ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

«حبّ بري».. الجانب الآخر من الحياة

2018-10-21 09:00:00

«حبّ بري».. الجانب الآخر من الحياة

في هذا الانتقال، تبرز قيمة الأرض ومدلولها، كما ينطوي بعد آخر في عملية النقل تلك من سورية إلى سلفالبارد ثم لبنان، وهو الخراب والدمار الذي حل بسورية وحلب تحديداً، ونقل بنك البذور منها، ما يعني فقدان الحياة بالكامل، فالبذور هي وعد بحياة جديدة لنباتات جديدة يقتات منها المزارع ويفرح لدرجة مشاركة دودة الأرض فرحها: "مبسوط قد ما دودة الأرض مبسوطة"

في أقاصي الشمال من العالم حيث آخر المناطق التي يعيش فيها بشر (2000 شخص)، على جزيرة في القطب الشمالي تدعى سفالبارد التي تتبع للنرويج، يقع ”بنك يوم القيامة“، أكبر بنك لحفظ حبوب المزروعات في العالم، وهو اسم له دلالته العلمية والدينية على حد سواء، وتُفصِح جمانة منّاع مخرجة فيلم «حَبّ بري» عن هذه الدلالة في أثناء شرحها عن ذلك البنك بأنه "مشروع علمي يهتم بخزن حبوب المزروعات في حالة حدوث كوارث مناخية أو كوارث أخرى من صنع الإنسان"، وهناك أيضا جانب آخر ديني، وهو تخيّل الآخرة كـ "حدث قادم والذي من الضرورة أن نعد أنفسنا له".

عملية نقل البذور وحفظها وتهجينها بين سورية ولبنان والنرويج خلال 12 شهر، هذه الفكرة البسيطة لفيلم «حَبّ بري»، ولكن الفكرة الأهم هي كيفية نقل تلك العملية وطرحها فنياً وبعيداً عن التوثيق الممل والتسجيل المباشر، فالحساسية التي رافقت عملية النقل والتسجيل، أظهرت قدرات المخرجة منّاع من خلال دمجها بين الزراعة والفن والموسيقى والرمز والحداثة، وإبراز شاعرية الإنسان المزارع وعلاقته بالأرض، فوليد، المزارع السوري، هو ضد فكرة بنك حفظ البذور وضد فكرة التحديثات في مجال الزراعة التي أدخلتها الشركات الحديثة وأدخلت تقنيات من أجل إكثار البذور: "الأرض فيها حياة، لها حياة، وطالما دخلتها مواد كيماوية ما بتكون مبسوطة".

في العام 1977 باشر المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) عمله في ريف حلب الجنوبي، وأنشأ بنك لتخزين الحبوب، بعد اتفاق جرى بين المركز والدولة السورية، من أجل العمل على تطوير الواقع الزراعي وتحسين المستوى المعيشي للسكان وتحليل التربة وإصلاحها وتطويرها ومعالجة الملوحة في تربة البادية، وهو الأمر الذي يراه أحد المزارعين غير مجدٍ، بسبب استخدام المواد الكيماوية في الزراعة، استمر عمل المركز حتى العام 2013 بعد أن تدهورت الأوضاع الأمنية في حلب، فلم يعد من الممكن العمل في مثل تلك الظروف، وأصبح من الصعب الحفاظ على ذلك المخزون الكبير من الحبوب (نحو 141 ألف عينة)، فارتأى المركز نقل ذلك المخزون إلى لبنان عن طريق افتتاح بنك الجينات اللامركزي في بلدة تريل البقاعية، بعد إعادة نقل البذور من سفالبارد إلى لبنان، وبنك يوم القيامة في سفالبارد يحفظ 80 في المئة من "نسخة الأمان" التابعة للمورثات الزراعية في حلب، في مقابل 20 في المئة نقلت إلى لبنان إذ "نقل نسخ الأمان تم في 325 صندوقاً وصلت إلى النروج، و128 صندوقاً منها عاد ووصل إلى لبنان منذ العام 2013".
 


في هذا الانتقال، تبرز قيمة الأرض ومدلولها، كما ينطوي بعد آخر في عملية النقل تلك من سورية إلى سلفالبارد ثم لبنان، وهو الخراب والدمار الذي حل بسورية وحلب تحديداً، ونقل بنك البذور منها، ما يعني فقدان الحياة بالكامل، فالبذور هي وعد بحياة جديدة لنباتات جديدة يقتات منها المزارع ويفرح لدرجة مشاركة دودة الأرض فرحها: "مبسوط قد ما دودة الأرض مبسوطة" يقول وليد وهو يعاين الدودة بين يديه، ولكن بعد فقدان الأرض والبذور، كان لا بد للفلاح السوري من ترك أرضه مُبعداً ومُكرهاً، ولجأ إلى أراضي لبنان باحثاً عن أرض يستطيع دب الحياة فيها من جديد، إذن، موت في أرضه وحياة في أرض غيره، واستطاعت المخرجة منّاع تمرير مشاهد منح الحياة للأرض الجديدة بطريقة فيها الكثير من الحب والفرح، لتبرز طبيعة العلاقة بين الأرض والفلاح، من خلال مشاهد الفلاحات السوريات اللاتي يرقصن وينصبن الدبكة في أثناء علمهن في الأرض بين سنابل القمح والمحاصيل الأخرى، فعملهن في الزراعة أفضل بكثير من الجلوس في المنزل، كما يتم عرض مشهد يُبرز الدقة والفنية التي تتعامل بها الفلاحة في عملية استخراج البذور من أمهاتهن.      
 


تثير بدورها جزيرة سفالبارد العديد من التساؤلات حول الحياة والموت وعلاقتنا بالأرض، وهي التي تحتوي ”بنك يوم القيامة“ مخزن البشرية للحبوب، منها ما يزرع حتى الآن ومنها ما توقفت زراعته، ولكن ما تزال بذوره محفوظة، عملية حفظ الحياة في مكان تكاد تنعدم فيه الحياة حيث القطب الشمالي وما يواجه الجزيرة من آثار المشاكل المناخية كالإنهيارات الثلجية، فهناك من يموت كل عام بسبب هذه الانهيارات، حيث تشكّل التغييرات المناخية تحديات قاسية، إلى جانب غرابة قوانين تلك الجزيرة، هذا ما يثير التساؤلات، إذ تتحدى هذه الجزيرة القوانين الدولية السائدة، كون هذه الجزيرة تعد مكاناً مفتوحاً لمن يستطيع الوصول إلى هناك، وبعد الوصول والحصول على مكان عمل ومأوى لبدء حياة جديدة لا يمكن لأحد أن يطردك منها، فالجزيرة هي خارج القوانين الدولية التي تَفرض على الناس الحصول على تأشير الدخول (فيزا)، والمثير في هذا المكان أيضاً أنه لا يسمح للناس هناك بإنجاب الأطفال أو الموت والدفن على أرض الجزيرة.

يذكر بأن فيلم «حَبّ بري» عُرض في الدورة الأخيرة من ”مهرجان برلين السينمائي“، وكذلك أمس في مهرجان ”أيام فلسطين السينمائية“، وفاز بجائزة "رؤية جديدة" في الدورة الأخيرة لمهرجان كوبنهاغن التسجيلي الدولي في الدانمارك، كما فاز بجائزة البيئة في مهرجان شيفيلد البريطاني، وجائزة في مهرجان "دوكوفيست" (Dokufest) في كوسوفو.