استعادة للحب والجمال في صراع طبقي وعاطفي

«الماء والخضرة والوجة الحسن» ليسري نصر الله

2016-09-21 00:58:40

«الماء والخضرة والوجة الحسن» ليسري نصر الله

 استعاد يسري نصر الله سينماه التي افتقدناها، وانحاز لإهتماماته الخاصة وعبّر عنها بصدق ووعي سنتحدث عنه لاحقاً، واستطاع مع "السُبكي" تقديم وجبة خفيفة بسيطة، تشعر فيها بقوة يسري وامتلاكه لأدواته. عندما كنت أتحدث مع زملاء لي عن أفلام يسري الأخيرة، كانوا لا يتذكرون مثلاً من فيلم "احكي يا شهرزاد" إلا المشاهد التي جمعت سعيد الخفيف "محمد رمضان"  بصفاء "رحاب الجمل" ووفاء "نسرين أمين" وهناء "ناهد السباعي" داخل أحداث الفيلم، ولا يتذكرون باقي الأحداث، هذا ما بقي في ذاكرتهم بعد أن شاهدوا الفيلم في السينما وعلى الفضائيات. ما قدمه يسري في فيلمه الماء والخضرة والوجه الحسن هو استعادة جميلة وذكية لأجمل العناصر التي تميز سينما يسري وتضعه في مكانه الطبيعي.

قرأت أن السيناريو كان حبيس الأدراج لفترة طويلة وحانت الفرصة لكي يخرج إلى النور ويتم تنفيذه، وكان السبكي هو المتحمس، طبخة جميلة أعدها السبكي مع يسري بذكاء كبير، استطاعوا من خلالها تقديم مصالحة حقيقية مع جمهور تفتقده السينما التجارية، وهي خطوة هامة لكي نعيد النظر في سينما السبكي وما حققته إلى الآن من نجاحات مذهلة ومثيرة للجدل، السبكي صنايعي سينما، يحتاج إلى توجيه بذكاء، وسط هروب المخرجين منه وبعدهم عنه يجد بيئة مناسبة وسط أفكار ينتمي إليها ليقدمها للناس مع مخرجين آخرين، وتحقق إيرادات، ونجد المخرجين يشتمون نجاحه وأفلامه بعدها، وهم رافضون للتعاون معه. يسري كسر هذا الحاجز، والحقيقة أنه كسره بذكاء مخرج يمتلك أدواته وبعقلية سياسية استطاع أن يتوافق مع السبكي ويقدم لنا ما يريده هو، ما ينجح دائماً في التعبير عنه.

كما قدم يسري الأغنية الشعبية بشكل جديد وجميل وجعلها في إطار دراما الفيلم، وأوجد لقطات تعبّر عن الشخصيات وسط الأغنية، كأن ينتقل إلى الشخصيات، وتتحدّث أثناءها، حيث نفهم مشاعرهم ونرى نظراتهم، فلم تكن الأغنية مستمرة، فقد تخللها لقطات للشخصيات. الجدير بالذكر أيضاً أن الأسوأ في الفيلم هو الإعلان التشويقي للفيلم والبوستر، البوستر كارثة حقيقية، والأساليب الدعائية للفيلم كانت سيئة للغاية.

 تدور أحداث الفيلم في بلقاس بالمنصورة، حيث مجموعة من الطباخين، ريّس يحيي وأولاده رفعت وجلال ومعهم مساعدون يعملون في تموين وطبخ الأطعمة في الأفراح والمناسبات، يدخلون في صراع طبقي من جهة مع فريد وأم رقية حول بيع اللوكاندة التي يمتلكها ريس يحيي، في ظل رغبة الإبن الأصغر جلال في السفر للعمل في السعودية واتجاهه للموافقة على البيع، مع رفض مستمر من يحيي والإبن الأكبر رفعت، وهو ما نراه واضحاً في مشهد الصيد وهو من أجمل مشاهد الفيلم، وصراع رومانسي من جهة أخرى مع شادية القادمة من الإمارات وكريمة إبنة عم رفعت وجلال.

نستطيع منذ اللحظة الأولى أن نلاحظ أن ألوان الريف المصري تسيطر على كل كادر في الفيلم، حيث نجد أن الألوان تأخذ حقها تماماً في الخلفية، بمعنى أن الأحمر هو أحمر مُشبع والأخضر هو أيضاً مُشبع، كل الألوان مشبعة بدرجة كبيرة، لدرجة ضايقت بعض المشاهدين. لذلك يشارك الريف كبطل رئيسي في الصورة، ويستخدم يسري "الكرين" لكي نستطيع أن نرى المكان بأكمله خلف منصة الفرح وأمام الحوش في المدينة وسط الزراعات، اختيار ذكي لخدمة دراما الفيلم. أيضاً اختار يسري أن يستخدم طريقة مختلفة لسرد الأحداث، سأذكر واقعتين منها، الأولى عند بدء اقتراب الأحداث من النهاية، وتحوّل الشاشة إلى سوداء تماماً، والثانية أول مرة يرى فيها رفعت شادية وهي قادمة من الخارج، وكان يتقدم نحوها فيما يروي عم مرقص تاريخ عائلة شادية ونعرف عنها كل شيء، كانت طريقة بسيطة وذكرتني بحلول كان يستخدمها فرانسوا تروفو في أفلامه، خاصة طريقته في السرد، وبمناسبة ذكر السينما الفرنسية أيضأ، استخدم يسري لقطات قريبة لليدين بين الرجل والمرأة في مقاطع مختلفة في الفيلم، بين شادية ورفعت وبين جلال وحُسنية وبين كريمة وجلال، وهو ما يذكرنا بالمخرج الفرنسي بريسون في أفلامة الأولى، إذ كان يستخدم اليدين في تكوينات مميزة واشتهر بريسون بها. كما كنّا نرى منة شلبي في مواضع كثيرة وهي تشهد على أسرار تدور بين الشخصيات، فكنا نجدها في الوقت والمكان الذي يحدث فيه ما هو مفروض أن يكون سراً.

نجد أيضاً أن شخصيات الفيلم التي رسمها يسري، هي دائماً منحازة لاهتماماتها فنجد فريد المرشح لمجلس الشعب عن دائرة بلقاس، يريد الاستحواذ على ممتلكات الريس يحيى وأولاده، ويهتم بالمظاهر كعادة المُرشحين في مصر ولا يهتم بالناس ومشاكلهم، فنجده يعزم المحافظ وزوجته ليروي أمامهم انجازاته، بينما ينحاز رفعت وجلال لاهتمامات أخرى بسيطة ولكنها إنسانية في المقام الأول وتخص الفطرة الطيبة لأهل الريف، وهنا خلق يسري صراعاً طبقياً بين رفعت وجلال وفريد بانحيازات مختلفة، مع وجوب ذكر براعة باسم سمرة في استخدام أدواته كممثل جيد جداً، ألمّ بخطوط الشخصية ولم تفلت منه في لقطة واحدة، وكذلك علاء زينهم وليلي علوي.

تدور أحداث الفيلم في بلقاس بالمنصورة، حيث مجموعة من الطباخين، ريّس يحيي وأولاده رفعت وجلال ومعهم مساعدون يعملون في تموين وطبخ الأطعمة في الأفراح والمناسبات، يدخلون في صراع طبقي من جهة مع فريد وأم رقية حول بيع اللوكاندة التي يمتلكها ريس يحيي

أيضاً نجد ذكاء غير مفتعل في علاقات الشخصيات ببعضها، ونظراتهم وتوقيت استخدام الموسيقى الجميلة التي كانت عنصراً قوياً من عناصر الفيلم، كذلك نجد نقطة أعتبرها نقطة قوة وليس ضعفاً كما يعتبرها البعض، خاصة بنقل صورة سيئة عن الريف المصري وعلاقات الناس فيه، أجد أن الفيلم رومانسي ولا أجده ينقل واقعاً صارماً عن الريف كفيلم «شئ من الخوف» مثلاً، بل ينقل الفيلم الواقع بشكل رومانسي واع وساخر وهو أهم ما في الحبكة التي قدمها يسري نصر الله، نجد هذا بقوة في نظرات كريمة لجلال وهي مع رفعت ونظرات رفعت وشادية وكريمة تقف معهم، ونظرات رفعت وكريمة في وجودهم مع شادية، نظرات حُسنية الدالة على نهم جنسي مع جلال ورفعت، كل هذا يعبر بنا إلى جانب هام في الفيلم وهو الجانب الفني الخاص باختيار الممثلين وتعبيراتهم وهو أقوى ما في الفيلم، إلى جانب حركة الكاميرا، وكثيراً ما استعدت يوسف شاهين في مناطق كثيرة من الفيلم.

 نأتي للنهاية التي أعتبرها من أقوى النهايات التي تعبر عن واقعنا الجديد، واقع ما بعد يناير المليئ بالسخرية والأشياء غير المفهومة التي تحدث، من تخبط وقرارات مُضحكة وكوميديا سوداء نعيشها كل يوم، فالنهاية الرومانسية الساخرة غير المتوقعة، مع الموسيقى التي تجعل من المُشاهد وكأنه في حلم، هل هذا يحدث حقيقية؟ الواقع الذي نعيشه الآن يتطلب نهاية كنهاية «الماء والخضرة والوجة الحسن». فهي نهاية ذكية وتعبر عن الواقع الذي نعيشه بإمتياز. ننتظر من يسري أعمالاً أخرى بهذه الجودة، وهو قادر على خلق معادلة جديدة وثغرة حميدة في السينما المصرية كي تعود إلى مكانتها.