إبراهيم عبد المجيد: الكتابة بديل للجنون

2018-07-19 17:00:00

إبراهيم عبد المجيد: الكتابة بديل للجنون
تصوير: أحمد مجدي همام

والحقيقة أنني لم أكن أنوي أن تكون ثلاثية، وإنما اكتشفت احتياج الرواية الأولى لرواية أخرى بعد أن انتهيت منها وقرأتها. لكن ليس جزءاً آخر بطريقة نجيب محفوظ، وإنما جزء آخر بمعنى تحوّل جديد يصيب هوية المدينة، فالمدينة هنا هي البطل لا الشخوص.

عاش الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد (1946) عمراً طويلاً في الكتابة، منذ روايته الأولى "في الصيف السابع والستين"، وحتى اليوم، أصدر صاحب "البلدة الأخرى" تسع عشرة رواية، وخمس مجموعات قصصية، وثمانية كتب سردية متفرقة.

نال إبراهيم عبد المجيد عبر تاريخه العديد من الجوائز المصرية والعربية والعالمية، وصنّفت روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" ضمن أفضل 100 رواية عالمية من قبل موقع "ميوز ليست". وتُرجمت رواياته إلى عشرات اللغات. وتحوّلت بعض كتاباته إلى أعمال درامية وأفلام سينمائية..

هذا الرصيد الفني الكبير، مكّن الكاتب صاحب الأصول السكندرية من احتلال موقع متميز في المشهد الروائي المصري والعربي، ليصير عبد المجيد شيخاً للرواية المصرية وعرّاباً للأجيال الشابة، إذ يحرص مؤلف "قناديل البحر" على التبشير بالكتّاب الشباب وكتابة تقديمات لرواياتهم وأعمالهم الأولى..

في القاهرة العامرة، التقينا بإبراهيم عبد المجيد، وأجرينا معه الحوار التالي:

 

ثلاثية الإسكندرية هي عملك الروائي الأبرز، كيف ترى الثلاثية ضمن مشروعك ككل؟ وكيف ترى الإسكندرية بعين الروائي؟

الثلاثية صدرت على مدار 15 سنة، الرواية الأولى "لا أحد ينام في الإسكندرية" صدرت في 1996، والثانية "طيور العنبر" صدرت في 2000، والثالثة "الإسكندرية في غيمة" صدرت في 2012. "لا أحد ينام" هي حلم حياتي منذ اللحظة التي قررت فيها أن أصير كاتباً، فقد عاصرها أبي، وكنت في صغري أسمع منه حكايات الحرب بدلاً من الحكايات المعتادة للأطفال، وأذكر أني رأيته ينظف يده من شظايا لغم كان قد انفجر فيه إبان الحرب، في منطقة العلمين، وحكى لي كيف عالجه بدو المنطقة..

في العام 1990 كنت في طريق إلى مرسى مطروح للاصطياف مع أسرتي، وفي الطريق توقفنا للراحة في العلمين، وهناك دخلت إلى مقابر الجنود مع أولادي لأحكي لهم عن الحرب، وهناك تذكرت حكايات أبي ودمعت عيناي، ولما وصلنا لمطروح صرت أزور متحف روميل يومياً، وهكذا صارت فكرة الرواية تتشكل داخلي، ولما رجعت من المصيف بدأت فيها، ووجدت أنني محتاج للقراءة عن حقبة الحرب العالمية الثانية، فاتجهت إلى دار الكتب، ورحت أقرأ المراجع والصحف لمدة ست سنوات، أقرأ وأكتب، صرت كباحث الماجستير والدكتوراه أقرأ وأدون ملاحظاتي وبعض الأخبار في كراسات، ورأيت مصر في تلك الحقبة، مصر الليبرالية المنفتحة التي كانت تصدّر الموضة إلى أوروبا، والإسكندرية الكوزموبوليتانية، التي لم أرها، فقد رأيت خروج الأجانب منها في الخمسينات، أما ماضيها هذا فقد عشته في تلك الجرائد، أخذت الحياة نفسها من صفحات تلك الجرائد.

"طيور العنبر" تدور في الخمسينات وفترة الرئيس جمال عبد الناصر وخروج الأجانب من مصر، أو فترة انحدار المدينة، فعبد الناصر تصور بالخطأ أن القومية العربية تعني الديكتاتورية، واختار إخراج الأجانب لأنهم لن يرضوا بتلك الديكتاتورية القومية، ومن ثم حدث التأميم، فغادر أصحاب الصناعات الصغيرة وصنّاع النهضة المصرية من يونانيين وإيطاليين وشوام وأرمن وغيرهم، ومن المدهش مثلاً أنه في عز الوحدة مع سوريا لم يكن هناك تاجر سوري واحد في مصر! وهكذا تحوّلت الإسكندرية من مدينة متوسطية عالمية إلى مدينة مصرية، ولحق بذلك تفضيل الرئيس أنور السادات للتوجه الإسلامي بدلاً من التوجه القومي، وكان هذا ثاني التحولات التي أبعدت الإسكندرية ومصر عن الهوية المتوسطية.

رواية "الإسكندرية في غيمة" تحكي كيف فقدت الإسكندرية بعدها الكوزموبوليتاني ثم بعدها المصري، وتحولت إلى مدينة سلفية.

والحقيقة أنني لم أكن أنوي أن تكون ثلاثية، وإنما اكتشفت احتياج الرواية الأولى لرواية أخرى بعد أن انتهيت منها وقرأتها. لكن ليس جزءاً آخر بطريقة نجيب محفوظ، وإنما جزء آخر بمعنى تحوّل جديد يصيب هوية المدينة، فالمدينة هنا هي البطل لا الشخوص.

وفقاً لهذا البحث الكبير السابق على كتابك "لا أحد ينام في الإسكندرية" هل نستطيع القول أن الروائي في أحد أوجهه هو باحث ومنقّب؟

طبعاً، لأن من يبحث سيكتب أفضل. لك أن تتخيل أنني أثناء التجهيز لكتابتها زرت الصحراء كلها محطة محطة ومشيت حافياً على الرمال لأفهم المكان وأتشربه، خالعاً قميصي لأقيس الهواء والشمس، تمشيت حتى منطقة الألغام ومنخفض القطارة، كنت أقوم بتلك الجولات البحثية بينما أنا موقن بأن تلك الأحاسيس ستتسرب إلى الورق أثناء الكتابة، عاينت المقابر واقتبست من شواهد القبور أسماءً لأبطال الرواية، من الجنود الهنود والسودانيين. وكنت أتعمد بعد أن أرجع من جولاتي أن لا أقابل أحداً لكيلا أنشغل بأمر آخر ولكي أحتفظ بالحالة، وقد ذكرت هذه الحكايات في كتابي "ما وراء الكتابة".

على ذكر هذا الكتاب، والذي فزت عنه بجائزة "الشيخ زايد"، لماذا كتبت "ما وراء الكتابة"؟ وما قيمة الجائزة بالنسبة لك؟

لقد قرأت كتباً كثيرة وضعها مؤلفون أجانب مثل جارسيا ماركيز وفرجينيا وولف وهنري جيمس وفلاديمير نابوكوف وغيرهم الكثير ممن كتبوا عن "كيف كتبوا"، وأعجبتني الفكرة، فهي نادرة مصرياً وعربياً، فلا أذكر أنني قرأت مثل هذه النوعية إلا في كتاب لصلاح عبد الصبور "حياتي في الشعر". وكتابي يضم بعض خبايا وحكايات بعض رواياتي، كما يضم أرائي الفنية.

جائزة الشيخ زايد كانت اعترافاً بهذا الكتاب، وهي جائزة قيمة يسمّونها "نوبل العرب"، وقد شرفت بالحصول عليها.

نلحظ في أعمالك الروائية الأخيرة جنوحاً للفنتازيا وتنصّلاً من الواقع، فما الداعي لهذا الميل، هل هو لدواع فنية؟ أم لدواع اجتماعية واقعية سياسية؟

كثيراً ما يُوجّه لي هذا السؤال، وأجيب عنه بشيء من الدهشة، لأن الفنتازيا منذ زمان بعيد وهي جزء أساسي في رواياتي، في 1981 صدرت روايتي "المسافات"، والرواية كلها تقوم على الخيال والفنتازيا، ولهذه الرواية حكاية، إذ قبل تلك الرواية كنت قد نشرت روايتي "في الصيف السابع والستين" وهي رواية سياسية بامتياز، وكنت في تلك السنوات – السبعينات – أنتمي للحركة اليسارية والأحزاب السرية، وكان ذلك ينعكس على كتاباتي فتبدو أنها مبطّنة ومبنية على السياسة أكثر من الفن، كان هناك بعد مؤدلج في كتابتي، لذلك كنت أريد أن أكف عن العمل السياسي، ولما كففت، وجدت أن الأفق أرحب والعالم متسع، وجاءت روايتي ”المسافات" القائمة على الأساطير، وهي كلها أساطير من خيال الكاتب، ولم يكن بينها واحدة لها جذور في الميثولوجيا الشعبية العربية أو العالمية باستثناء حكاية "السمكة الذهبية"، أما باقي الأساطير فهي من سحر المكان نفسه، الذي كان معزولاً على بحيرة في الصحراء بالقرب من السكة الحديد التي لا تأتي إليها القطارات، وشخوص الرواية كانت تتعامل مع الطبيعة مباشرة، مع الخيال والأساطير والسحر، لذلك كنت سعيداً جداً أثناء كتابتها، حيث تخلّصت من السياسة والأيديولوجيا، ومن بعدها صارت الفنتازيا والغرائبية حاضرة في كتاباتي. صحيح أنها لم تكن حاضرة بكثافة كما في ”المسافات“، لكنها كانت حاضرة ومكوّناً رئيسياً، ومن ذلك مثلاً رواية "بيت الياسمين"، وهي تبدو كرواية سياسية تنتقد عصر السادات، لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك، إذ لجأت لحيلة فنية، بأن جعلت في مقدمة كل فصل، نصاً أسطورياً صغيراً من عدة سطور، أما الفصول نفسها فكانت تعرض حياة تنطلق من الواقع والمظاهرات والنضال السياسي وما إلى هنالك، مثلاً في مفتتح الرواية كتبت: "أخرج الناس من ترعة المحمودية جثة في جوال ما إن فتحوه حتى وجدوا أمامهم امرأة مبهرة الجمال، تدب فيها الروح شيئاً فشيئاً، وهم يتراجعون من حولها في فزع، حتى وقفت عموداً من نار فصعقوا وتساقطوا بين ميت ومغشي عليه، بينما صارت ترمح في الشوارع عارية شعرها الأصغر يطير عالياً، وكل من ينظر إليها انجذب وصار يجري خلفها ولا يعثر له أحد على أثر".

بالحديث عن رواياتي الأخيرة، مثل "قطط العام الفائت" و"قبل أن أنسى أني كنت هنا"، فهي روايات تحتفي أيضاً بالفنتازيا، وربما مرد ذلك إلى أننا عندما نعاصر أحداثاً كبرى، لا نستطيع الكتابة عنها بشكل مباشر وتوثيقي وبالتزامن مع حدوثها، إلا إن كان هذا التوثيق خارجاً عن تصنيف الكتابة الأدبية، وشخصياً لي كتاب بعنوان "أيام التحرير" يحكي عن ثورة 25 يناير وذكرياتي في الميدان، لكن يصعب تناولها بشكل أدبي، لذلك نلجأ للخيال والفنتازيا، ذلك أن تلك الأحداث تكون حية وغير مكتملة لأنها مازالت في طور الحدوث والتشكل، ولذلك تحضر الفنتازيا في أعمالي الأخيرة، فالثوار في "قطط العام الفائت" يتحولون إلى قطط، وفي رواية "قبل أن أنسى أني كنت هنا" تغادر الأشجار مصر حزناً..

أصدرت مؤخراً كتابك "أنا والسينما".. والسينما تبدو رافداً حاضراً أيضاً في كتاباتك الروائية، كلمني عن تأثيرها عليك وعلى مشروعك؟

دخلت إلى عالم الثقافة والفن من بوابة السينما، وأزعم أنني شاهدت أفلاماً أكثر من عدد الروايات التي قرأتها، بمعنى أن السينما رافد رئيسي في تكويني، فلم أعرف ما هي الكتابة وقبلها القراءة، إلا عندما عرفت السينما. في صباي، كنت أهرب (أزوّغ) من المدرسة لأدخل قاعات السينما التي كانت منتشرة في الإسكندرية، وبمبلغ زهيد جداً من مصروفي (25 قرشاً) أستطيع مشاهدة أكثر من فيلم، كنت بهذا المبلغ أقطع تذكرة وأشتري سيجارتين من نوع بلمونت وبعد الفيلم أخرج لأحظى بوجبة سمك شهية، وبعدها أذهب للحلواني. كانت الحياة في تلك الأيام أسهل، وكنت أحب تلك النزهات وجولاتي في سينمات الدرجة الأولى، وقد حكيت كل تلك الحكايات في كتابي "أنا والسينما" وهذا الكتاب فتح لي مغارة سحرية من التاريخ والذكريات... صديقي محمد كشيك كان يقول لي إنني (مُرزق)، وإنني كلما هممت بالكتابة عن أمر ما، يرسل الله لي هذا الشيء وأراه بكثرة، مثلاً في رواية "كل أسبوع يوم جمعة" كنت أكتب عن شخص منغولي (مصاب بمتلازمة داون) فكنت كلما نزلت من بيتي أراهم بوفرة في الشوارع، حتى أنني رأيت أحدهم لوحده على البحر يجلس تحت الشمسية، كأنه دعوة للمعاينة والمراقبة والدراسة، وبعد انتهاء الرواية لم أعد أراهم!

وأثناء كتابتي لـ "أنا والسينما" كنت أنسى بعض حكايات الطفولة المتعلقة بمغامراتي في قاعات السينما، لكني بطريقة محمد كشيك، وجدت صديقي جابر يتصل بي، وهو من شركاء تلك المغامرات، وذكرني بحكاية صاحبنا خميس، الذي سرق 100 جنيه كاملة، كانت مكافأة أخيه نظير مشاركته في حرب اليمن، فكان يسحب منها على مدار أيام، ويعزمنا على السينمات، حتى أمسك به أبوه وأخذه إلى قسم الشرطة وتعرض للضرب فاعترف بأسمائنا!

كل تلك الحكايات، وأفلامي المفضلة، والممثلين الذي أسروني، كتبتها ووثقتها في "أنا والسينما".

سأخرج من السينما إلى هذا السؤال الفنتازي: ما تفسيرك لظاهرة أنك كلما هممت للكتابة عن شيء تجده ماثلاً أمامك؟ وكيف يحدث أن تتضمن بعض الكتابات الروائية إشارات تشبه النبوءات؟

الكتابة بديل الجنون، أومن بذلك، والكتابة هي الكون الحقيقي للكاتب وعالمه الحقيقي، وعندما يهم هذا الكاتب بالبحث في أمر ما، يحدث ما يسمى بالـ Telepathy أو التخاطر، فيستدعي موضوع بحثه، لا سيّما إن كان هذا الكاتب مخلصاً جداً للكتابة، والكون يستوعب مثل هذه الظواهر. وبمناسبة هذا السؤال أذكر أن في روايتي "بيت الياسمين" هناك إشارة لغزو العراق للكويت، الرواية صدرت في 1986 والغزو كان في 1990!

أيضاً أذكر أني كنت في 1992 أنشر روايتي "قناديل البحر" مسلسلة في مجلة "نص الدنيا"، وكنت أذهب بشكل دوري لمراجعة كل فصل قبل نشره، وفي يوم وأنا صاعد إلى مبنى الجريدة وجدت الناس كلهم يهبطون ويصرخون "زلزال زلزال"، فنزلت معهم وعدت للبيت، كان ذلك زلزال 92 الكارثي الشهير، في اليوم التالي ذهبت لأراجع الفصل قبل نشره فقرأت السطر التالي: "هذه البلاد التي تسمى مصر والواقعة في الشمال الشرقي من قارة إفريقيا سوف تتعرض إلى حركات تكتونية عنيفة تهز الأرض والجبال"، فأصبت بالرعب !

في رصيدك 5 مجموعات قصصية، صدرت آخرها قبل سنوات طويلة، مقابل 19 رواية.. هل سحبتك الرواية من كتابة القصة القصيرة؟

الرواية سحبتني من أشياء أخرى مثل الترجمة، فقد عملت بالترجمة عن اللغة الإنجليزية في السبعينات والثمانينات، لكن في الحقيقة أنا أجد روحي وشغفي في الرواية، وكتابة الروايات سحبتني أيضاً من العمل الصحفي، ففي 1975 فور قدومي من الإسكندرية إلى القاهرة عُرض علي العمل في المؤسسات الصحفية الكبرى كالأهرام والأخبار لكنني رفضت، فأنا لا أستطيع أن أصيب نفسي بالشيزوفرينيا، فأكتب الصحافة بلغتها التقريرية الحيادية وأكتب الروايات بلغة أدبية، عدا الانشغال بالجري وراء الأخبار والسهر وحتى صراعات المهنة، لكن هذا لا يمنع أن أكتب المقالات، بل إنني أحياناً كنت أقسم وقتي: النهار للمقالات والليل للرواية، وأكتب مقالاً واحداً في الأسبوع.

أما القصة القصيرة، فأحن لها جداً، فهي ملاذ رائع بالنسبة لي ومتعة ساحرة، لكن ما يشكل لي عزاءً هو أنني أمتلك في رصيدي خمس مجموعات قصصية. وكتبت خلال السنوات القليلة الماضية ست قصص قصيرة، وأنتظر أن أكتب قصصاً أخرى لأتمكن من إصدار مجموعة قصصية جديدة.