ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

«يوم الدين»: عن سلامة ”المشوّهين“ وإرث السينما المعاق

2018-10-19 02:00:00

«يوم الدين»: عن سلامة ”المشوّهين“ وإرث السينما المعاق

أتاحت رحلة بشاي وأوباما والحمار حربي للجمهور العربي والعالمي أن يري صعيد مصر من خلال بحث البطلين في سوهاج وقنا عن أصولهما، نرى مصر أخرى غير القاهرة التي تبدو حلمًا بعيدًا ومعقّمًا لبشاي كما جاء على لسانه في أحد المشاهد: ”أهل القاهرة ما بيجلهمش جُزام“، أو كما تُرجم شعور البعد الساحق عن مركز الدولة والحضارة المدنيّة عندما تساءل ”أوباما“ لدى مصادفته هرمًا صغيرا في طريقهما: ”مش همّا تلاتة؟ هما التانيين فين؟“.

يتحدّى صنّاع فيلم ”يوم الدين“ وعلى رأسهم كاتب ومخرج العمل أبو بكر شوقي في فيلمه الروائي الطويل الأول، المفاهيم المذوّتة والجامدة في مجتمعاتنا العربية حول معنى الاختلاف والبطولة، ويختبر السينما المصريّة، بصفتها أغزر مصنع للسرديات الفيلمية عربيّا وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا، ويحرجها في كثير من المواضع  لتبنّي صنّاعها في أغلب الأفلام أبطالًا وقصصًا تنصاع لأشكال متعدّدة من المركزيّة: مركزيّة القاهرة فضاءً مدنيًّا تنضُب أمامه أي فضاءات أخرى في مساحات مصر الشاسعة، مركزيّة البطل ”السليم“ المنصاع لقوانين نجم الشبّاك في أفلام القوالب الجاهزة وفق خلطات ”سوق“، مركزيّة سيادة الحضارة الإسلاميّة في معظم الأفلام والتحسّس من عرض ما هو مخالف لسرديّة يوضع في مركزها البروتاجونسيت الذكر المسلم السنّي، إلّا في تجارب قليلة حاولت الخروج عن المألوف وزعزعت قليلًا التصوّرات التجارية المدغدغة لما يعتقد على أنّه يعجب الجماهير المتخيّلة في قاعات العرض.

يندرج الشريط المصري الذي شارك في المسابقة الرسميّة في الدورة الأخيرة من مهرجان كان هذا العام  في خانة أفلام الرحلة (trip films)، خطوط الحبكة الرئيسيّة غير معقّدة: بشاي رجل أربيعني مسيحي تعافى من مرض الجذام لكن لم يفلت من المظاهر القاسية لهذا المرض الجلدي على وجهه وأطرافه،  يسكن منذ سنّ الخامسة  تقريبا -بعد تخلّي عائلته عنه-  في ما يعرف بالمستعمرة، وهي منطقة نائية يوضع فيها مرضى الجذام وذوو الإعاقات الجسديّة والأيتام. يحاول بعد وفاة زوجته المريضة أن يبدأ رحلة بحثه عن أهله، علمًا أنّه  لم يغادر المتسعمرة من قبل، ويستند في رحلته على خريطة بدائية جدّا  وُصفت له كي يصل إلى قنا في الصعيد، مرتجلاً حماره ”حربي“. يفاجئه بانضمامه لرحلته ”أوباما“، طفل مسلم من أصول نوبيّة، أُودع في مدرسة أيتام ومن سكان المستعمرة المنبوذة.
 


يختبر شوقي أبصارنا وبصيرتنا في يوم الدين، لا ندرك متى تحديدًا في الفيلم، يرتقي وعينا كمتلقّين إلى ما هو أبعد من الأطراف المقطوعة وآثار التسلّخات الجلدية على جسد بشاي  وأصدقائه في محيطه، وعلى من يقابلهم من مختلفين أو مشوّهين في رحلته. ينجح شوقي في مهمّة صعبة للغاية: أنسنة الإنسان أمامنا! يردّني هذا الموتيف إلى بدايات تعامل السينما العالمية مع  ذوي التشوّهات الخَلقية، من المستحيل تناسي فيلم طليعيّ  كفيلم the Freaks عام 1932، لتود براوننج، الذي قدّم أكبر عدد من أصحاب التشوّهات الخلقية في شريط واحد، وجعل منهم أبطالًا للفيلم الذي أنتج في فترة ما قبل قانون هايز للرقابة، وجعل من البطلة السليمة جسديًا في الفيلم، الأكثر تشوهًا من باقي الممثلّين المعوّقين فعليّا. يصنع شوقي أمرًا مماثلًا، يجعلنا نفكّر في معنى التشوّه والسلامة الجسديّة وربطها بالجوهر الإنساني، لننظرإلى بشاي القابع داخل كلّ منّا في حالات ضعفنا وحالات التمييز التي قد نتعرّض لها، ويجعلنا نتقزّز من تقزّز الناس منه في معاركه اليومية الصغيرة لدي مواجهة المجتمع الخارجي.

رسخت  عقليّة تمييز  في طريقة تناول الآخر المختلف في  معظم ما قدّمت السينما المصرية عبر تاريخها العريق، سواء كان هذا الآخر  نوبيًا، أو يهوديًا  أو مسيحيًا أو مثليًا أو مشوّهًا، لذا يشكّل  ”يوم الدين“  إضاءةً وإضافةً نوعيّة للسرديّات التي تتناول المختلف، في زمنٍ نحن في أمسّ الحاجة فيه عربيًا إلى تقبّل رأي آخر في مجتمعاتنا، وأهمّ ما في هذا التناول السينمائيّ الابتعاد عن إثارة الشفقة والابتذال الميلودراميّ في الحديث عن المشوّهين، كم بالحري عندما نعلم أنّ بطل الفيلم (راضي جمال)  كان مريضًا بالجذام وأنّ آثار المرض على وجهه حقيقية، وبالرغم من ذلك أنجز دورًا لا مثيل له في السينما العربية لخصوصية ظرفة، وكأنّه يحيّي مرضه بانتصار جريح، المرض الذي جعل منه بطلًا سينمائيًا يكسر كل المعاني المكرّسة للبطولة في السينما المصرية.

تتداخل دوائر تهميش بشاي: يحمل تشوّهات مرض الجذام، مسيحي الديانه، منبوذ من أهله، يحاول أن يستردّ آدميّته من خلال رحلته ليتمكّن من الوصول إلى ذويه، وكأنها مسيرة مخاض وولادة جديدة في عمر الأربعين للبطل، ولعلّ أكثر الموتيفات البصريّة العالقة في الذهن هي مشاهد ارتدائه لقبّعة نسجت عليها قطعة قماش تتدلّى على وجهه المندوب، ناوله إياها أوباما كي لا يثير نفور الناس الغرباء من حوله، في محاكاه وتكريم لفيلم سينمائي آخر وهو The Elephat Man عام 1982 للمخرج ديفيد لينش، صارخًا نفس الجملة بعد تجمهر الناس حوله ومحاولة إيذائه في القطار: أنا إنسان!

أتاحت رحلة بشاي وأوباما والحمار حربي للجمهور العربي والعالمي أن يري صعيد مصر من خلال بحث البطلين في سوهاج وقنا عن أصولهما، نرى مصر أخرى غير القاهرة التي تبدو حلمًا بعيدًا ومعقّمًا لبشاي كما جاء على لسانه في أحد المشاهد: ”أهل القاهرة ما بيجلهمش جُزام“، أو كما تُرجم شعور البعد الساحق عن مركز الدولة والحضارة المدنيّة عندما تساءل ”أوباما“ لدى مصادفته هرمًا صغيرا في طريقهما: ”مش همّا تلاتة؟ هما التانيين فين؟“.
 


يعود الفضل في الصورة الجميلة  على الشاشة إلى مدير التصوير الأرجنتيني فرديريكو تشيسكا،  زميل المخرج  في دراسة السينما في جامعة نيويورك، خالقًا مسافة قريبة من الشخصيات دون فذلكة واستعراض تقني هدفه الإبهار، لتكون الألوان الرملية الصفراء والترابية والنارية مسيطرة بجمال على قسم كبير من مشاهد الفيلم وإحكام التعامل مع الإضاءة في مشاهد اجتماع المجذومين حول النار في الليالي الحالكة السواد، ليولّد جماليّات بصرية وُلدت أساسًا ممّا اتُفق مجتمعيّا على أنّه قُبح، متّسقةً مع جماليّآت المضمون الذي خلقه كاتب ومخرج العمل  لما يعنيه شكل هذا التجمّع المشوّه أو المختلف وكأنّه اجتماع قمّة مصغّر يسخر من العالم، يحاكي مشهدًا آخر قدّمه المخرج خيري بشارة في ”آيس كريم في جليم“ بعد عرض ساخر غنـّي فيه عمرو دياب مع مجموعة من الفنانين ”المكرسحين“: يا معوّقين الدنيا اتحدّوا … الكون مشاع كان في البدايات!

على مستوى آخر من التناول للاختلاف وإمكانية احتوائه في أكثر الظروف غرابةً، ورغم ابتعاد المخرج عن تناول الواقع السياسي في مصر وعدم اهتماهه كثيرًا بتصدير هذا الجانب إلى الغرب كما صرح في حواراته، كان لافتًا مشهد اعتقال بشاي المسيحيّ الديانة وربطه بقيود واحدة مع سجين آخر من خلفية إسلاميّة سلفيّة أو إخوانيّة كما يُلمّح فيها، يهربان معًا رغم تخوّف كلّ منهما من الآخر لأسباب مختلفة، في مشهد مُضحك ومحرّك لديناميّة الفيلم، أو مشهد تقوقع بشاي واختبائه داخل نفسه، في زاوية ما في المسجد الذي يلجأ إليه مع أوباما منتظرًا لحظة اللقاء الصعبة. يدخل عليه شقيقه إثر معرفته أنّ أخاه المشوّه لا زال على قيد الحياة، لتتحقّق بعدها أمنية بشاي بالتعرّف على أسرته وأن تتقبّله، ليكون هو وأمثاله سواسيّة مع بقيّة الناس -ولو لساعات معدودة- ولا يضطرّ أن ينتظر يومًا غيبيّا ليتحقّق ذلك. في رحلته المضنية، استطاع بشاي أن يصل، ونحن معه،  إلى يوم الدين.