موضوع فاسد

2018-07-18 11:00:00

موضوع فاسد
The Beheading of Saint John, Caravaggio, 1608

الموضوع الفاسد شأنٌ متحركٌ، نابضٌ، وإذ يعجز اللسان عن قوله، يتحول إلى طربٍ أقرب إلى هيستيريا، إلى غمامةٍ عطوف مزيفة خائبة، إلى إهابٍ من غيبوبةٍ أين منها كوابيس العدّ والحصر والإحصاء الأممية الجارية على قدم وساق.

لا جليل ولا حقيقة تصمد أمام موضوع فاسد، فالعمى الفاعل والهجوم الحانق من صفات الأخير، بل إن العمى أداة هجومه الأساسية.

ليس الموضوع الفاسد قديماً ولا جديداً، فالقدم والجدة ظرفان متناوبان نافلان، قد يكونان قرينين، وربما يتزامنان على وقع تعاقب الليل والنهار وذرفهما الأمكنة من دون قيد، فيما الموضوع الفاسد أشبه بكونٍ مجرّدٍ يتعالى على نتائجه الرديئة نفسها.

في محل ما سجينٍ، يبدو الفسادُ أصلاً أقوى من فكرة انتماء حر مضاد، إذ أننا غالباً ما ننفي صلة خفيّة ومعقدة بين فسادٍ سليطٍ وحرية ضعيفة مشتهاة، حالَ عطلةٍ يصلح أن تكون مبدأً أولياً بعدما أتم الله الخلق كلّه؛ مَن يجرؤ أن يضيف إلى الكمال صفةً في يوم الراحة الخالد. البعد الزمني نافلٌ إزاء فسادٍ تدرّج إلى عادة كونية، وتغلب الموضوع على ذاته تغلّب الدم على القلب.

رغم ذلك يقع فساد الموضوع موقع اللبّ من الثمرة، وهو بذلك عضوي الصلة بكل حادثٍ مزهرٍ. غير أننا ربما نمضي إلى بُعدٍ عصيّ إذا ما أضفنا أن الفساد حقيقةً لا يتعلق بموضوعٍ، فثمة مواضيع غير فاسدة، وربما كلها غير كذلك إذا ما نفينا البعد الأخلاقي المحض في وصم فساد الموضوع فساداً وحسب، فتناولها الرتيب يجعلها تكرر الرؤية نفسها عندما تعيد الحقيقة الحية إلى جذر ميت. لكنْ، في ضوء الضباب المرافق كلّ لسانٍ، كيف يمكننا البتّ والجزم إن موضوعاً ما قد فَسُدَ وانتهى أمره؟ وماذا يخلف فسادٌ على متابعيه الحريصين ألا يفلت منهم أبداً. أي أنه ربما لم يكن فاسداً بالأصل، ذاك أن الأخير أي الأصل-البداية غدا مرآة هوية نقية لمن لا هوية له أو هو ضد الهويات!

إن تجذّر ما يقع الآن لا يعدم الصلة بما وقع من قبل، أو هو في طور حدوث تالٍ، فالصلة محل الاعتبار تقع خارج موضوعها، وقوعَ البحر (الإطار) خارج الماء (الموضوع)، رغم أنها هي الصلة التي تصدره وتصنفه ثم تجد له مقاماً ترْبَ زميلٍ.

قد يقول قائلٌ إن قوة التجريد الموضوعية، ذات الهالة المنطقية المرغوبة، في حدّها الأقصى، تسحب من الحدث حسيته المادية الملموسة، مُقصيةً جهلَهُ، ومفضّلة الأعلى على الأسفل، الحكمة على عرق العضلة، والنشيد على الجوع الدفين، كما سحبت دياناتٌ الإلهَ ورفعته إلى لا مكانٍ لا زمانٍ، فماذا تكون الحالة إذن سوى مضاعفة ماءٍ بماءٍ بعد عَلْمنته وتحويله محض معادلةٍ قسرية؟

الحقيقة ربما تكون ماثلة في أن فساد الموضوع لا يعتبر الموضوع من أي جهة تخصه هو بعين ذاته، فالحاصل إن شبكة الفساد تحيط به إحاطة ظلال عملاقة بجرم صغير، وهي، أي الظلال، لا تصنع الموضوع في شيء أو نحو شيء، قدر ما تكون له ما يكون الإطار للوحةٍ والساعة لمعصم يدٍ، إذ لا أحد خطا خارج الوقت سوى ملائكة حزانى.

والإطارُ الفاعلُ، الهيكل كلّيّ القدرة على العمل المستمر والمتكرر، يجد فساد مفعوله موضوعَه المــُحَبّ حالما يقوله ويسويه، وهو صانعٌ فسادَه من حيث لا يدري قائله المفسد، ذاك أن القول إنما يحدّدُ ويبتّ حتى إنْ لم يتقصد الحدّ (العقوبة) ولا عنى البتّ (الحسم).

يمكن لغرفة أن تكون عالم الفرد – النواة، وهي إذ تحيطه وتخفيه إنما تحدّه وتنفيه، فضغط اللافعل – الإحاطة الكلية إنما هو ذروة الحصار المجرد من فعلٍ مباشرٍ، آني أو غير آني.

يحدث اللامُقال كلّ حينٍ حالما نرفع رؤوسنا قليلاً أعلى عيوننا التائهة وعقولنا المشدوهة، يهلّ السقف من دون حراكٍ كما يهلّ هلال العيد البعيد، فالطابع التكراري إنما يولّد من القوة الجامدة الجبارة ما لا تقوى آلة على توليده، وهو يصنع المعجزة فيما لا نجد الموضع المناسب لأقدامنا على الأرض ولا كلمة على لساننا تشفي غليلنا.

الموضوع الفاسد شأنٌ متحركٌ، نابضٌ، وإذ يعجز اللسان عن قوله، يتحول إلى طربٍ أقرب إلى هيستيريا، إلى غمامةٍ عطوف مزيفة خائبة، إلى إهابٍ من غيبوبةٍ أين منها كوابيس العدّ والحصر والإحصاء الأممية الجارية على قدم وساق.