُعبّر عن موقف هجوميّ متوتّر وغاضب ضد الحريري وما يُمثّل، وربما حاقد عليه وعلى ما يُمثّل أيضًا".
 

عمر أميرالاي


لن تكون المقولة عابرة. فهي واقعية جدًا وحقيقية جدًا، وتبدو أنها اليوم أقوى مما هي عليه سابقًا. مضمونها يعكس رغبة كثيرين في أن يفرضوا على السينمائيّ ما يعمل السينمائيّ على الخروج منه أصلاً، ويطلب من السينمائيّ ما يجتهد السينمائيّ للحؤول دون الوقوع في أفخاخه. والذين يهاجمون عمر أميرالاي من الطرفين يستعيدون، بوعي أو بلا وعي، مفهومًا يبدو أنه لن يتبدّد بسهولة: "خدم السلطان". اليوم، ينكشف واقع أن السلطان لن يكون حاكمًا فقط، ففي الجانب النقيض والمُقاوِم ـ المُعارِض له سلاطين أبشع وأعنف وأحقد.

مقولة تكشف أنّ الطرفين "مُذنبان" بحقّ السينما أولاً وأساسًا، وبحقّ السينمائيّ أيضًا. هذا يحصل اليوم، عبر كلامٍ يُهين، ضمنًا، السينمائيّ وحريّته في اختيار مواضيعه وأشكال التعبير السينمائي عنها؛ ويرفض نقاشًا يُفترض به أن يتناول آليات العمل والأسئلة المطروحة وكيفية المعالجة، وألاّ تكون له أدنى علاقة بما "يريد" السينمائيّ قوله أو البوح به أو نقله أو كشفه أو تعريته أو طرحه السينمائي على النقاش. هذا غير محصور بـ"الرجل ذو النعل الذهبي"، ولا بـ"عن الآباء والأبناء" و"لسّه عم تسجل" فقط، فهو منسحبٌ على أفلام كثيرة، بعضها متوغّل في أحوالٍ وحالات وأناس وتفكير، إنْ تنبثق من سورية في ظلّ الحرب الأسديّة عليها وعلى مواطنيها، وفي ظلّ الهجوم الأصوليّ على الثورة السورية بحجّة مواجهته النظام الأسديّ أيضًا؛ أو تعكس وقائع وتفاصيل مرتبطة ببلدان وشعوب ومجتمعات وحكايات وأفكار وتأمّلات أخرى.

المقولة تلك صائبةٌ، لأنها الأقدر على كشف تحجّر يُصيب كثيرين، وإنْ يكن هؤلاء الكثيرون معارضون للنظام الأسديّ ومناوئون له ومحاربون لبطشه؛ ولأنها الأصدق في التعبير عن انغلاقٍ وقمع يتمتّع بهما مدّعو مقاومةٍ لنظام أسديّ قاتل، يتحوّلون سريعًا إلى شبيهٍ به عندما يفرضون على الآخرين ما يتوجّب على هؤلاء الآخرين فعله والتفكير به. هؤلاء يريدون تسخير كلّ شيء لخططهم ومصالحهم وادّعاءاتهم، ويتغاضون عن الجوهر: السينما لن تكون درسًا في التاريخ ولا بوقًا للترويج ولا أداة للقمع والتزوير، بل مرآة واقع. وللسينمائيّ حرية مُطلقة في الاختيار والمعالجة، وللآخرين حقّ في النقاش السوي والهادئ.
 

لسه عم تسجل


يقول كوانتن تارانتينو ـ أحد أكثر السينمائيين إثارة لجدل حاد حول العنف السينمائي وتأثيراته الاجتماعية، و"المتّهم" (!) بـ"مسؤوليته" (!) عن أعمال عنفية وإجرامية مُنفّذة بـ"تأثير" (!) من أفلامه ـ إنّه غير مسؤول "عمّا يفعله الناس بعد مشاهدتهم أفلامي"، مضيفًا أن "المسؤولية الوحيدة التي أتحمّلها تكمن في صنعي شخصيات حقيقية إلى أبعد حدّ ممكن". هذا في الروائي المُتخيّل، المُستَنِد إلى حقائق الاجتماع والنفس البشرية (فردًا وجماعة) والاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والسلوك؛ فكيف إنْ يذهب سينمائيٌ وثائقيٌ إلى شخصيات حقيقية أصلاً، فيُقابلها ويحاورها ويُصوّر يومياتها كي يكشف ثقافتها التربوية والمسلكية، من دون إدانة أو أحكام مسبقة أو لاحقة؟ هل عليه أن "يؤبلس" شخصية يختارها، وإن يكن على نقيض تام مع أفكارها والتزاماتها ومفاهيمها، كي ترضى عنه جماهير المعارضة ـ المقاومة، ومثقفوها وإعلاميوها؟ أم أن عليه أن يوثّق حقائق ووقائع، وإنْ يتلاعب سينمائيًا، فجمالية الوثائقي السينمائي (بل جمالية السينما برمّتها) كامنةٌ، في جزءٍ منها، في التلاعب السينمائيّ الذي لن يكون مغايرًا لحقائق ووقائع، وإلاّ فتكون السينما مجرد "بروباغاندا" وترويج يبرع بهما نظام كالنظام الأسديّ وحلفائه تحديدًا، فإذا بمعارضين ومناوئين له يتفوّقون عليه بفرضهم على الآخرين ما يجب على الآخرين فعله والتفكير به؟ أيتحمّل طلال ديركي وغياث أيوب وسعيد البطل (وغيرهم أيضًا) "مسؤولية" ما، غير تلك المعنيّة بالنتاج السينمائي الذي يصنعون، وبكيفية صُنعه، وإنْ يحمل الصنيع ما لن يُوافق عليه الجميع، فموافقة الجميع ورضاهم امتدادٌ لمفاهيم البطش والأحادية والديكتاتورية والأنظمة الشمولية؟ هل يُطلب منهم "إشارة جدّية لإجرام النظام السوري" أو "ذكر كلمة ثورة"، كي يحصلوا على "شرعية" ما من أطراف ما، ربما تحتاج هي (الأطراف) أصلاً إلى شرعية وجود أو موقف؟

أما التأثّر بشخصية مختارة في فيلم وثائقيّ تحديدًا، أو عدم التأثّر بها، فهي من "أعمال" المُشاهِد، الذي وحده يتحمّل مسؤولية كيفية مُشاهدته، وكيفية التأثر بما يُشاهده.

وإذْ يبتعد السينمائيون عن مُباشرةٍ في القول السينمائي، أو عن خطابية ممجوجة فيه، أو عن رفع شعارات مستهلكة وبائدة، كأن يقولوا "دائمًا" و"أبدًا" إنّ بشار الأسد مجرم وقاتل، وهو هكذا فعلاً؛ أو كأن يقولوا "دائمًا" و"أبدًا" إنّ الأصولية الدينية والجهاد المتزمّت يتوجّب محاربتهما والتصدّي لهما بشتى الوسائل، وهذا صحيح للغاية؛ فهذا (الابتعاد) شرط سينمائيّ كي يكتمل الفعل الإبداعي بأمثل صورة له وأجملها. والابتعاد لن يُلغي موقفًا لمخرج ربما يُعبّر عن إدانته مجرمًا يفتك ببلد وشعب وتاريخ وثقافة وحضارة خارج السينما أو معها، لكن بموارية واحتيال وتحرّر مطلق من كلّ خطابية جوفاء ومُباشَرة باهتة؛ وله من الأصولية والجهاد موقف ما أيضًا. فالمخرج يرى الفيلم سينمائيًا أولاً وقبل أي شيء، ويرى أن جماليات الفيلم تنكشف إنْ يبتعد الفيلم عن المباشرة والخطابية هاتين، وعن الإدانة الواضحة أيضًا.

المطالبون بإدخال الإدانة في أفلام، هي سينمائية بامتياز، يُسقِطُون السينمائيّ عن الأفلام، معتبرينها مجرّد "أشرطة دعائية ترويجية" لأفكار يلتزمونها ويفشلون، في الوقت نفسه، في إنجاز أشرطة دعائية تروّج لتلك الأفكار، فيطالبون الآخرين بما يعجزون عن فعله. المطالبون أنفسهم يظنّون أن "إعلان إدانة" هو الركيزة الأساسية لأي فعل إبداعي، وهو المدخل للاعتراف بشرعية المقاومة والمناهضة والتمرّد على القاتل، التي يُمكن لأي كان الحصول عليها شرط إدخال إدانة النظام الأسديّ والفصائل الجهادية المتزمّتة والمتشدّدة في أي عمل سينمائي أو ثقافي، كيفما كان.

لديّ قناعةٌ مفادها أن لا طلال ديركي ولا غياث أيوب ولا سعيد البطل، ولا أحد إطلاقًا، محتاجٌ إلى أن يُبرّر أو يوضّح، فأفلامهم تقول، ومن لن يفهم ما تقوله أفلامهم أو تعبّر عنه أو تبوح به، فهو المذنب بحقّ السينما وصانعيها، وربما بحقّ نفسه أيضًا. هذا كلّه لن يعني أبدًا تحييد كلّ صنيع سينمائي (وغيره) عن القراءة النقدية، التي يُفترض بها أن تنبثق من الفعل السينمائي بحدّ ذاته.

أما جوقة المهاجمين "الفيسبوكيين" وأشباههم، في حالات سينمائية وغير سينمائية في الوقت نفسه، فيليق بهم قولٌ للإيطالي الراحل أمبرتو إيكو (1932 ـ 2016)، صائبٌ وحقيقيّ وعميق: "وسائل التواصل الاجتماعي تتيح غزوًا للبلهاء"، مضيفًا أنها "تمنح حقّ القول لجحافل من البلهاء الذين، قبل وسائل التواصل الاجتماعي، غير مُتحدّثين إلاّ في حانة، بعد احتسائهم كأسًا من النبيذ، ولا يُسبّبون أي ضرر على الجماعة، التي تُسكتهم فورًا، بينما اليوم لهم حقّ التعبير نفسه الذي لحامل جائزة نوبل أيضًا".