«ترسيخ»: مسرح البقاء وصوت إيمان سعيد

2018-04-23 14:00:00

«ترسيخ»: مسرح البقاء وصوت إيمان سعيد
A lifeboat carrying the bodies of 29 refugees and migrants, who died on a rubber boat north of Libya while crossing the Mediterranean Sea. Oct. 5, 2016. AFP/ARIS MESSINIS

شخصية الملقب بكلاي نسبة إلى "محمد علي كلاي" ليس غريب الأطوار، لكنه ضعيف البنية وقع ضحية سخرية رفاقه منه منذ الصغر بعد ارتدائه لبلوزة تحمل صورة البطل العالمي المعروف، وبقي عالقاً بهذا اللقب كتعلقه الذي لم ينته بحب أحلام ابنة خالته التي كانت مقيمة في الكويت، لكنها أصبحت في سوريا مع عائلتها بعد حرب الكويت واجتياح صدام حسين للبلاد، وتأييد أبو عمار لهذا الاجتياح؛ في استعراض آخر لنموذج من واقع فلسطيني آخر كان يقيم في بلاد الملح والحر..

"كلاي: شو جابك!!

أحلام: إنت يللي ناديتني..

كلاي: الموج عالي والسفن غايبة.. الناس تعبت.. والولاد عطشت.. وهياتهم رجلي ردّوا علي ومشوني فوق المي وكأني المسيح مطعون ببوسة ألف صديق.. "مؤنباً أحلام" ولك ليش جيتي هللأ مش شايفه الموت قرّب.. اطلعي شوفيه حاميلتو الموجه الجايه..

أحلام: منيح.. لهيك اطمن وارتاح.. وخلّي البحر يوفر علينا حق القبر.."

هذا مقطع من سياق الموت الذي ألم بنا من نص «ترسيخ»، أتذكر فيلم «تيتانيك» الذي عرفنا من خلاله مأساة غرق سفينة حملت على ظهرها آلاف الأشخاص بدرجات متفاوته من الرفاهية، مات منهم العشرات وبقي بعضهم ليروي.

اليوم بات غرق السفن الناقلة للمهاجرين الهاربين من أتون الحرب فرجة نراها ونسمع عنها في نشرات الأخبار، وتقارير المنظمات الدولية.

هؤلاء الغرقى في السنوات الأخيرة كانوا من أبناء سوريا ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين فيها.

إيمان سعيد الكاتبة الفلسطينية صاحبة مسلسل «سحابة صيف»، تناولت الموضوع في مسرحية نسجت مشاهدها ببراعة العارف المتمرس في بيئة الواقع الفلسطيني في سوريا، كذلك العارف حتى العمق بطبيعة الشخصية السورية، وعموما بالنفس الإنسانية، ولا يفوتني هنا، أن الكاتبة خريجة دراسات مسرحية من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وقسم علم النفس في كلية التربية من جامعة دمشق.

النص المسرحي حمل اسم «ترسيخ»، ربما هذه التسمية تحمل في طيها أبعاداً أرادت الكاتبة أن تعيد عبره الأمور إلى مسمياتها عبر ترسيخ شخصياتها في المخيم وفي بيت المهاجرين بليبيا إضافة للقارب في البحر. ثم البلاد التي سيرحلون إليها ويرسخون أنفسهم فيها عبر بصمة من بقي منهم على رسم الحياة.

ترسيخهم لتثبيت مقولتهم ومظلوميتهم التي وجدوا أنفسهم عالقين داخلها دون حتى قرار منهم.

يبدأ النص المسرحي الحائز على المرتبة الثالثة عن فئة النص المسرحي الموجه للكبار في جائزة الهيئة العربية للمسرح في الكويت دورة 2016. يبدأ بخبر تبثه نشرة إخبارية عن غرق 450 شخصاً قرب شواطئ ليبيا.

هذا الخبر الذي يدل الحوار أنه بات عادياً وقريباً من السمع لكثرته نظراً لحركة الهجرة المفتوحة. ولكنه يظل مثاراً للسؤال من الشخص المثقف ككل المثقفين المهزومين والمخيبة أحلامهم، الأستاذ فجر أبو راشد، يسخر من كلاي البسيط الذي يفتي في شروط دبلن..

شخصية الملقب بكلاي نسبة إلى "محمد علي كلاي" ليس غريب الأطوار، لكنه ضعيف البنية وقع ضحية سخرية رفاقه منه منذ الصغر بعد ارتدائه لبلوزة تحمل صورة البطل العالمي المعروف، وبقي عالقاً بهذا اللقب كتعلقه الذي لم ينته بحب أحلام ابنة خالته التي كانت مقيمة في الكويت، لكنها أصبحت في سوريا مع عائلتها بعد حرب الكويت واجتياح صدام حسين للبلاد، وتأييد أبو عمار لهذا الاجتياح؛ في استعراض آخر لنموذج من واقع فلسطيني آخر كان يقيم في بلاد الملح والحر..

أما الطيراوي نسبة إلى منطقة الطيرة في حيفا التي سقطت في النكبة الفلسطينية، فهو نموذج للعبث الإنساني الذي يصاب به الأفراد بعد تحميلهم ذاكرة النكبات والهزائم والإنكسارات.. يغيب عقله بالحشيش ورغم فجاجته التي يحتاجها النص في معظم حواراته وخاصة مع الأستاذ المثقف فجر نراه في العمق أصدق منه.. فجر الذي اضطر لتغييب كثير من مبادئه لصالح مجاراة الواقع متدرجاً في مواقفة السياسية تبعاً للتيار السياسي المتمركز أكثر في الساحة السياسية الفلسطينية وجاء ذلك بالتوازي مع انحدار ذوقه في النساء والجمال والفن ضمن تعبير يعكس التوازي بين الموقفين.

هؤلاء الشخصيات، تتداخل معهم شخصيات أخرى منها نادر وزوجته أسماء النمطية التي يبدو من خلال النص أنها تريد إيقاظ زوجها من أحلامه. وهكذا يبدأ المشهد الأول حين يستيقظ نادر من نومه فرحاً، إذ شاهد حلماً أنه بصم بالسويد، لكن أسماء تنبهه أن آثار الحبر على اصبعه من بصمة أخذت له في "فرع فلسطين" عند المخابرات قبل أيام.

شخصيات المسرحية لمن يعرف المخيم وسوريا، يدرك أنهم في كل مكان يمكن أن يكونوا، ولا سيما المقهى الذي حضر في أكثر من مشهد بحواريات حول والهجرة والبحر والـ ”بلم“ (القارب المطاطي) لا يمكنك حين تقرأها أو تشاهدها، إلا وتمر مثيلاتها في ذاكرتك تحديداً ما بعد شهر ديسمبر 2012، الشهر الذي هُجر فيه أهالي مخيم اليرموك.

لم تكتف يد الكاتبة في هذا النص أن تمتد لتمسك بالألم الخارجي لواقع المعاناة الفلسطينية للفلسطيني أينما كان وأينما حل. هذا الألم الذي مهرته معاناة الحرب والتهجير واللجوء أو البقاء تحت سلطة الإحتلال، بل امتدت يدها في جرأة لتعرية واقع الشخصية الفلسطينية من الداخل لتعيش مكاشفتها مع نفسها، تحسب ما لها وما عليها وهنا يكمن الإستثناء برأيي لحاجة الشخصية الفلسطينية أن تضع نفسها دوماً أمام مرآتها، وهذا ما يحسب للنص في كسر نمطية الصورة المؤطرة للشخصية الفلسطينية ووضعها ضمن أبعادها الإنسانية الواقعية كافة. حتى القدرة على تشخيص المواقف المختلفة من واقع ما يحدث في المنطقة. لكنها تعود وتعيد الدفة لمجراها الأساسي في واقع الخيبة الكبير وهو الإحتلال، وقضية الوجود.

وهذا المقطع من النص يبين المقصد:

"كلاي (بصفته الراوي): كنا عم منمرّق إيامنا هيك.. الليل بدفن النهار.. والنهار بدفن الليل والناس مادي إيدها للحياة ومش طايلتها.. والبحر مرة بتفكروا رحم.. ومرة بيطلع من بطنوا ضوء الفجر.. وبالثالثة بصير قبر..

آآآآه (يتنهد بحسرة) مش على أساس نحنا يللي كنا بدنا نرمي اليهود في البحر.."

مسرحية «ترسيخ» لإيمان سعيد تحتشد بقصص وحيوات ناس، تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة من حيث الواقع بسبب الأماكن الجغرافية المختلفة التي أتت منها (دمشق – ليبيا – غزة – لبنان.. البحر) لكنها متشابكة في واقع الأصل الذي جاءت منه، فلسطين. لكنها رحلة اللجوء أو البقاء قد خلقت نماذج مختلفة من الفلسطينيين تنعكس بوضوح في هذا النص.. الخلفيات المختلفة للفلسطنيين الذين لم يعودوا أبناء مكون واحد.

كتبت المسرحية وكأنها نص للعرض للخشبة مباشرة بما حملت من حلول إخراجية، وتوصيفات دقيقة لكل مشهد، وفق المدرسة البريختية والتي تعني فن اللعب على الخشبة وتنقل الممثلين بين الأدوار دون تماه، فضلاً عن تعددية استخدام الأغراض والإكسسوارات كما جاء بالتوصيف، ورمزية استخدام فضاء العرض فتكفي البقعة الضوئية أن تشكل المكان، ويكفينا توصيف لستارة مسقط عليها اللون الأزرق لتكون البحر، بشكل يوضح فهماً عميقاً لكيفية توظيف المدرسة الفنية هنا على مستوى النص وكيفية بنائه والإنتقال بين مشاهده وعلى مستوى توظيف المقترحات في تقديم الرؤية الإخراجية إنه كما يقال نص عرض.

النصّ

هو مفتوح على العديد من الأسئلة.. هل الفلسطينيون اليوم هم مكون واحد يلتقون عند حلم العودة للوطن أم أنهم مكونات مختلفة كل حسب مناطق لجوئهم؟! هل اختلفت دوافع هجرتهم وأصبحوا يلتقون فقط عند حلم الخلاص والوصول للمكان الآمن والتخلص من عبء ما يسمى بالوثيقة الفلسطينية، هذا السجن الكبير الذي حوصر الفلسطيني ضمنه؟! هل يستلزم أن يقف الفلسطيني اليوم  بتجريد وتعري أكثر مع واقع تجربته في بلاد الشتات بتقييم أكبر وأكثر واقعية بعيداً عن الشعاراتية المقدسة والمزيفة، ليتبادل اعترافاته تجاه الآخر ومعه؟! هل هذا البحر الذي حمل إلينا هجرات متلاحقة لمستوطنين يهود هو نفسه الذي هددناهم به أننا سنغرقهم فيه يوماً ما لنكتشف أنه ذات البحر الذي تطفو فوقه اليوم ملامح لأطفال وشيوخ ونساء فلسطينيين وسوريين وغيرهم من العرب الذين لحقوا الفلسطيني في مصير لجوئه غير المنتهي؟! هل نهرب فقط من حرب دامية هنا أم من اضطهاد اجتماعي أقسى من دوي الحرب في أحيان كثيرة؟! هذه الأسئلة والقضايا وغيرها الكثير يسعى العرض المسرحي ترسيخ إلى طرح اشكالاته وتساؤلاته  بقالب من الكوميديا السوداء.

إنه نص يسعى ليقدم مقولة ربما لم يجرؤ أحد على قولها، أن ما ألم ويلم بشعوب المنطقة، ليسوا مسؤولين عنه، ولكن واقعاً سياسياً وإنسانياً يزداد قسوة كل يوم ومع كل لحظة ومع كل صاروخ ورصاصة، لا يشيع الناس موتاهم، لكنهم يشيعون ذاكرتهم وذكرياتهم ومستقبلهم.

ولعل ختام المسرحية أبلغ ختام لهذه المادة الانطباعية عن نص مسرحي اسمه «ترسيخ» نأمل أن نراه ممسرحاً على الخشبة في وقت قريب. من رسالة سبق تداولها على وسائل التواصل الإجتماعي..

"شكراً لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق كل ساعة لمدة يومين..

شكراً لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر..أنا آسف لأني غرقت..".