"مفك" لبسام جرباوي: مرحلة ما بعد رش الأرز

2018-09-28 11:00:00

أثناء ضحكاتهم يتلقى رمزي رصاصة تودي بحياته، ويصبح شهيداً، فيولّد ذلك الرحيل القهر في صدر أصدقائه الذين يقررون الانتقام عن طريق قتل إسرائيلي، لكن رصاصة صديق زياد تصيب فلسطينياً يعيش في الداخل الفلسطيني، ويتحمل زياد المسؤولة لوحده ولا يشي بأصدقائه، ويعاني عندما يدرك أن فلسطينياً كاد أن يموت بسبب تلك الرصاصة، ويقضي 15 عاماً في سجون الاحتلال.

ينتظر متابعو أخبار الأسرى يومياتهم، وينتظرون أيضاً لحظة الإفراج عن بعضهم، يتابعونها عبر وسائل الإعلام إذا لم تسنح لهم الفرصة باستقبالهم لحظة معانقتهم الشمس، نفرح باحتفالات مليئة برش الأرز على رأس الأسير المحرر، وزغاريد أمه وضحكات شقيقاته، وحمله على أكتاف الرفاق والأصدقاء، وخطاب موجز يؤكَد من خلاله مطلب الحرية لجميع الأسرى، وننتقل بعد ذلك إلى خبر آخر، ولا نبحث عن حال ذلك الأسير بعد أن تحرر، لكن المخرج بسام جرباوي في فيلمه الروائي الطويل الأول والذي حمل عنوان "مفك" وعرض سابقاً في مهرجان فينيسيا، ويعرض حالياً ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي، أراد أن يصوّر الأسير بعد مشهد الاحتفال بتحرره، وهذا من شأنه إدخال موضوع تم تناوله بأشكال مختلفة في السينما الفلسطينية، لكن لم يتم تناوله بكل هذه الخصوصية وبكل هذا القرب من التعمق في ما يشعر به الأسير بعد التحرر، فما بالك بسنوات قاتمة بعيدة عن عصر التكنلوجيا الذي نعيش، هل يولد من جديد، أم أن دوار الرأس الذي لا يبارحه هو الملاذ الوحيد ليعود إلى انطوائه في غرفة لا يشعر بالراحة فيها إذا ما لامسها شعاع من الشمس.

بطل الفيلم هو "زياد" الذي أدى دوره بحرفية وإلمام الممثل الفلسطيني زياد بكري، استطاع من خلال أدائه أن يحمل على كاهله نجاح تجربة أولى لجرباوي، تخبطت قليلاً في المشاهد الأولى وفي خيارات لممثلين  لم يكونوا على قدر حضور بكري، ومع ذلك تستطيع أن تتغاضى قليلاً عن مشهد لا يمت للواقع بصلة عندما تودع أم ابنها الشهيد بأداء كان من الجيد أنه أتى بديات الفيلم كي يتم نسيانه مع مشاهد لاحقة أدت إلى تماسك الحبكة وتسلسل الأحداث بشكل مترابط تشير إلى أن ثمة مخرج شاب سيقدم المختلف في إداراته لأفلام قادمة.

ينقسم الفيلم إلى فترة بداية التسعينيات، وفترة بداية الدخول إلى الألفية الثانية، وقبلهما يمرّ مشهد في الثمانينات مع أطفال يلهون في مخيم في مدينة رام الله، ويضرب أحدهم الآخر بمفك، ويتسبب له بجرح، هذا المشهد سيكون له نهاية بعيدة عن لهو الأطفال. ينتقل بعدها الفيلم إلى فترة التسعينيات، نرى الشاب زياد وهو يلعب كرة السلة مع أصدقائه، وفي نفس المكان ثمة ملثمون يواجهون الاحتلال، وتنتهي تلك الفترة في سيارة تجمع زياد وصديقه رمزي وآخرين، يشربون الكحول ويضحكون ويتسامرون ويعلنون عن بعض أحلام بالنسبة لمن يعيش بشكل طبيعي تعتبر ساذجة لكنها الترف لدى الفلسطيني.

أثناء ضحكاتهم يتلقى رمزي رصاصة تودي بحياته، ويصبح شهيداً، فيولّد ذلك الرحيل القهر في صدر أصدقائه الذين يقررون الانتقام عن طريق قتل إسرائيلي، لكن رصاصة صديق زياد تصيب فلسطينياً يعيش في الداخل الفلسطيني، ويتحمل زياد المسؤولة لوحده ولا يشي بأصدقائه، ويعاني عندما يدرك أن فلسطينياً كاد أن يموت بسبب تلك الرصاصة، ويقضي 15 عاماً في سجون الاحتلال.

يتم الإفراج عن زياد، ونشاهد ما يمرّ عادة من احتفالات تغطيها القنوات الفضائية، ويكون من ضمن المستقبِلين الفلسطيني الذي تم إطلاق الرصاص عليه، نراه يؤكد للإعلام ”مو مشكلة، بسيطة، هيني صاغ سليم“. يصل زياد إلى بيته، يبحث عن وجه أمه التي أدت دورها بشكل حميمي ورقيق الممثلة عرين العمري، يجثو على ركبتيه يقبل قدميها ويشم رائحتها، البكري استطاع أن يوصل تلك الحالة بكل ما تحمله من مشاعر، من الصعب أن لا تترك لدى المتلقي غصة، وتدرك أن الحرية بالنسبة له هي ذلك المشهد فقط، لأن بعد ذلك سيبدو أن الحرية من الأسر مجرد كذبة، وأن المحرر سيظل يعيش في السجن الذي يبنيه بداخله، كل الوجوه تغيرت، والأصدقاء أيضاً، وجه شقيقته التي أدت دورها "مريم الباشا" التي باتت شابة تنتظر الزواج، مراحل وحياة كاملة لم يعشها، عاطفة لها علاقة بذاكرة مكانية باتت أوسع من مخيلته، حتى لو ظلت غرفته كما هي تحمل كؤوس بطولات لمشروع لاعب كرة سلة محتمل.
 


القسوة في أحداث الفيلم تكمن في أن كل من هم خارج الأسر يعيشون حياتهم الطبيعية، ويعتقدون أن ذلك المحرر سيندمج بين ليلة وضحاها، فلا يلاحظونه وهو ينظر إلى الهاتف بخاصية اللمس وكأن الفضاء بات أقرب مما يتوقع، لا يلاحظونه عندما يختبئ من استقبال مهنئين، مشاعر عميقة ضمن سيناريو محبوك، يجعلك تنتبه إلى تفاصيل كل عضلة في وجه زياد، الذي يقف متسمراً أمام مصور فوتوغرافي عندما يقول له "ابتسم"، كم هي صعبة تك الابتسامة المرافقة للضجيج، ولرقم إلكتروني يجعله ينتظر دوره ليفتح حساب بنك، وأمام مشهد لتحليل بول وسائل منوي اجتهد كثيراً كي يحصل عليه، ليتخلص من وجع رأسه واحتباس البول…

مع كل تلك التفاصيل لا يبارح رمزي مخيلة زياد، بل أصبح حاضراً أمامه، يراه يجري في الشوارع بسرعة محاولاً اللحاق به، لتظهر في كل هذا الضجيج نموذج لفتاة فلسطينية أدت دورها "ياسمين قدومي" عاشت كل عمرها في أمريكا وقررت أن تعود، تتحدث لهجة غريبة. يحاول أن يعرف من أين جاءت، يقف أمامها متسائلاً عن سبب تلك العودة لترد عليه بما معناه أن المسألة لا علاقة فيها بين من ظل ومن غادر، فالوطن وقيمته على نفس المستوى لكل فلسطيني، تريد هذه الفتاة أن تصنع فيلماً عن الأسرى من خلال قصة زياد، وتجري بينهما حوارات متنوعة يدرك من خلالها المتلقي ماذا يعني الوطن لكل من يحمل الهوية الفلسطينية، إن كان يعيش على أرض فلسطين أو خارجها.

الأحداث والشخصيات كثيرة في الفيلم، من ضمنها شخصية رسام الجرافيتي الذي سيكون له دور مؤثر في شخصية زياد وتكوينها، لكن الربط بين شخصية زياد ورمزي كشخص أو كمعنى للاسم نفسه (الرمز) تقوده إلى منطقة يجد فيها نفسه داخل سيارة مستوطن، يدور بينهما حوار مهم باللغة العبرية يكشف من خلاله كره الإسرائيلي للفلسطيني وللعرب بشكل عام، وقد اعتقد أن زياد إسرائيلي لإتقانه العبرية. داخل السيارة، يدرك زياد ظهور صديقه رمزي كخيال، يدرك أنه قاده لينتقم، فيصرخ بلهجته الفلسطينية على وجه السائق "نزلني" وينتهي المشهد بوجود مفك يسند مرآة السيارة ينظر إليه زياد ويد الإسرائيلي على سلاح بجيبه… نهاية مفتوحة لكن الجميع يعلم أنه لو اكتملت سيعود زياد هذه المرة إلى بيته شهيداً.

كتجربة أولى للمخرج، يعتبر الفيلم إضافة للسينما الفلسطينية، ويؤكد على أن الحكايات لم تنته بعد، ويبشر بمخرج سينمائي من الواضح أنه سيترك بصمته وسيكون له اسم في صناعة الأفلام الفلسطينية التي تقدم المختلف وتستطيع أن تصل إلى العالم.