اليهود في جبال كردستان واللغة الآرامية

2018-02-13 12:00:00

اليهود في جبال كردستان واللغة الآرامية
Jews of Kurdistan by Anthony Kersting

حكاية "نيمو دلال" (أي نيمو العزيزة أو الغالية باللغة الكرمانجية)، تُغنّى على الجسر حيث يتجمهر المتنزّهون في الربيع، وقد تقصده حتى أيامنا هذه الزوجات العاقرات أو المرضى الميؤوس من شفائهم. كانت النساء اليهوديات يقفن على الجسر نفسه ويغنّين بالآرامية المحدثة، مجللات بالسواد، حداداً على الشابة التي ما كان لأحد عبور النهر لولا مقتلها.

توزّع اليهود في كردستان العراق حوالي مائتي بلدة وقرية، وقارب عددهم 25 ألفاً في منتصف القرن العشرين، كانوا أمّيين في غالبيتهم الساحقة، وتراثهم محكياً. أطلقت الصحافة العبرية، في أحد تحقيقاتها، اسم "القدس الكردستانية" على بلدة زاخو، الكردية العراقية، المتاخمة لنهر الخابور المشارف على الجفاف. تاريخياً، ضمّت زاخو أكبر تجمّع لليهود في كردستان بأجزائها الأربعة، قد يكون واحداً من أقدم تجمعات اليهود وأشدها انعزالاً في العالم.

كان تعداد سكّان البلدة هو 11400 في سنة 1947، منهم 5000 يهودي كانوا يتحدثون أربع لغات هي الكردية الكرمانجية، الطاغية في التواصل بطبيعة الحال، والعربية التي كانت اللغة الرسمية للمدارس، والعبرية في الطقوس الدينية والصلوات، أما لغتهم الأساسية داخل بيوتهم فكانت الآرامية، وهذه الأخيرة في حقيقة الأمر لهجة محدثة من الآرامية خالطها الكثير من المفردات التركية والفارسية والعربية والعبرية والكردية. برز في تراتبهم الاجتماعي "الحاخام" الذي يتولى التعليم الديني والختان وذبح الأضاحي والكتابة، و"الشاشام" الذي يصف الأدوية كالعطارين، ويصنع الرقى والتعاويذ ويفسّر الأحلام.

هاجر يهود زاخو مطلع الخمسينيات في القرن العشرين، حين فُتحت أبواب الهجرة التي شرعتها إسرائيل، وقد شهدت تلك السنوات هجرتهم الكبرى، فوطّنتهم السلطات الإسرائيلية على أطراف القدس، بعدما أمضى معظمهم زهاء خمس سنين في المخيمات، وظلت أغلبيتهم جماعة منغلقة أسست لاحقاً "حي الأكراد" الموسوم بفقره، "حيث تعيش عوائل كبيرة في بيوتٍ صغيرة". هناك، وُصف اليهود الأكراد، على شاكلة اليهود المزراحيين، بأنهم "بدائيون، أفظاظ، فقراء جداً، غير متعلّمين، مؤمنون بالخرافات". في الواقع، أحبط نمط الحياة الإسرائيلي المسنّين على الخصوص، وهم يشهدون محو الكرمانجية والآرامية وإبدالهما بالعبرية والسعي الحكومي الممنهج لصهينة المواضيع، وترجمة مفردات المكان الكردي إلى أسماء أمكنة مختلفة بالعبرية. العديد من هؤلاء الرواة والمنشدين الكبار بالسنّ رفضوا تقصير قصصهم وأناشيدهم، مهما كانت الدواعي والأسباب، حين اقتُرِحت عليهم مجاراةُ روح العصر بتحديث أدائهم، أو حتى اكتفاؤهم من تراثهم الشفوي بقصص وعظية عن الحيوانات. امتنع بعضهم عن أداء نسخ مختزلة من الملاحم التي كانت تلقى ساعات طوالاً في أماسي كردستان، وكان بعضها يدوم بضع ليالٍ، فيلقيها المغنّي مسترسلاً ومرتجلاً أحياناً، من دون آلات موسيقية عادة، بينما الضيوف والمدعوون في حجرة مضيفهم، يشربون الشاي والقهوة ويدخنون التبغ الجبلي، حول موقد صغير في ليل الشتاء، والثلوج قد سدّت الدروب والطرقات. ثمة تسجيلات نادرة تسمع فيها نحنحات الجلساء وتعليقاتهم "تاو، تاو"، أو تنهيداتهم أو حتى بكاؤهم.

كان المغنّون والرواة اليهود في زاخو يروون وينشدون الملاحم والأغنيات والحكايات الكردية باللغات الأربع المذكورة آنفاً، وأحياناً يستخدمونها جميعاً في أداء واحد، بل كان بينهم من أدّى أغنيات كردية شهيرة مثل "سيامند وخجي" باللغة الآشورية. لعلّ أشهر هؤلاء الحكواتيين هو يونا غاباي، البائع اليهودي الجوّال في قرى كردستان، المعمّر الذي ناهز المائة عام (1870-1972)، وقد روى قصصاً تمتزج فيها أحداث الحياة اليومية بقصص التوراة وحكايات ألف ليلة وليلة.

كثيراً ما ارتبط الغناء الفلكلوري ليهود زاخو بدورة الحياة. فنجد مثلاً أغنيات ليلة الحنّاء التي تسبق الزفاف بيومين، حيث يُدْهن شعر العروس بالحناء لأن اللون الأحمر يقي من العين الشريرة، ونجد أغاني "وليمة البيت" التي تقام عادة في المساء بعد سقف البيت الجديد بالطين والقشّ، ويدعى إليها الجيران والأصدقاء. كان هناك أحياناً مغنٍّ يصحب البنّائين أثناء عملهم، وقد يذكرنا بالأغنيات الراقصة التي يستمع إليها أكراد سورية أثناء طليهم لسقوف منازلهم بالطين والملح مطلع كل خريف، وقد يتبع هذا العمل، الذي ينبري له جيران وأصحاب، وليمة من البرغل واللحم والبصل الأخضر واللبن، ثم شاي حلو بالقرفة.

 القربان

"جسر آرتا" أسطورةٌ شاعت في دول البلقان. لعل أشهر أمثلتها في اليونان، المتداول في سالونيكي وسط يهود السفرديم الناطقين بالإسبانية. إنها واحدة من "أساطير التأسيس"، نلمس صداها مثلاً في رواية «جسر على نهر درينا» لإيفو أندريتش، حيث "ما يبنيه النهار يهدمه الليل". كانت هناك وسط يهود زاخو رواية أخرى لهذه الأسطورة التي قد تكون أشهر ملاحمهم الشفوية، ويرد فيها: "قلعة زاخو عالية، وعلى قمتها ينوح الحجل"، والحجل هنا، ضمن طيف رموزه المتعددة في الفلكلور الكردي، يرمز إلى العذراء أو الفتاة الشابّة. 

نيمو، بنت "معلّم البنّائين"، فتاة قويّة تنقل الأحجار الثقيلة من الجبال إلى الوادي لتساعد أباها على بناء جسر زاخو الذي لا يطول عمره أكثر من يوم واحد، إذ تكرّر بناؤه وانهدامه، مرة بعد أخرى، على توالي العصور. حين جلجل صوت من أعالي السماء وتردّد صداه في المغاور والكهوف، مطالباً بقربانٍ يفتدي البناء الجديد، كان نذر معلّم البنّائين هو التضحية بأول مخلوق تطأ قدماه أحجار الجسر. ولما وصلت نيمو محضرةً الغداء لأبيها وكلبها يتقدّمها، شمّ الحيوان الخطر فتردّد وتجمّد على العتبة بين التراب والحجر، فسبقته نيمو بالخطوة الأولى التي جرّت عليها حتفها، بينما أبوها جالس مستسلم للقدر، يرى ابنته من بعيد ويندبها عاجزاً عن نجدتها. دُفن جثمان الابنة في أساسات الجسر، ويدها المستغيثة تحوّلت إلى شجرة سُمّيت "يد نيمو"، وتحتها حجرٌ يحملُ أثر قدمها.

حكاية "نيمو دلال" (أي نيمو العزيزة أو الغالية باللغة الكرمانجية)، تُغنّى على الجسر حيث يتجمهر المتنزّهون في الربيع، وقد تقصده حتى أيامنا هذه الزوجات العاقرات أو المرضى الميؤوس من شفائهم. كانت النساء اليهوديات يقفن على الجسر نفسه ويغنّين بالآرامية المحدثة، مجللات بالسواد، حداداً على الشابة التي ما كان لأحد عبور النهر لولا مقتلها.