«شيخ جاكسون»: هل يقلق الإسلاميون؟

2018-08-13 10:00:00

«شيخ جاكسون»: هل يقلق الإسلاميون؟

اللحظة المصيرية في الفيلم كله، اللحظة الأكثر توتراً، هي عندما يقف خالد جاكسون أمام المرآة، وفي يده آلة الحلاقة الكهربائية، متردداً: هل يحلق ذقنه قبل لقائه محبوبته من أيام المراهقة؟ لا يستطيع المشاهد ألا يردد بينه وبين نفسه: "لا تفعلها، لا تفعلها، لا تغير نفسك من أجل لقاء سريع مع فتاة لا تعرفها". أو، على الأقل، هذا كان شعوري.

على العموم، كانت مراجعات النقاد لفيلم "شيخ جاكسون" غير إيجابية، ولكنها ليست سلبية تماماً (أحمد سالم في "مدونات الجزيرة" وأحمد شوقي علي في "المدن" وحسن حسام في "مدى مصر" ومحمد عبد الرحيم في "القدس العربي"، على سبيل المثال. حسام فهمي في "إضاءات" أكثر إيجابية وموضوعية.) تقييمي الشخصي إيجابي جداً، والسبب هو التالي: ابتعد المخرج عمرو سلامة عن السياسة (لا يوجد سلطة سياسية ولا شرطة ولا معتقلين)، ليقدّم لنا شخصية جديدة تماماً: الإسلامي القلق.

عادة ما يظهر الإسلامي في الفن كشخصية هوجاء انفعالية غير متوازنة. أول وأهم إنجاز للفيلم تخليص الإسلامي من هذه الصورة المشوهة السخيفة غير الواقعية. بطلنا، خالد جاكسون، يحب ويعشق ويفكر ويصلّي، ويفكر بالخيانة ويتوتر: لا يعلو صوته بعربية فصحى فارغة، ولا يهدد ليل نهار عائلته وجيرانه وزملاءه بنار جهنم.

تعصب جاكسون يأتي بطريقة هادئة طبيعية تلقائية: وهذا جزء من الواقع ويمثل شريحة من الإسلاميين. أيضاً، علاقاته المتوترة مع أبيه، ثم مع خاله، جزء من الحياة اليومية للإسلاميين: لا يقطع الإسلاميون كل علاقاتهم مع أسرهم غير المتدينة، كما لا يتبعون بتقليد أعمى من هو أكثر تديناً من أقاربهم: تقع الحياة في مكان ما بين هذين القطبين، وشيخنا جاكسون يمثل الشريحة العادية التي تقلق وتتوتر من العلاقات العائلية.

أحياناً، يصور البعضُ الإسلاميين بطريقة متوازنة، كما في أفلام داوود عبد السيد: ولكنهم يظهرون حاملين أجوبة على أسئلة القلق التي يطرحها أبطال أفلامه، الأقرب إلى العلمانية أو إلى تجاهل محورية الدين؛ كذا الأمر مع بعض أعمال نجيب محفوظ. عمرو سلامة يدفع بالقلق والتساؤل إلى بقعة جديدة قليل روّداها: الإسلاميون أنفسهم.

نرى خالد جاكسون مرتبكاً، متسائلاً، حائراً: هذه الصورة للإسلامي السلفي القلق تُقلق المفهوم المستقر عن الإسلاميين: لا تتطابق مع الصورة المتخيلة للإسلاميين عن أنفسهم، أي المحاربين الشجعان لجهل المجتمع والمدافعين الأمناء عن حقوق الدين؛ ولا تقترب من الصورة المتخيلة للإسلاميين التي يرسمها لهم العلمانيون: مجموعة من المتعصبين المتخلفين الواثقين الهمج. يطرح سلامة صورة جديدة مختلفة: الإسلامي المتسائل.

وأفضل ما في هذا الطرح أن المخرج لا يدفع بالقلق إلى تخوم الإلحاد: ليس القلق هو القلق الوجودي بين الإيمان بالله وبين موت الله على الطريقة النيتشوية. هذا القلق الإلحادي يصيب مجموعة صغيرة من العلمانيين العرب، ومجموعة كبيرة من العلمانيين في الغرب: ولكنه ليس النوع الوحيد من القلق الذي يصيب البشر، ولا هو النوع الأكثر انتشاراً بين الناس، عندنا أو في الغرب: دقة عمرو سلامة، وبراعة أحمد الفيشاوي، تتلخصان في تقديم نوع قلق يشبه قلق الإسلاميين الحقيقيين، الذين يعيشون بيننا، وقلق الناس العاديين المتدينين وغير المتدينين، في مصر وبريطانيا وتركيا وغيرها: هذا القلق يتمثل بجملة أسئلة حول الحياة اليومية، حول الأهل، الزواج، حدود الخير والشر وليس جوهرهما، حول قدرتنا على الالتزام بما نعتقد أنه الخير والشر.


هذا القلق يميز البشر، ويعلو بهم في محاولاتهم لبلوغ المثل الإنسانية العليا، أو المتعالية، التي يتمسكون بها.

كما أن قلق السلفي جاكسون لا يتأرجح بين معنى الحياة وبين عبث الوجود، على الرغم من أن الموت موضوعة رئيسة في الفيلم: معنى الحياة واضح، والموت يحضر كمعنى للحياة، كخاتمة لها، كهدف يجعلنا نغير من سلوكنا اليومي. المثير هنا، برأيي، هو التقارب الشديد بين أسئلة الوجوديين والأسئلة التي يطرحها السلفيون: لا أعرف إن كان هذا حقاً أحد نوايا المخرج الواعية؛ أم أنها قراءة أضفتُها لفيلمه، قراءة غير دقيقة ربما؛ أم أنها موجودة عند المخرج والكاتب، ولكن بشكل غير واع. على أية حال، ما أريد قوله هو التالي: لأن المخرج يقدّم القلق كمحور، لا يستطيع المرء ألا يستذكر الوجوديين وأسئلتهما ومتاهاتهم، كمتاهات وودي آلن وآلبير كامو، عندما يشاهد هوس خالد جاكسون بسؤال الموت: أسئلة السلفيين تتقاطع مع أسئلة الوجوديين والعبث: أمام المجهول، ينفتح طريقان: الدين، بأشكاله المتنوعة؛ والقلق العلماني، بألوانه المختلفة، من الزهد إلى المجون وصولاً إلى التشبث بحياة بلا خواتم ما ورائية.

اللحظة المصيرية في الفيلم كله، اللحظة الأكثر توتراً، هي عندما يقف خالد جاكسون أمام المرآة، وفي يده آلة الحلاقة الكهربائية، متردداً: هل يحلق ذقنه قبل لقائه محبوبته من أيام المراهقة؟ لا يستطيع المشاهد ألا يردد بينه وبين نفسه: "لا تفعلها، لا تفعلها، لا تغير نفسك من أجل لقاء سريع مع فتاة لا تعرفها". أو، على الأقل، هذا كان شعوري.

في الفيلم نقاط ضعف، والنقاد أشاروا إليها، وبالغوا فيها. أذكر منها اثنيتن تسيئان لجمالية الفيلم الأصيلة: الدكتورة النفسية تسأل أسئلة سخيفة؛ وغياب موسيقا مايكل جاكسون، التي كان من الممكن أن تغني الفيلم كثيراً. ولكن أداء الممثلين، خصوصاً مالك والفيشاوي والكدواني، كان صادقاً وقوياً، ومعظم المشاهد مرسومة بطريقة مقنعة، تشد المشاهد، المشاهد الذي يفكر فيه المخرج، بذكاء وشطارة: يريد سلامة للفيلم أن يكون جماهيرياً، كما يريد أن يحكي عن القلق: القلق من الموت، من المجتمع، من الأقران، من الحب، من تربية الأطفال، من العائلة، من الدين، من المستقبل.

اعتاد النقاد أن يعطوا تقييمات باستخدام النجوم: بين نجمة وخمس نجمات. أنا أحب جداً هذا النوع التقليدي الشخصي غير الموضوعي من التقييمات، وأعطي الفيلم أربع نجمات؛ وأختم بالقول:

فيلم ساحر، مدهش، أخّاذ. يجب مشاهدته لكل من يفكر بالحياة اليومية العادية للسلفي العادي، ولنفسه. في النهاية، ألا نحمل جميعاً قلقاً شخصياً عميقاً، عن موقعنا في الحياة وفي الموت، يشبه قلق الشيخ خالد جاكسون الصادق العميق؟