عواء

2018-11-24 13:00:00

عواء
Sanne van Rozendaal

أحمد الفخراني

روائى وصحفى مصرى

شكرا يا إلهي على هذا النسيان العظيم، لم أذكرك فلم تذكرني، فرأيت دون حجاب، وعرفت أين تكمن لا نهائية قوتي ومتعتي. دربت شهيتي على ابتلاع الحياة، أن أكون شعلة رغبة متحركة، فأجذب ما حولي إلى فخ من عسل، لا أدين لك بذلك، بل انتحلته بنفسي، قاومت ضعفي وخجلي وعدم ثقتي بذاتي، أخبرني إن كنت في حاجة إلى العون.

إذا ما مارست جنسا جيدا ستحصل على عواء جيد، ستحصد القمر. في شرفة منزلي، كنت أراقب الليل، وأنتظر امرأة، امرأة قديمة في حياتي وجديدة بين أحضاني، هيام. حلمي المؤجل. رن جرس الباب، فتحته، لتدخل هيام، ترتدي فستانا قصيرا أزرق، مكشوفا عند الصدر. في عنقها الذي طالما أشعل خيالي، عقد بسيط وأنيق، وفي قدمها خلخال فاتن.

كنت في تمام تأنقي، لو رآني أبي الصعيدي الجلف لأرداني قتيلا بالنار لشكه أني لوطي.

قدتها إلى الداخل باتزان، عاملتها برقة من لا يبرز شهوته إلا بحساب معروف. لا أمنعها من رؤية استمتاعي بكل خطوة تخطوها. أعددت كل شيء بدقة، تخيرت الخمر، والطعام الطيب، الحلوى الفاخرة، هنا جبل من المتع يا حلوة، وما ترينه ليس إلا قمته الطافية. وأدهم نوفل، الخجول، الغر، مات، وبعث من جديد.

أدركت عبر العلم والتدرب خرائط اللذة في الجسد، والألعاب الخطرة التي تجعل الأورجازم مجرد نقطة بداية، نحو عوالم مثيرة أكثر، بألف وجه سأكون، رومانسي ووحش قاتل ومهرج ومغتصِب ومغتصَب ومتذلل وقاهر، سأشعل الفانتازيا، فوق مسرحي، سأمتصك يا عزيزتي، ستعرفين ليلة من ألف ليلة، رغم أنها ستكون ليلتنا الأخيرة، ستتوسلين إلي كي أمنحك ليلة ثانية، ولن أفعل، انتصاري اليوم نهائي، ما أن أنتهي منك حتى ترين شخصا آخر، جافا، حادا، نصل سكين بلا بلاغة أو كلمات ناعمة ومزخرفة، حيوان طيب لم يرغب إلا في انتقامه. الحب؟ طلبته منذ عشرين عاما، ومازالت ضحكتك المجلجلة الساخرة لمجرد طرح الفكرة، سوط يجلد ذاكرتي.

أي غرور يا هيام، لكني تعلمت الدرس: الحب شيء والجنس شيء آخر، كما قال كونديرا الذي قرأناه سويا في الجامعة، دون فهم.

قبلتها في خدها بلطف، هذا الخد كان مفتاح شهوتي طيلة السنوات التي أنكرتني فيها، وفضلت علي كريم الهواري "هي لا تحبك أنت يعجبها مجازك"، فيسخر قائلا: هي لا تحبك أنت يعجبها بتاعك". كنت الموهوب المتهته، المنغلق على ذاته، المهزوم في مواجهة جسد كريم. كل ما كنت أملكه هو اللغة على الورق، ككائن لم يحدث، بينما كان قادرا على انتحال أي فعل، والحيوية اللازمة لتحقيقه، ثم ادعاء الضجر  وهجره، خوفا من اكتشاف فقر موهبته، منتقلا من فعل إلى آخر. كان يحسدني على ما أملك، من صبر وأناة في اتباع الكلمات، دون أن يدرك أني لا أملك سواها.

كان يخفي هشاشته عبر  هالة مصطنعة من الغموض، شكرا للهزيمة، فقد تعلمت أول دروس الغواية عبرها: كن غامضا.

أما ما لم يعلمه إياي، كان إدراكي لكنه اللغة كمفتاح للغواية، كمد وجزر، متى تفصح الكلمات الشرسة عن ذكورتك، والناعمة عن أنوثتك. لأكتشف أن حيله في اقتناص هيام، كانت بائسة، معاملتهن بلا اكتراث مكتفيا بذاته وبابراز جسد لم أملك مثله.

مازلت أتذكر كيف حكى لنا كريم الهواري، انبهارها عندما ضاجعها للمرة الأولى، دون اكتراث لغرامي، وكيف فتنت عندما رأت ظهره للمرة الأولى، ظهر رجولي، تتقاتل النساء للحصول عليه، هكذا روى بغطرسة ومباهاة.

حصلت على جسد مثالي بالتدريب اليومي على الرياضة، بما لا يطغى على نعومة جسدي ولا يجعله مبنيا كقوالب الإسمنت، لا ترهلات أو كرش. فمدخلي للغواية، على عكس الهواري، كان الضعف والأنوثة، لا خشونة الذكورة عدا لحظات معينة. كازانوفا، إلهي الطيب، أستاذي الجليل. الرجال لقبوك بالشاذ حسدا كما وصموني، لكن في عالم من النساء كان اسمك هو السحر. شكرا للعلم وللإنترنت والكتب التي أتاحت انتحال أي موهبة، ولعشرين عاما من التدريب من أجل لحظة كتلك، عرفت خلالهن نساء أجمل وأشهى، لكن ظل رفضك لي جرحا، لن تشفيه إلا ليلة كتلك.

أمسكت يدها وجلسنا على فوتيه، قبلتها في رقبتها، أزاحتني بلطف، فاستجبت ، كأن لا شيء حدث، سأبدأ من جديد، بعد حين، من آخر نقطة وصلت إليها، من القبلة المرفوضة على العنق.

طرقعة إصبع جعلت الإضاءة خافتة، برزت شموع صناعية، لها إضاءة الهمس الدقيقة، كما أسميها، هكذا لا تفلت الأنثى، عليك حتى لحظة معينة أن تسرب هذا الخدر اللذيذ إليها، هالة من الأمان الوهمي، قبل الاختراق الأخير. ثم يأتي دور المرايا التي تحيط بكل شيء، انعكاسها من عشرات الزوايا، ستعرف نفسها كما لم تعرفها من قبل، جسد جميل ونابض، في اشتهائه تجدد حياته.

علقت هيام بصوت خفيض: هذا مبتذل. ارتبكت. أنقذتني قائلة: وجميل.

قلت: فلنشرب شيئا، ذهبت لصب كأسي نبيذ فاخر، أخرجت سجائر حشيش ملفوفة، طرقعة إصبع أخرى غير محسوسة، تطلق العطر من مكامن سرية. الرائحة، ضربة العارف.

أما مفاجئتي، فكانت عندما أضاء السقف بأبيات متلاحقة من الشعر – المجد للتكنولوجيا والراتب الضخم- بعضها إيروتيكي، بعضها مما أعرف أن هيام تحبه، بعضها من أشعاري القديمة التي كتبتها لها، لتضعني في خانة الغواية، حتى لا أتوقف عن التغزل بها شعرا، لكن لا تتجرأ وتخبرني أنك تحبني من فضلك.

أغجبها هذا. صمم المشهد. الغواية هي أن تملك أنت تصميم المشهد. الخطأ القديم تم علاجه. ضع أنثاك دائما في موقف تضمن فيه هيمنة يدك. إذا كانت غنية، عش كأنك أغنى، إن كانت فقيرة، فمطعم من ثلاث نجوم قد يكون كافيا. فلتكن أفعالك إيحاء أن حياتك أكثر إثارة، أن لهوك دائم، وأن ما تخفيه من المتع أقل مما تبديه. حس السخرية، لا منها، لكن مما حولكما، عليه أن يكون دقيقا، يدعي العفوية ببراعة. قدرتك على إضحاكها دون أن تصبح أراجوزا ستصيب الهدف. إن كانت جميلة أخبرها أنها ذكية، وإن كانت ذكية فتغزل في جمالها. قديما لم تكن كلمة عن جمالها لتحرك فيها شيئا، فقد كان هذا ما تعرفه عن نفسها، الآن، بعد أن تغضن الوجه، وذبل الجسد، لايهمها أي حديث عن العقل. لا أخطاء تلك المرة.

منذ أن دخلت مرمى نيراني ثانية، لم تراني إلا في موقف أحيا فيه بشكل أفضل من حياتها المبددة في التيه والهزائم، كل شيء فعلته أمامها، كان ببطء وصبر ومحسوب، في ارتشاف القهوة، في تناول الطعام، في السير، الحركة بكسل وتلذذ، التحدث بصوت يُقَطع الكلام ليخرج واضحا – كانت حيلتي للهروب من التهتهة، ثم صارت تكتيك غواية- كانت الرسالة: سأتلذذ بك، لن أبتلع هذا الجسد في قضمة واحدة، بل سأحيل كل قطعة فيه إلى لهيب، كل نقطة في جسدك هي فرج ومحطة أورجازم.

هكذا هي على بعد خطوة من غرفة نومي.

عادت إلي كي تستعيد ثقتها المفقودة في جسد يتآكل، بعد أن انفض عشاقها من حولها. الوله؟ تظنه مازال بالقلب. أكدت لها ما ترغب أن تراه. أدركت رعبها، ألا يأكلها النسيان، منحتها وعدا غامضا باستغلال نفوذي كرئيس تحرير، لدفع مسيرتها الفنية البائسة كمطربة إلى الأضواء.

شربنا وثرثرنا حول طموحها، رسمت الصورة المشتهاة، وأكدت الوعد الذي لن أحققه.

قمنا سويا إلى غرفة النوم، مسرحي الكبير. في ذهني أعرف ماذا سأفعل، أخطط لكل شيء، سأبدا بممارسة عادية، قذف للتسخين، لن يبدأ العرض الحقيقي إلا بعده. لا أملك قوة الثور، لكن الذكاء الكافي والتدريب والقدرة على انتحال التجارب، لأقنع عقلي بأني مقبل على متع لا تنضب، مرات أطول وأعمق من قذف سريع يتيم.

لا شيء للصدفة يا عزيزتي، ولا الأورجازم.

شكرا يا إلهي على هذا النسيان العظيم، لم أذكرك فلم تذكرني، فرأيت دون حجاب، وعرفت أين تكمن لا نهائية قوتي ومتعتي. دربت شهيتي على ابتلاع الحياة، أن أكون شعلة رغبة متحركة، فأجذب ما حولي إلى فخ من عسل، لا أدين لك بذلك، بل انتحلته بنفسي، قاومت ضعفي وخجلي وعدم ثقتي بذاتي، أخبرني إن كنت في حاجة إلى العون.

عندما خلعت بنطالي، خيل لي أنها تقارن قضيبي بشيء ما، تملكني الغضب، وقلت الجملة الخاطئة: سيكيفك هذا أكثر من قضيب الهواري.

انتفضت عروقها، وأظلم وجهها. قامت لتغادر. جملة أقل وطأة من تلك، جعلتني مطرودا من زمرتها طيلة عشرين عاما. رفضت كل توسلاتي ورسائلي. لن أعيش ما تبقى من عمري بغصة عدم حصولي عليها، الغضب تصاعد في نافوخي، أمسكتها من ذراعها. لا أحد يرفض أدهم نوفل مرتين. صفعتها، قاومت، ركلتني، مزقت فستانها. أظافرها في عيني تحاول خرقها، تلك يد هشة، أطفأت أحد الشموع في وجهي، صرخت، فرت، هرولت ورائها، قبضت عليها ، ثم جررتها مجددا إلى الفراش. تلك المرة استسلمت. رقد جسدها بلا روح، وهي تحمل تلك النظرة التي أعرفها: لا تتجرأ وتخبرني أنك تحبني من فضلك. الازدراء من جديد. يدي تركت مكامن اللذة لتضغط على رقبتها بغية خنقها. هل أقتلها؟ لم أفعل. أفلتها في اللحظة على الأخيرة. قامت، بفستان ممزق، انفرط عقدها الأنيق، بصقت علي. تجمدت في مكاني كصنم، ارتجفت من صفعة الباب.