بالنسبة للخيار الثاني أي توسيع البحث، قررنا في آخر عرض للثلاثية البحث في جذور النواح. أردت أن أبحث في جذور عشتار. في نفس الوقت، المرأة هي التي تحمل القصة وتنطلق بها وتصر على سردها. والنساء هن من هذا المنطلق سبب بطولة الرجل. المرأة حاملة الأحزان وفي نفس الوقت هي تحمي…
يختم الكوريغراف اللبناني علي شحرور بحثه الجمالي الراقص حول طقوس الموت في مهرجان أفينيون في نسخته الثانية والسبعين. سيأخذ بعضاً من النفس والراحة قبل التعمق في ثلاثية جديدة حول الحب. علي شحرور، ضيف مهرجان أفينيون للمرة الثالثة، ليس مثالياً بالقدر الذي يجعله يؤمن أنه قادرٌ من خلال خشبة المسرح على تغيير العالم. في نفس الوقت يرى أن ايماءةً حركية واحدة قد تجعل المشاهد يشعر أن العالم قد سقط. قبل ساعات قليلة على تقديم "عساه يحيا ويشم الحبق”، العرض الأخير من ثلاثيته حول تيمة طقوس الموت، أجرت “رمان” لقاء مع علي شحرور وكان الغوص في الحديث التالي:
علي شحرور الذي بدأ مسيرته الدراسية كطالب مسرح في الجامعة اللبنانية ومنها انتقل إلى الرقص. دعني أسألك قليلاً حول هذا الخيار. هل بني على قرار مسبق أي بمعنى آخر هل دخلت معهد الفنون الجميلة قسم المسرح لأنه فرصة لتعلم الرقص أم ماذا؟
لم يكن هناك شغف بالمسرح ولم يكن الأمر أبداً نابعاً عن رغبة في الرقص. كنت أود أن أصير ممثلاً ولم أكن أود أن أتوجه إلى اختصاص جامعي شبيه بخيارات أفراد من عائلتي... إلا أنني اكتشفت أن لدي شغف متخفي بالرقص، ما أن بدأت بصفوف التعبير الجسماني أو الرقص الدرامي حيث وجدت أن هذا النوع من التعبير يريحنى… وهذا بالضبط ما أريده وهذه هي طريقتي في التعبير التي أود اعتمادها على الخشبة. حين اتخذت القرار تحول الموضوع إلى هوس. لم يكن خيار الرقص عن سابق تصور وتصميم، وبني على عامل الصدفة. كان بمثابة اكشتاف في السنوات الأولى للجامعة، ومن ثم درست في مدارس رقص عديدة في أكثر من بلد وشيئاً فشيئاً تبنيت هذا الخيار المبني على الصدفة. لأجل هذا الأمر علاقتي مع الرقص قوية جداً لأنه اكتشاف.
عندما يكون هناك خيار ما مبني على الصدفة ويصبح بمثابة اكتشاف، تتمسك به أكثر؟
هنا يكمن جمال الرقص وكل ما نستطيع أن نعيشه ونختبره من خلال الجسد. أعتقد أنه يزيد المعرفة الشخصية بالعالم. عندما تختبرين شيئاً من خلال الجسد يبقى معك لوقت طويل. كان هناك نوع من الإنبهار والشغف بالجسد. الذاكرة التي يتركها حدث ما أو فعل ما بالجسد أقوى بكثير من فعل التفكير حوله. وهي معرفة أغنى للعالم، لعناصر الطبيعة، للعلاقة مع الآخرين. التجربة الجسدية، من وجهة نظري، تغني المعرفة والتعرف على الآخرين أكثر من التجربة الفكرية أو تلك التي تتم عبر مسار فكري. وهناك نقطة أساسية جداً في الرقص: عندما يكون الراقص قادراً على التعبير عن الأشياء من خلال الكلام هذا يعني أن الرقصة لا لزوم لها. يجب أن يكون عاجزاً عن التعبير عن الأشياء بالكلام كي يستلم الجسد هذه المهمة. على اللسان أن يعجز. وهنا الاكتشاف بحد ذاته.
ذكرت في ملخص عرض “فاطمة” المنشور في كتيب مهرجان أفينيون أنك تعلمت "كيف تكافح لأجل الإبداع”... كيف من ممكن لفنان يعيش في بلد كلبنان فيه هامش ومساحة من الإبداع بقدر ما فيه من عقبات إنتاجية واجتماعية وسياسية أن يكافح لأجل الإبداع؟ بمعنى آخر، كيف تمكنت في أول عمل مسرحي لك أن تتخطى العقبات التي واجهتها؟
أنا لم أتخطّ العقبات وما زلت حتى الآن غير قادر على تخطيها ولم يكن هدفي من الأساس تخطيها. كان هدفي أن أتعامل مع هذه العقبات، وهذه العقبات تحديداً هي جزء أساسي من مسار العمل. لو لم يكن هناك هذا الكم من المشاكل التي أواجهها لم أكن لأمارس عملي في الرقص ولم تكن تلك الحاجة الحقيقية للصعود على الخشبة ولخوض تلك المعرفة. كما تعرفين الرقص في لبنان لا يؤمّن مدخولاً، عليك أن تؤمّن وظيفة أخرى.. كل شيء... هي معركة بحد ذاتها ومفهومي للرقص مرتبط بكل تلك العقبات لأنه نابع عن حاجة للتعبير عبر الرقص، تماماً كما كانت الحاجة للرقص المعاصر حين انتشر في أوروبا. الناس الذين أعمل معهم بحاجة إلى إخراج أجسادهم إلى العلن وأن يواجهوا الأشياء وأن يتعاملوا معها ويسائلوا كل المسلمات الفكرية، الاجتماعية السياسية الخ. هذه العقبات خلقت إطاراً يحولها إلى حاجة ومعركة فنية فيها قدر من المواجهة والمقاومة، وفي نفس الوقت نطرح كفنّانين من خلالها علاقتنا مع كل موروثنا… كما كان لدي تحدّ كبير أن أثبت للجميع أن قرار ممارسة الرقص كان قراراً صحيحاً. أردت أن أثبت لأهلي وللمجتمع أن خياري هذا هو الأصح لي… مع العلم أنه في داخلنا ندرك أن هناك ما لا يمكن لنا أن نتخطاه. ليس هدفي أن أغير العالم من خلال عرض. يكفيني أن يتأثر مشاهد واحد من الجمهور وأن يسائل مسلماته كي يكون قد تغير العالم بالنسبة لي.. أعرف حدود المساءلة بالنسبة لي: أؤمن كثيراً بقدرة المسرح والرقص على ترك أثر لدى المشاهد ولكنني لست مثالياً لدرجة أن أعتبر أنني قادر على تغيير العالم.
منذ عام ٢٠١٢، أي منذ عرضك الراقص "دنس" الذي تم تقديمه في إطار مهرجان مقامات للرقص المعاصر مع إميلي توماس وأنت تعمل على طقوس الرثاء والحداد… لماذا العمل على موضوعة الموت؟
هنالك أكثر من مستوى لهذا الخيار. المستوى الأول هو مجموعة من التساؤلات المرتبطة ببحثي كراقص: "ما هو الرقص المعاصر المحلي؟ لو كنت أقدم عرضاً في لبنان، لمن أتوجه ومن يتفاعل معه؟ كيف يمكنني أن أفكر برقص معاصر لديه مراجع محلية ونابع من هنا؟ أردت حينها أن أفكر بموضوع حيث تتكثف علاقة الجسد بالدين والمجتمع والسياسة في حالته قصوى… وهنا اخترت موضوع الموت… لأن العزاء وطقوس الحداد تتم في أمكنة مكثفة دينياً وهناك قيود اجتماعية على الجسد الذي يبدو مكبلاً: كل الناس تراقب أهل الفقيد وتنتظر أفعالهم وفي نفس الوقت، طقوس الحداد هي باب الحرية الوحيد الذي يسمح للجسد أن يثور على كل هذه القيود وأن يتم التعاطي معه من قبل المجتمع بتسامح. من الممكن للأم أن تصرخ وأن تنتحب وأن تخلع عنها حجابها وأن ترقص دون أن تلام لأنها مفجوعة. يتسامح المجتمع مع الرجل الذي يغيب عن الوعي، وتُمحى فكرة الصلابة عنه لأنه محزون. كل هذه المبادئ تنهار. وهنا تبرز لحظة للجسد قوية جداً: هي اللحظة الحركية الخام… الحركة أو الإيماءة الجسدية في حالتها البربرية حيث ينفض الجسد عنه كل شيء ويثور ولو لثوان. تلك النوعية من الحركة كانت مثيرة للاهتمام لي وأرى أنها من أسمى اللحظات. هذا كان المستوى الثاني الذي أدى إلى خياري العمل على طقوس الحداد. المستوى الثالث هو أن أكتشف ما هي نوعية الحركة الصادمة وكيف يمكن إعادة تمثيل الطقس على خشبة الرقص. المستوى الرابع هو البحث في جماليات الرثاء: هناك الكثير من الطبقات والمراجع الغنية حركياً وموسيقيا… كما أنه كان يهمني أن أقوم ببحث نظري، لذا قمت بتنفيذ ثلاثية من العروض.
لنتحدث قليلاً عن عرض “فاطمة”. في هذا العرض تحدثت عن ثلاث شخصيات: فاطمة أم كلثوم، فاطمة الزهراء ووالدتك التي تدعى فاطمة...هنالك اذاً ثلاث مرجعيات لفاطمة: المرجعية الفنية التي تحتفي بالحب والنشوة والتي كما يقال دائماً أسكرت الأمة العربية والمرجعية الدينية التي كانت أهم من رثى الإمام علي والمرجعية الشخصية وصورة الأم. كيف ربطت بين تلك الشخصيات الثلاث؟
ارتكز عرض فاطمة على ثلاث أيقونات. الأيقونة الدينية، فاطمة الزهراء التي تمثل كذلك صورة الأم وهي الإبنة التي ماتت جرّاء حزنها على والدها وهي سبب خلاف سياسي. إذاً فيها هذا الوجه الحنون وتمثل أهل البيت، وهي أيضاً نموذج الأحزان. وأم كلثوم كما ذكرتِ هي أيقونة فنية جمعت كل العالم العربي وهي نموذج جمال. وأمي، الأيقونة الشخصية والتي يؤلهها شخص واحدٌ فقط: هي أيقونة لشخص واحد…
هي أيقونة علي شحرور.
أجل. فكان هذا الخليط. العرض لا يقدم سرديات عن أم كلثوم أو عن فاطمة الزهراء...إنما يتحدث عن علاقتهن بالحزن المتواصل...أم كلثوم صورة فيها الكثير من الشجن..ارتكزنا على قصائد كتبتها فاطمة الزهراء لوالدها وارتكزنا على أغاني أم كلثوم التي تحوي الكثير من الشغف واستندنا على نصوص كتبتها والدتي لوالدي حين توفى. أردنا التركيز على الحزن الذي يأكل من الذات. الحزن الذي يتآكل ويتآكل منك. هذا الحزن الشائع في الثقافة الشيعية حيث الحزن لا ينتهي… وهو أمر جميل... لأن الميت لا يموت، لأن ذكراه موجودة دائماً… وفي فاطمة كان خياري أن أعمل مع راقصين غير متمرسين غير خاضعين لقوالب رقص محددة. أردت أن أرى كيف يتعاملون مع ذاكرة أجسادهم.
في عرض موت ليلى عملت مع ليلى شحرور وهي قريبة لوالدك تعمل كـ "ندابة". كيف تمكنت من إقناعها وكيف تعاطيت معها على خشبة الرقص؟
مسار العمل في هذا العرض كان فائق الصعوبة وأخذ الكثير من الوقت. تعتمد طريقتي في العمل على الوضوح منذ البداية: أنا هنا لأنفذ عرضاً وليس لدي رفاهية التجريب.. حين أخبرت ليلى عن مشروعي، حدثتها عن كل شيء وأمضينا وقتاً ونحن نشاهد أموراً مرتبطة بالرقص حتى لو لم تكن مرتبطة بعملي بشكل مباشر، وتكلمنا كثيراً. وكانت ليلى قد تبنت المشروع إلى أقصى حد. السبب الأساسي هو أنها تحب مهنتها كندابة وهي الآن غير قادرة على ممارستها لأن هذا النوع من الندب لم يعد موجوداً لأسباب سياسية. لأن الندب الذي تقوم به ليلى مرتبط دائماً بصفات الميت عائلته: تقوم ببحثها حول الميت... تتحدث عن الشخص بحد ذاته. بينما اليوم مجالس العزاء تتم فقط حول الأيقونات الدينية، ويقوم أهل الفقيد وأصدقاؤه بالإسقاطات اللازمة. وهنا تختفي كل الشاعرية حول الموت... العرض يحاول استعادة تلك الشاعرية نوعاً ما. كان مسار العمل صعباً ولكنه كان ممتعاً في نفس الوقت. وكان هناك وعي من قبلنا لحساسية هذا العمل وأن المؤدي الأساسي يأتي من بيئة مختلفة تماماً ولكن لم يكن هناك إفراط في التعاطي بحساسية مع هذا الأمر. تعاطينا معها كأي مؤدية. لم أقم بتنازلات وكان هناك ندية في التعاطي: أنا مستفيد منها وهي مستفيدة مني… دفعتها للعمل كما دفعت كل المؤدين. ووصلنا لمكان تمكنّا فيه من إبراز قوة الإيماءة الحركية من خلالها. هناك ثقل في حركة ليلى لا يستطيع أحد أن يضاهيه. هناك ذاكرة ليديها التي ارتفعت لترثي زوجها وأخواتها. هذا العرض يعني الكثير لليلى… وهي شخصية تراجيدية من الدرجة الأولى رغم أنها تعيش على الهامش.
كيف تلقى الجمهور عرض “فاطمة” الذي يطرح موضوع حساس وإشكالي كالموروث الديني؟
ما وجدته قوياً في تجربتي مع هذا العرض، أنه لم يكن هناك اتفاق جماهيري عليه. لم يكن ناجحاً كثيراً في لبنان. الجمهور المؤمن كان له الكثير من التحفظات على هذا العرض والجمهور المنفتح كلياً أيضاً كان لديه مشكلة مع العرض لأننا أصرينا على القيمة الفنية للموروث الديني… وهذا أجده مثيراً جداً للإهتمام بالنسبة الي.
من ليلى شحرور ومن مؤدين غير متمرسين بشكل احترافي في الرقص انتقلت في عرض "عساه يحيا ويشم الحبق" إلى العمل مع حلا عمران وهي ممثلة مؤدية محترفة كما أنك وسعت بحثك في هذا العرض ولم تحصره في طقوس الرثاء الكربلائية بل بحثت أيضاً في طقوس رثاء الشرق الأوسط… لماذا هذين الخيارين؟
عادةً. لا أبني قرارات مسبقة حين أختار المؤدين الذين أعمل معهم. غالباً ما كان الأمر مرتبطاً بالصدفة. أعتمد على حسي الداخلي بشكل عام وهكذا وقع خياري على كل المؤديات اللواتي عملت معهن: رانيا الرافعي، أمامة حميدو ومن ثم يمنى مروان وليلى. في حالة "عساه يحيا...” أردت أن أختبر كل العمل البحثي الذي قمت به والمراجع التي جمعتها مع مؤدي محترف. كيف نستطيع خلق مواد تقنية وإخراجية عبر ممثلة ومؤدية محترفة من خلاصة البحث الذي قمت به. كما أنني أرى أن حلا تحمل بصوتها الكثير من الوجع وفيه كم كبير من العمق.
بالنسبة للخيار الثاني أي توسيع البحث، قررنا في آخر عرض للثلاثية البحث في جذور النواح. أردت أن أبحث في جذور عشتار. في نفس الوقت، المرأة هي التي تحمل القصة وتنطلق بها وتصر على سردها. والنساء هن من هذا المنطلق سبب بطولة الرجل. المرأة حاملة الأحزان وفي نفس الوقت هي تحمي…
كيف تطورت طقوس الموت ورؤيتك جسدياً لهذا الطقس على الخشبة بين العروض الثلاثة؟
لكل عرضٍ خصوصيته. عرض “فاطمة” يرتبط بحالة تعنيف الجسد وكيف نستطيع أن نخلق شاعرية ما من حالة التعنيف تلك. في نفس الوقت، هنالك إبراز للجمال والشهوة. حتى العنف بحد ذاته قد يولد شهوة للمؤديتين لأنهما تستمتعان بهذا العنف الطقسي. في موت ليلى بقيت بعض الأدوات من العرض الأول لكننا ذهبنا نحو الاختزال عبر إيماءة واحدة قد تلخص سياقاً اجتماعياً كاملاً وقد تملك قوة تجعل المشاهد يشعر أن العالم قد سقط... في “عساه يحيا” عملت أكثر على الفضاء ومواقع المؤدين بين بعضهم البعض. الرجال مثلاً يتموضعون خلف المرأة طوال العرض.
في إحدى المقابلات تقول أنه "لم يعد هناك مفهوم واضح لشهادة الموت" وبالتالي "لم يعد هناك مفهوم واضح للبطل والبطولة… وفي نفس الوقت تذكر في مكان آخر أنك "تعمل على فك عزلة الفن عن المجتمع والموروث الديني وهو حق لكل الناس”… يبدو الأمر كأنك تمشي في حقل ألغام.
أنا أعرّف عن عملي أنه طرح شخصي ولي حق في أن أتعاطى معه بصفته جزءاً من بيئتي. وهذا الموروث من حقي التعاطي معه ومساءلته ومن حقي ألا أخاف أن ألامس في طرحي الأيقونات الدينية. وحين أرى أن كل الطقوس الدينية تخضع لتوظيف السياسي: الطقس العاشورائي يفقد حالياً من جماليته ومن شاعريته مع كل الاستغلال السياسي… ليس هدفي أن أغوص في الشأن السياسي ولكن لم يعد الطقس نفسه وهذا أمر خطير. لذا أرى أنه من حقي مساءلة كل الموروث حين تضيع كل مفاهيمه مع العلم أنه إذا ما أردت إعادة النظر في مفهومَي البطولة والشهادة أرى أن الفكرة أصبحت كليشيه… لم تعد الفكرة مثيرة لي ولكنني ما زلت على قناعتي أن الموروث الديني هو موروث فني.