مهمّة عمل

2018-12-06 11:00:00

مهمّة عمل
Joan Miró, People at Night, Guided by the Phosphorescent Tracks of Snails, 1940

محمد فرج

كاتب وصحفي مصري

أتذكر أشياء، وأظن أنها من الممكن أن تدلني على الطريق الصحيح، أتبعها، لكني لا أصل لشيءٍ، أحيانًا تتكرَّر العلامات، كما لو أنها تستنسخ نفسها، أو بناة المدينة الجدد يستنسخونها من أجل الإيقاع بأمثالي العائدين فجأةً ليبحثوا عن أشياء تركوها منذُ زمن ولم يعودوا ليبحثوا عنها، فقرروا إيقاعهم في لعبة تذكرٍ لا تقود إلا للتيه والإحساس القاتم بالغربة.

في النهاية، تم تكليفي بالمهمة. حاولت التملص كثيرًا من الذهاب، لكن الحجة كانت واضحةً مباشرةً، ولا يمكنني إنكارها، فالمكان هو مدينتي القديمة، وأنا الوحيد في فريق العمل الذي يعرف المكان، حاولتُ إخبار مديري أني لم أذهب هناك منذ زمنٍ بعيدٍ، وأن إحداثيات المكان قد شابها الكثير من التغير الذي يجعلني عديم الفائدة في المهمة، وأي زميلٍ يمكنه القيام بالعمل بغض النظر عن معرفته المسبقة بالمكان، لكنه رفض، فكان لا بدَّ من الذهاب.

كانت المهمة سخيفةً، فلا بدّ لي من مرافقة مندوبةٍ من الإدارة العليا للمؤسسة؛ لمتابعة الإنشاءات التي يقيمها الفرع الذي أعمل به في مدينتي القديمة، مشروعٌ بدأ منذ زمنٍ طويلٍ ولم ينتهِ، توقَّف مراتٍ عديدةً، وعاودوا العمل به مراتٍ، أثار انتباهي -وقت تم الإعلان عنه- أن هناك مَن فكَّر في الاستثمار في تلك البقعة، ولكن ساعتها أبعدتُ نفسي تمامًا عن الأمر؛ كي لا يتم توريطي في الذهاب إلى هناك، كنت قد توقفتُ عن زيارة المدينة، بعد أن رحلنا عنها جميعًا، ما يزال لنا بيتٌ هناك، لكن توقفنا جميعًا عن الذهاب.

قمت بمهامٍ شبيهةٍ من قبل. مرافقة مندوب الإدارة العليا، لا تعني شيئًا، فقط الكثير من عبارات الاحترام والمجاملة المتبادلة، وترديد نفْس العبارات تقريبًا مرةً بصيغة السؤال، ثم بصيغة الإجابة مع إضافة فعلٍ مستقبليٍ يُطمئن مندوب الإدارة العليا أن ما يسأل عنه، يجري العمل فيه، أو التخطيط له، أو قارب على الانتهاء، وهكذا ينتهي كلٌ منّا من تقاريره المتشابهة، ويرسلها إلى الجهة المطلوبة، وينتهي الأمر، حتى يحين موعد الزيارة التالية.

في البداية كنت أتحمس لمثل هذه المهام، وكنت أقدم عروضًا وافيةً وأمينةً عن سير العمل، والصعوبات التي تواجه المشروع، وكيف يمكننا التغلب عليها، ولكني اكتشفتُ مع تتابع المهام، ومع توبيخات مديري المباشر المتكررة أن كل ما أفعله يعرقل العمل أكثر ممّا يفيده، فوجود صعوباتٍ بالنسبة لإدارة المؤسسة، يعني أن فرعنا لا يقوم بعمله، وبالتالي فالمزيد من التدقيق والمتابعة، وأيضًا اكتشاف الأخطاء التي ستعود علينا جميعًا بتوجيه اللوم، ومرةً كادت تودي بأحد الزملاء الأغبياء، كما وصفه ساعتها مديري، للفصل من العمل.

بعدها عرفتُ حدودي جيدًا، وبالغتُ أيضًا في تقليص مساحتها، لم أكن أهتم بالنجاح، ولا أيضًا بترك عملي، فقط كنت أنفذ ما هو مطلوبٌ مني دون أي محاولةٍ للزيادة. صار طموحي الوظيفي ألَّا يلحظني أحدٌ، وقد نجحتُ في هذا لفترةٍ طويلةٍ، حتى بدأتُ أنسى لماذا أنا هنا. كان الذهاب للعمل والبقاء في حجرتي والعودة مرةً أخرى للبيت، يشبه إحدى المهام البيولوجية للجسم، التي يقوم بها الواحد ولا ينتبه لها كثيرًا.

فهمتُ من ترتيبات المهمة، أننا سنستقل نفس القطار المتجه إلى مدينتي القديمة، مع اختلاف الدرجة، لا يهم، هكذا أفضل، فلا أريد أن أقضي ساعات السفر في تبادل عباراتٍ لا معنى لها، وأيضًا نسيتُ طريقة ترديدها.

عرفتُ من مديري أيضًا أن المندوبة شابةٌ، كان يحاول أن يصف لي شكلها كي يسهل عليَّ التعرف عليها، لم أنتبه لباقي ما قاله، لقد توقفت عند كونها شابةً، فهذا يعني بشكلٍ ما أنها حمقاء، غالبًا ستتحدث عن طريقة تفكيرها المختلفة، وعن رغبتها في التغيير، وعن محاولاتها لإكساب المؤسسة طاقةً جديدةً، ولهذا فهي حمقاء. فالشباب عادةً أحمق، ولكنهم لا يدركون ذلك، يدركونه فقط عندما يعبرون مرحلة الشباب ويشاهدون شبابًا آخرين. تمنيت أن تنقضي المهمة سريعًا؛ كي أعود إلى جحري مرةً أخرى.

وقفتُ بين عربتيّ القطار أدخن، تاركًا نفسي لهزات القطار ليموج شكل الدخان المنبعث مني. من العربة الأمامية، جاءت شابةٌ سمراء، ليس هكذا بالضبط، إن أردتُ أن أكون دقيقَا، كانت في لون الشيكولاتة، وشَعرها طويلٌ مموجٌ، كانت شابةً حلوةً. وقفتْ أمامي بين عربتي القطار، وقالت كلامًا لم أسمع منه شيئًا بسبب الضجة، ولكن سمعتُ كلمة المؤسسة تتردد، ما آثار انتباهي، طريقة وضعها لطلاء شفتيها، كان متركزًا فقط في منتصف شفتيها العليا والسفلية، كأنها كانت تحاول رسم شفتين أصغر من شفتيها الحقيقيتين، خلال تلك الجمل القصيرة السريعة التي قالتها، غالبًا كان على وجهي ابتسامةٌ مرتبكةٌ، وأظنَّ أني كنت أنظر فقط إلى شفتيها وطريقة طلائها، قبل أن تنصرف رفعت وجهها إليَّ، وقبلتني سريعًا على شفتي وانصرفت بهدوءٍ.

لم أدرك ما فعلتْ، عدتُ إلى مقعدي، وأنا أتحسس شفتيَّ، وأنظر لأصابعي لأرى إن كان هناك بقايا من طلاء شفتيها قد بقي على فمي.

لم أتعرض لمثل هذه المواقف منذ زمنٍ طويلٍ، ولم أكن أسعى إليها أيضًا، لم أفهم كيف يمكن أن أتصرف خلال ساعات المهمة، لعنتُ مديري مرةً أخرى، والظروف التي وضعتني في القطار، لأداء مهمةٍ سخيفةٍ لن تفيد أحدًا.

وصل القطار إلى وجهته، تعارفنا على بعضنا البعض بشكلٍ رسميٍّ، أخبرتني بتفاصيل معينةٍ تود الاطلاع عليها، وأخرى تود مشاهدتها، اتفقنا على اللقاء بعد ساعتين، تمشيتُ معها قليلًا، ثم تركتها أمام باب الفندق الذي ستقيم فيه، وأخبرتها بضرورة انصرافي لأداء بعض المهام الضرورية قبل لقائنا، لم ألحظ عليها أي سلوكٍ يشير لقبلة القطار السريعة، فبدأت أشكُّ إن كانت بالفعل قُبلةً، أم أني قد نسيتُ كيف يتعامل البشر مع بعضهم البعض، وبدأت أفسر الأشياء بشكلٍ خاطئٍ.

لم يكن لديّ مهامٌ لأنجزها، ولكني لم أكن أريد أن أبقى معها، لا أريد أن أبقى مع أي أحدٍ، فقط أريد أن ينتهي هذا كله، وأعود إلى حياتي العادية الهادئة، بلا مهامٍ، بلا إداراتٍ عُليا، ولا قُبَلٍ من شفاهٍ مطليةٍ بشكلٍ غريبٍ.

أخذتُ أتجول قرب بيتنا القديم، تركت نفسي أكتشف ما بقي مما كنت أعرفه، وهل يمكنني أن أصل بسهولةٍ إلى البيت القديم. لم تَنْفجر المدينة، في زياراتي الأخيرة قبل الانقطاع كنتُ أشعر أن المدينة في طريقها للانهيار وللزوال، كانت هيستريا البناء تجتاح المكان، عمارات وأبنية ضخمة في كل شارعٍ، وكأحمق كنت أظن أن المدينة لن تحتمل كل هذا وستقضي عليه، بحربٍ أهليةٍ، بزلزالٍ كبيرٍ، بموجةٍ عاتيةٍ تزيل كل ذلك، لكن لم يحدث شيء. في أوقاتٍ ما، غالبًا حال يكون الواحد شابًّا، يتصور أن العالم إمَّا أن يسير كما يرى، وإمّا سينهار العالم ويزول، ولكن مع الوقت ينهار الواحد ويزول، ويبقى العالم يخرج من هيستريا إلى أخرى بسلاسةٍ مطلقةٍ.

أتذكر أشياء، وأظن أنها من الممكن أن تدلني على الطريق الصحيح، أتبعها، لكني لا أصل لشيءٍ، أحيانًا تتكرَّر العلامات، كما لو أنها تستنسخ نفسها، أو بناة المدينة الجدد يستنسخونها من أجل الإيقاع بأمثالي العائدين فجأةً ليبحثوا عن أشياء تركوها منذُ زمن ولم يعودوا ليبحثوا عنها، فقرروا إيقاعهم في لعبة تذكرٍ لا تقود إلا للتيه والإحساس القاتم بالغربة.

أشعر أني هزلتُ، وأريد التبول، مر عليَّ زمنٌ كنت أهتم بوزني وزيادته ونقصانه، لكن مر كل هذا. الآن ومع إحساسي بالتعب أشعر كما لو كانت ثيابي قد اتسعت بشدةٍ، وبنطالي على وشك السقوط، أُسرع في مشيتي من أجل اللحاق بموعدي، لا بدَّ لي أن أعبر قضبان السكة الحديدية، لكن عند نقطة العبور كان هناك شِجارٌ يبدو كبيرًا، صياحٌ وشتائم وحجارةٌ تطير، أحاول الابتعاد عن تلك النقطة والعبور من مكانٍ آخر، لكن الصراخ يتواصل، ورجالٌ يجرون حاملين عصيًّا وسكاكين طويلةً وبنادق أيضًا، ويطلقون السباب على رجال آخرين على الناحية الأخرى من شريط القطار، الحجارة لا تتوقف، وأيضًا الزجاجات المشتعلة، ورغبتي في التبول تزداد، حاولت الاختباء في أحد الأركان والتبول، لكن تطاير الطوب يجعل كل الأركان معرضةً لحجرٍ طائشٍ، ولا أريد أن أُصاب وأنا أتبول، بنطالي يزداد سعةً، المفترض الآن أن المندوبة التي في لون الشيكولاتة تقف أمام الفندق في انتظاري، والشِّجار لا يتوقف، ويبدو أن رقعته تتسع، وفي الأغلب لو رآها هؤلاء الرجال المهتاجون، سيأكلونها حرفيًّا، لا يهم، ما يهم أن أتوقف عن الهزال، وأن أتبول، لو استمر الوضع هكذا سأنتهي كبقعة بولٍ على جدارٍ في مدينتي القديمة التي لم أرها منذ زمنٍ طويلٍ.