سمير سلامة... رحلة المنافي والفقد الموجع

2018-08-17 10:00:00

سمير سلامة... رحلة المنافي والفقد الموجع

رحل الفنان الرائد سمير سلامة، الذي كان حلمه أن يموت في الوطن ولكن القدر سبق الحلم، رحل لتبقى لنا بعد تلويحة الوداع الأخيرة كلماته خالدة بيننا ما حيينا، "مستعد لتقديم أي شيء مقابل محبة فلسطين لي، ودون منة على أحد، فكل ما قدمته في حياتي على مستوى العمل السياسي، وإنتاجات "الأفيش" (الملصق) في بيروت، وكل أعمالي جزء يسير أقدمه تعبيراً عن حبي لفلسطين.. لم يكن يهمني أن أكون فناناً بارزاً، أو كبيراً كما يقولون، وكل ما قدمته واجب ليس أكثر، ومحاولة للتعبير عن حب فلسطين وعن نفسي أيضاً من خلال أعمالي".

رحل الإنسان والفنان الفلسطيني السوري سمير سلامة، الخميس، في يوم عيد ميلاده الخامس والسبعين، في باريس بعد صراع طويل مع مرض السرطان.

خلال افتتاح معرضه الأول في فلسطين، "المعرض الاستعادي للفنان التشكيلي سمير سلامة"، في "غاليري ون" بمدينة رام الله، والذي ضم نحو 50 لوحة ضمن 150 لوحة، سيتم عرضها في أربعة أماكن في مدن رام الله والقدس وبيت لحم، وتعكس اللوحات المنتقاة مشواره في درعا، وبيروت، وباريس، وعدد آخر من منافي اللجوء، قال سلامة بصوت أنهكه المرض: "ردت لي الحياة حين وجدت نفسي في فلسطين.. أيها الموت هزمتك الفنون كلها.. لم أخضع لمرض السرطان ولم أعطه أي اهتمام، ورفضته باستمرار، لكن القدر أقوى منّا جميعاً، وبالنسبة لي فإن وجودي سيتواصل عبر أعمالي، وهذا ما يهمني".

ولد صاحب لوحة "تل الزعتر" (1977)، في مدينة صفد المحتلة، في 16/08/1944، واضطر إثر النكبة إلى الهجرة القسرية مع عائلته في رحلة شاقة عبرت قرية مجد الكروم في الجليل ثمّ بنت جبيل جنوب لبنان فبيروت وبعدها دمشق، ليستقرّوا في النهاية في درعا جنوب سوريا.

بدأ سمير سلامة منذ صغره بالرسم لتظهر موهبته جليّةً لكل من رأى رسوماته لوجوه أصدقائه وأقرانه، وقد استمرّ بتطوير موهبته في مراحل التعليم الأساسية.

بعد الانفصال الذي شهدته القاهرة ودمشق سنة 1961 عاد من القاهرة الفنان السوري الراحل أدهم إسماعيل، الذي لعب لاحقاً دوراً مهماً في الحركة التشكيلية السورية، ليتسلم وظيفته مدرساً للفنون التشكيلية في مدرسة درعا الثانوية، فوضع سمير على السكة الصحيحة باتجاه فنون الرسم بل أسهم في اختياره كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق.

يستذكر سمير دور أدهم إسماعيل في دعمه وتشجيعه له بمرحلة دراسته الثانوية، وكيف عرّفه على تنوع المدارس الفنية وتباين توجهاتها. كما يستذكر كيف كان يرافق جاره السوري مصطفى فتحي، الذي شاركه ولعه بالرسم في رحلات الصيف المدرسية والتجول في القرى السورية، وهي التجربة التي تركت بصمتها على لوحاته الفنية ولمعت في أول معرض أقيم بالعام 1963 في المركز الثقافي في درعا، تلاه المعرض الثاني بعام 1966 في ختام الدراسة الثانوية تمهيداً لمرحلة الدراسة الأكاديمية الجامعية في حقل الفنون التشكيلية. وانتزع المعرضان بجدارة تأشيرة دخوله لكلية الفنون الجميلة التي التحق بها عام 1967.

وقد ترك أساتذته في الكلية أمثال فاتح المدرس، نذير نبعة، محمود حماد، إلياس زيات ونصير شورى، بصماتهم على رؤاه واتجاهاته الفنية، حتى تمكن من المشاركة في أول معرض للخريف في دمشق.

 

منعطفات هامة بين بيروت وباريس

أنهى سمير دراسته الجامعية عام 1972 وانتقل إلى بيروت حيث التحق بدائرة الإعلام الموحد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، تحت مسؤولية وإدارة الكاتب الشهيد ماجد أبو شرار، وأسهم طوال ثلاث سنوات في تصميم ملصقات المقاومة (البوستر)، كما شارك في حينه في معارض جماعية في بيروت وكذلك في معارض عالمية عديدة باسم فلسطين.

وكان أن أسس مع رفاقه قسم الفنون التشكيلية في دائرة الإعلام الموحد، وأسهم في نشاطات الإطار النقابي للفنانين التشكيليين الفلسطينيين برئاسة الفنان الرائد الراحل إسماعيل شموط.

شارك عام 1973 في المهرجان العالمي للشباب في برلين، وعرض مجموعة من لوحاته الفنية، بقول: "بعتُ لوحة واحدة مقابل كاميرا بناء على نصيحة الفنان الفلسطيني إبراهيم هزيمة. شارك هزيمة في المهرجان العالمي برفقة الفنان السوري الكردي برهان كركوتلي، وكنتُ قد تعرفتُ عليه في دمشق، وغادر سوريا للدراسة أواخر الستينات إلى مدينة لايبزغ في ألمانيا الشرقية".


في الخامس من آذار/ مارس 1975 نزل سمير في مطار "بورجيه" الباريسي قادماً من دمشق لمتابعة دراسته العليا في كلية الفنون الجميلة "بوزار" المقابلة لمتحف "اللوفر". ليستقرّ بعد أن أنهى تعليمه الجامعي في باريس، وهناك بدأت مرحلة جديدة من حياته شكلت منعطفاً هاماً في مسيرته الفنية، "باريس أغنتني بالتأكيد ولكن يبقى المعلم الأول للفنان هو جهده، خبرته، مدى حب الاستطلاع لديه. كل هذا يلعب دوراً في كيف يكون الفنان فناناً بحق".

في فرنسا تسلم سمير، وظيفة لمدة ثلاث سنوات في مجال التصميم والغرافيك في قسم المطبوعات العربية في مقر منظمة اليونيسكو، ثم عمل مدرساً لمدة ثلاث سنوات في برنامج الرسم المفتوح في جامعة "جوسيو" الباريسية، كما ساهم في تشكيل مجموعة "فنانون من أجل فلسطين".

في باريس تعاون مع الشهيد عز الدين قلق ممثل منظمة التحرير في فرنسا، وكان قد تعرف إليه في سوريا وتواصلت علاقتهما على مدار عامين حتى اغتيال قلق عام 1977، فأنتج بتشجيعه مجموعة هامة من الملصقات السياسية (البوسترات).

وقد كانت بعض هذه الملصقات من ضمن الستين ملصقاً فلسطينياً التي عرضت عام 2015 على جدران المركز الثقافي "Jour et Nuit" وسط العاصمة الفرنسية، بتنظيم من المنتدى الفلسطيني للثقافة والإعلام في باريس.

يذكر سمير بأنه قام بالتعاون مع عز الدين ببلورة فكرة إقامة متحف للفنون ومعرض دولي من أجل فلسطين، "أنتجتُ بتشجيع من السفير القلق مجموعة جيدة من الملصقات السياسية، وتبلورت معه فكرة متحف للفنون ومعرض دولي بمشاركة الفنانين: الفرنسي كلود لازار، الجزائري رشيد قريشي، والسوريين خزيمة علواني وأشرف بقلة. أقيم المعرض الدولي في بيروت بإشراف التشكيلية منى السعودي، ثم نقل إلى طوكيو في اليابان وعاد إلى بيروت قبل أن تتعرض اللوحات للتدمير بفعل قصف الطيران الحربي أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران/ يونيو 1982".

وفي هذه الفترة الباريسية شارك سمير في عدد من المعارض الفنية أبرزها أصيلة في المغرب والقاهرة وعمان وغيرها من العواصم العربية والأجنبية وأيضاً في المعارض الداخلية في المدن الفرنسية.


لغة بصرية حملت فلسطين إلى أفق العالمية

تميز درب سمير سلامة الفني بأنه كان شائكاً ومليئاً بالألم والأمل والتجارب والإبداع، "لقد ذقت الأمرين بحياتي فقد تعبنا كثيراً حتى وصلنا إلى هنا بدون متحف ولا غاليري ولا أي شيء".

يُعدّ صاحب لوحة "درعا" (1961)، بحسب النقاد، ذو تجربة تشكيلية فريدة على مستوى أداءات التشكيل المحلي، فهو من الفنانين الفلسطينيين الرواد الذين ابتعدوا عن الموضوعات التي تم تناولها لفترات طويلة، مثل الأرض والثورة والمقاومة والانتفاضة، وتناولوا عوضاً عن ذلك الموضوع الجمالي ليسهموا في تشكيل خطاب عالمي حمل الوطن النازف إلى أفق العالمية.

ولقد أخذت لوحاته في مرحلة البدايات منحىً واقعياً سرعان ما تحول عنه إلى التجريدي، "في البدايات تأثرت بالمدرسة الانطباعية، كل الانطباعية فلم يكن لديّ فنان مفضل على آخر. فيما بعد، عندما بدأت بالتفكير أكثر وانكشفت عليّ أمور أكثر، لن أقول تأثرت ولكني أحببت رامبرانت بفضل معالجته للضوء والتقنيات. كما أحببت سيرجي بلياكوف الذي عاش بفرنسا أيضاً ولو أنه من أصل روسي، والفنان الإيطالي موراندي لأنه مبسط، والروسي نيكولا دستيل، وكلهم تجريديون ما عدا رامبرانت الذي كان واقعياً ولكنه قريب من التجريد".


ولا يخفي سمير أن مدينة معلولا السورية ألهمته إلى التجريد، حيث باتت لوحة "حديقة معلولا"، التي أنجزها في تسعينات القرن العشرين، والتي تتأرجح ما بين التصويرية وما بين التجريد نقطة تحول في مسيرته الفنية.

أما تجاربه الباريسية فقد حثته على الاستمرار بالمنحى التجريدي وألقت على ذائقته اتساعات لرؤيا أكبر لمعاني الفن والتشكيل.

وكان أن جرب في مرحلة من المراحل في الثمانينات، استخدام الخط العربي والكولاج والألوان، وفي مرحلة أخرى استخدم الشعر، كقصائد محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو ولوركا، وكان يضيف عليه ألوان وكولاج وغيرها ولكنه عاد إلى التجريد.


تلويحة الوداع الأخيرة..

عاد سمير سلامة إلى فلسطين في مطلع العام 1996، وقرر زيارة مسقط رأسه صفد للمرة الأولى، لكنه فشل في العثور على بيته، واستعادة تاريخ طفولته، على وقع المكان، وحكايات والدته ووالده.

يكشف سمير في أحد حواراته الصحفية عن أن زيارته الأولى لفلسطين بعد النكبة، لم تكن في تسعينيات القرن الماضي، بل في عام 1960 أو 1961، "عندما تقمصنا هوية طلاب سوريين، ودخلنا إلى البلاد برحلة مدرسية وزرنا القدس، لا أذكر التفاصيل، ولكني أذكر أن بدني اقشعر عندما نزلنا في أريحا. بعدها ذهبنا إلى رام الله وبيت لحم والخليل ونابلس، زرنا كل الضفة وعدنا إلى سوريا، هيك كانت أول زيارة.. تهريب بتهريب".

وبالعودة إلى زيارته لرام الله في الـ 96 تساءل سمير "ماذا يمكن أن أقدم كفنان؟"، يأتي الجواب على لسانه ذات حوار، "قدمت خبرتي في الفن لمجموعة من الشباب كانت تربطني بهم علاقات كهاني زعرب ورأفت الأسعد، ومعين حسونة وبشار الحروب. كما شاركت بالحوار مع سليمان (منصور) ونبيل (عناني) وخالد حوراني وأعدنا تنشيط الرابطة ولو أنها تفككت مرة أخرى بعد ذلك. بتلك الفترة طرحوا علينا إمكانية لتأسيس أكاديمية للفنون -هي نفسها الموجودة اليوم- بتمويل نرويجي، وكنا نحن الثلاثة بالإضافة إلى خالد. قلنا الرابطة لم تخرج بنتيجة فلنضع جل همنا بالجيل الجديد".

محمد بكري، يحيى يخلف، إيهاب بسيسو، خالد حوراني، سمير سلامة


في رام الله عينه الرئيس الراحل ياسر عرفات مستشاراً في وزارة الثقافة، فعمل لمدة عامين في التصميمات الفنية لمستشفى خان يونس جنوب قطاع غزة التابع لجمعية الهلال الأحمر، قبل أن يعود إلى رام الله للإشراف على دائرة الفنون وصالة الحلاج وبعض المعارض. ليتم بعدها انتدابه للمتابعة الفنية في مقر جمعية الهلال الأحمر في البيرة، وقد استمر في وظيفته برتبة مدير عام حتى تقاعده عام 2004.

في هذه الفترة أقام سمير معرضه مع بداية الانتفاضة عام 2000، الذي حمل عنوان: "مليون شهيد مليون حياة"، الذي أقيم للمرة الأولى في مركز خليل السكاكيني برام الله، ومن ثم بالناصرة ، بعدها في عمان، دبي، أبو ظبي، الشارقة، بيروت، ثم أربع مدن باليابان.

بعد عام من التقاعد أقام سمير معرضه الأول في فلسطين، بعد أربعة عقود من الممارسة التشكيلية، وعشرات المعارض في المنافي، هو الذي كان يؤمن أنه ليس بحاجة لأن يرسم فلسطين لكي يكون فلسطينياً، "ألا يكفي بأن أعرض وأثبت وجودي بفرنسا وأن يقول الكل بأنني فنان فلسطيني، بدل أن يقولوا عنا إرهابيين! آخر معرض لي كان في مدينة نان الفرنسية وأقيم تحت عنوان "ألوان فلسطين". هذا يفي بالغرض برأيي".

في حزيران/ يونيو الماضي افتُتح معرض استعادي للفنان الراحل في رام الله، ضم نحو 50 لوحة ضمن 150 لوحة سيتم عرضها في أربعة أماكن في مدن رام الله والقدس وبيت لحم، وتعكس مشواره في درعا، وبيروت، وباريس، وعدد آخر من المنافي، وهي المعارض التي نظمت بدعم من وزارة الثقافة والمتحف الفلسطيني، بجهود عدد من القائمين على الغاليريهات، والفنانين، بإشراف الفنان خالد حوراني. وقبل رحيله بيوم واحد، اختُتمت المعارض الأربعة الاستعادية لتجربته الممتدّة والمنفتحة على تجارب متنوّعه في المشهد التشكيلي العالمي.

رحل الفنان الرائد سمير سلامة، الذي كان حلمه أن يموت في الوطن ولكن القدر سبق الحلم، رحل لتبقى لنا بعد تلويحة الوداع الأخيرة كلماته خالدة بيننا ما حيينا، "مستعد لتقديم أي شيء مقابل محبة فلسطين لي، ودون منة على أحد، فكل ما قدمته في حياتي على مستوى العمل السياسي، وإنتاجات "الأفيش" (الملصق) في بيروت، وكل أعمالي جزء يسير أقدمه تعبيراً عن حبي لفلسطين.. لم يكن يهمني أن أكون فناناً بارزاً، أو كبيراً كما يقولون، وكل ما قدمته واجب ليس أكثر، ومحاولة للتعبير عن حب فلسطين وعن نفسي أيضاً من خلال أعمالي".