”جناحُ فلسطين“… خارج السّياق

2018-05-07 12:00:00

”جناحُ فلسطين“… خارج السّياق

اليوم، بأفلامهم وبصناعتهم السينمائية، بتقديم هذه الصّناعة، والجناحُ الفلسطيني هو المثالُ الحاضر هنا، يقدّم الفلسطينيون حكايتَهم، روايتَهم، ينتشلون أنفسهم من العالم الوثائقي كموضوعٍ ليُدخِلوا بأنفسهم تاريخَهم إلى العالم الروائي، يحكون بلسانهم هم، وكاميراتهم، للعالم حكايتَهم.

- هي لا تفكّر بغير المزاح!
- إلى من تتحدّث؟
- إلى المشاهدين.

تنظر آنا كارينا إلى الكاميرا، إلى المشاهدين الذين تحدّث إليهم جان پول بلموندو، يتشكّل إطارٌ في فيلم جان لوك غودار، إطارٌ خارج سياق باقي إطارات الفيلم، تأخذه ”مؤسسة الفيلم الفلسطيني“ لتصنع به هذا الملصق.

فكرته مأخوذة عن الملصق الرسمي لمهرجان ”كان“ السينمائي لهذا العام، والمصنوع من صورةٍ من الفيلم ذاته، «بييرو المجنون»، يقبّل فيها كلٌّ من آنا وجان پول بعضهما، في لقطة آمنة داخل السياق الذي تجري فيه باقي مَشاهد الفيلم.

هنا، في الملصق الفلسطيني، خاطبت الشّخصياتُ الجمهور، وهي ليست تقنيّة جديدة آنذاك، فقبل غودار بسنين اشتغل عليها ونظّر لها الألماني بيرتولد بريخت في المسرح، وقبله بسنين كذلك كتبها دوستويفسكي في الأدب، إنّما لم يحُل الزّمن دون بقاء هذه التّقنية ثوريّة وخارجة عن المألوف والإطارات والسياقات والمتوقّع.

وهذا الخروج عن السياقات المفترَضة مسبقاً، هو ما يمكن أن يكون ”صورةَ“ الحضور الفلسطيني في هذا المهرجان، بعدما كان في أفلام مشاركة (لسليمان وخليفي وأبو أسعد وحاج…)، تجسّدَ هذا الحضور اليوم في جناحٍ ثابت يُنصب لأوّل مرّة، ويشير لمكانه علمٌ فلسطيني.

شخصيّةُ غودار (آنا كارينا) التي تخرج عن ”السياق الرسمي“ للفيلم وحكايته، فتنظر إلى الطّرف الآخر من العالم، إلينا، تقوم بفعل تمرّدٍ على القوانين المسبقة التي ”لا يجوز“ تجاوزها سينمائياً، بل نعرف أنّ مجرّد النّظر إلى الكاميرا، دون حتى التّصريح بأنّ الشخصيّة في الفيلم تُشاهد المشاهدين وتحادثهم، أي أنّها تأخذ أمكنتهم كتحريض ليأخذوا مكانها، أي تحريض على الفعل وليس الاكتفاء برد الفعل (يعيدنا ذلك لمسرح بريخت)، مجرد النظر إلى الكاميرا، بصمت، كان فعلاً ”ثورياً“ سابقاً لفيلم غودار هذا الذي أُنتج عام ١٩٦٥ (سأخرج عن إطار المقالة هذه وأذكّر بأنّه العام الذي انطلقت فيه الثورة الفلسطينية المعاصرة، العام الذي خرج فيه الفلسطينيون عن الإطار الذي رسمه لهم العالمُ آنذاك)، نعود إلى الفعل ”الثّوري“ السابق لفيلم غودار، وكان في «الصيف مع مونيكا» للسويدي إنغمار بيرغمان، حيث اللقطة الأخيرة والطويلة والصامتة التي تقلبُ فيها مونيكا الأدوار بينها وبين مشاهديها، فتشاهدُنا نُشاهدُها.

وكما أنّ الحضور الفلسطيني يأتي ”كخارجيّ“ في المهرجان، في مفهوم المهرجان الذي صار مع غيره من المهرجانات أقرب لما قاله غودار عنها بأنّها ”مؤتمر لأطبّاء الأسنان“، اختار الفلسطينيون (أبناء الفدائيين) لجناحهم إطاراً خارجياً عن ذاك الذي اختاره أطباء الأسنان لأنفسهم، مُعارضاً له، متقصّداً تفكيك أدوات تراكم رأس المال المبني على حقوق الملكية الفكرية، مستخدماً المشهد ذاته إنّما بلقطة مغايرة، لقطة نقديّة تتفاعل مع الفكر مقابل اللقطة الحسيّة اللحظية في ملصق المهرجان.

يحتفي المهرجان بغودار باختيار لقطة من فيلم له، غودار السّاخط دائماً عليه، منذ ما قبل صراخه الشّهير في دورة المهرجان قبل نصف قرن، في الدورة المزامنة لثورة عام ١٩٦٨. ويحتفي به الفلسطينيون الحاضرون في أفلام له منها «هنا وهنالك» و«موسيقانا» و«إشتراكية»، قائلاً في أحد مَشاهدها بأنّ اليهود عام ١٩٤٨، بوصولهم إلى ”الأرض الموعودة“، دخلوا إلى الخيال، إلى العالم الرّوائي، والفلسطينيون، بخروجهم من الأرض، دخلوا إلى العالم الوثائقي.

اليوم، بأفلامهم وبصناعتهم السينمائية، بتقديم هذه الصّناعة، والجناحُ الفلسطيني هو المثالُ الحاضر هنا، يقدّم الفلسطينيون حكايتَهم، روايتَهم، ينتشلون أنفسهم من العالم الوثائقي كموضوعٍ ليُدخِلوا بأنفسهم تاريخَهم إلى العالم الروائي، يحكون بلسانهم هم، وكاميراتهم، للعالم حكايتَهم.

 

© Maquette : Flore Maquin - Photo : Pierrot le fou © Georges Pierre