من مهرجان الفيلم العربي برلين التاسع ١١ - ١٨ أبريل

«ميّل يا غزيل» .. وثائقي عن حرب أهلية لم تنته

2018-04-18 11:00:00

«ميّل يا غزيل» .. وثائقي عن حرب أهلية لم تنته

لم تكف ليان الراهب عن طرح سؤالها المتكرر على هيكل عما يقترحه اسماً للفيلم، لكنها في النهاية لم تأخذ بأي من مقترحاته واختارت أن تسميه على إسم إحدى أغاني نجاح سلام التي كانت ثيمة لموسيقى فيلمها. بالرغم من ذلك عبّر هيكل عن رؤيته لشكل الصراع الطائفي في لبنان، حين اعتبر أن مسيحيي لبنان باقون كعتبة البيت، لا يمكن أن يكتمل البيت، أو لبنان، بدون هذا النسيج المتعدد في أبنائه، والذي تحول لنقمةٍ عليهم بدل أن يكون حافزاً للتنوع والتعدد الاثني والديني.

اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينيات من القران الماضي، واستمرت وتطورت لحربٍ شاملة اشترك فيها الفلسطينيون والسوريون والإسرائيليون والسوفييت والأمريكان وغيرهم. لكن وبعد عقود على انتهاء الحرب، لا تزال حتى اللحظة تلقي بظلالها على سكان لبنان، حيث تسود حالة من الفصل الطائفي في الأرياف، التي تبدو على سكانها حالة من التأهب، والخوف، والإحساس بتهديد الهوية الطائفية التي تكرس انقسامهم. ولا يزال المسلحون يسهرون على أطراف قراهم تماماً كما كانوا يفعلون في ليالي الحرب الأهلية، لكن هذه المرّة ليس من جيرانهم من الطوائف الأخرى فقط، وإنما مما يحدث لجيرانهم في الجهة الأخرى من الحدود في سوريا.

على بعد عشرة كيلو مترات فقط من الحدود السورية، حيث تدور رحى حرب أخرى بين المعارضة والديكتاتور وتنظيمات دينية متشددة، وفي إحدى بلدات مرتفعات عكار شمال لبنان، وسط حالة من التأهب والاستعداد لمجهول، كما لو أن الحرب الأهلية قد انتهت البارحة، أو ربما لم تنته فعلياً، صورت المخرجة اللبنانية إليان الراهب فيلمها الوثائقي «ميّل يا غزيّل»، 95 دقيقة، والذي تعايش فيه المزاع اللبناني هيكل ”الشمبوق“ كما يلقب، والذي يدير مطعماً في أرضه التي يزرعها بالفواكه، ويربي فيها الأغنام.

من خلال حكايته، تظهر شخصيات أخرى من محيط هيكل كالفتيات اللواتي يعمل في مطعمه، سائقي الشاحنات، وبعض جيرانه الذين تتقاطع حكاياتهم مع حكاية المقاتل السابق في مليشيا التنظيم اللبناني، الذي قرر اعتزال الحرب بعد قيام حزب الكتائب اللبنانية بشن حرب على بقية أحزاب الجبهة اللبنانية بما سمي حينها حرب توحيد البندقية المسيحية.

يصف هيكل الحرب اللبنانية التي قاتل فيها ضد الفلسطينيين، دون أن يتجرأ على قتل أحدٍ كما يقول، بأنها كانت "بلا طعمة"، أي أنها كأي حرب كانت بلا جدوى، لكن بالرغم من ذلك لا تزال أثارها قائمة وتفرض حالة من الفصل الطائفي بين جيرانه من الطوائف الإسلامية والمسيحية. حالة تصل أحياناً حد النزاع من أجل قطعة أرض باعها أحد سكان قرية من طائفة ما لجار له من طائفة أخرى.

تعرض الشخصيات التي قابلتها الراهب، في إحدى النقاشات في أمور قريتهم، خرائط للمنطقة ملونة بألوان تقسم القرى والأحياء بحسب طوائف سكانها، وتعتمدها البلديات والمجالس، ويجري التعامل مع الأمر وكأنه عادي، مما يصيب تياراً علمانياً صغيراً من سكان تلك المناطق، يحاول تغيير السائد، بالاحباط والاحساس بالهزيمة كما يقول أحد سكان تلك القرى الذي بدى يائساً ومحبطاً من تعامل الناس العادي مع فكرة الفصل الطائفي الذي يمارسونه بين بعضهم.

فيلم بورتريه

على مدار عدة فصول من السنة تبدل فيها الطقس والأحوال الجوية، وكذلك التوترات الاجتماعية والسياسية في واحدة من أعلى مناطق جرود عكار، اختارت إليان الراهب طرح أسئلتها المباشرة والمسموعة للمشاهد، على هيكل وجيرانه من خلف كاميرتها طوال الوقت، عن مشاكله اليومية الناتجة عن كل ما يدور حوله، فمن مشاكل الكسارات التي تضر بمزروعاته، إلى التوترات السياسية والطائفية والحرب الباردة بين الجيران متعددي الطوائف، إلى تداعيات الحرب السورية بشكلٍ مباشر عليه وعلى أسعار أغنامه التي يربيها، بعد أن ساهمت الأغنام المهربة من المناطق التي يسيطر عليها النظام وصادرها جنوده من سكان المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، إلى خفض الأسعار. كما ترصد انفعالاته في أدق تفاصيل حياته الشخصية وانكساراته التي تظهر بوضوح في حديثه عن هجرة زوجته باربرا له، ومعها أولادهما الأربعة الذين يبني هيكل بيتاً واسعاً بيديه من أجل استقبالهم فيه في الأعياد، رغم أنه لم يكن واثقاً من حضورهم.

حرب تعشعش في القلوب

قدمت الراهب فيلماً، يبحث في ما تبقى من حرب مزقت لبنان ولا تزال تعشعش في أرواح أبنائه ممن عاشوها، لتقول كما قال إحدى شخصيات فيلمها، "في لبنان متى توقفت الحرب؟ الحرب لم تتوقف".

الفيلم الذي حاز على جائزة لجنة التحكيم في مسابقة مهرجان دبي السينمائي الدولي 2016، وجائزة لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية في مهرجان تطوان الدولي للسينما المتوسطية 2017، وأيضاً جائزة لجنة التحكيم في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة ضمن مهرجان الإسماعيلية 2017. قدم بورتريهاً لرجلٍ لبناني، قد يبدو نموذجاً للكثير من اللبنانيين الذين لا زالت أشباح حرب لبنان تطاردهم في كل تفاصيل حياتهم اليومية.

لم تكف ليان الراهب عن طرح سؤالها المتكرر على هيكل عما يقترحه اسماً للفيلم، لكنها في النهاية لم تأخذ بأي من مقترحاته واختارت أن تسميه على إسم إحدى أغاني نجاح سلام التي كانت ثيمة لموسيقى فيلمها. بالرغم من ذلك عبّر هيكل عن رؤيته لشكل الصراع الطائفي في لبنان، حين اعتبر أن مسيحيي لبنان باقون كعتبة البيت، لا يمكن أن يكتمل البيت، أو لبنان، بدون هذا النسيج المتعدد في أبنائه، والذي تحول لنقمةٍ عليهم بدل أن يكون حافزاً للتنوع والتعدد الاثني والديني.

ينتمي الفيلم الذي جرى تصويره على مدىً عامٍ، لفئة أفلام الحرب، ويرصد تحولات في الشخصيات وفي الأوضاع المحيطة، لأشخاص عايشوا حرباً توقفت مدافعها ورصاصها، لكنها حاضرة في نفوس المقاتلين القديمة، ما يجعلها قابلة لأن تنفجر في كل لحظة.