فصل من رواية «مي وملح» لأنور حامد

2018-01-08 10:00:00

فصل من رواية «مي وملح» لأنور حامد
فشلت واسطة أخرى لتوظيف ليث. المرارة تعتصر قلبه، ليس بسبب عجزه عن مساعدة بكره في الحصول على وظيفة فقط، ولكن بسبب تخلي رفاق الأمس عنه.  لم يطلب منهم شيئا خلال علاقته التنظيمية معهم.  كان طوال سنوات النضال يرى فيه "تضحية" لا فرصة للحصول على امتيازات، لكن الأولاد، سامحهم الله، يقلبون المعادلات رأسا على عقب. لم يستطع تحرير فلسطين، فلا أقل من أن يقوم بواجبه تجاه عائلته، لكن القيام بالواجب دونه الكثير من التنازلات ، تبدأ بشيء بسيط ثم تكر السلسلة.  كل تنازل يؤدي بك إلى آخر. 
تذكر كيف كان يرفض الحصول على منحة للدراسة في إحدى الدول الاشتراكية لأن ذلك كان يتطلب استخدام بعض العلاقات الشخصية. كان يحتد وهو يقول للرفاق: ما بدي. إذا أنا مش مؤهل للحصول على منحة بلاش. ما بدي أوخذ منحة على حساب حدا أحق مني. 
ولم يكن هناك من هو أحق منه، أو بالأحرى لم تكن المنح الدراسية توزع على هذا الأساس. 
صديقه خالد حصل على منحة للدراسة في الولايات المتحدة  يغطي كافة نفقاتها الصندوق الفلسطيني، وهو الذي نجح بصعوبة في امتحان الشهادة الثانوية،  لكنه يملك الكثير من العلاقات مع المتنفذين في التنظيم.
هو كان من الأوائل، وعائلته تكافح للحصول على الأساسيات.، فهل هناك شروط أفضل لتأهله للحصول على منحة ؟
كان قد حصل على معدل مرتفع في التوجيهي، تجاوز التسعين بقليل، لكنه لم يستطع السفر إلى الخارج للدراسة كما فعل الكثيرون من أقرانه، فإيراد عائلته الوحيد هو دخل والده من العمل في إسرائيل. 
حين عاد إلى البيت فرحا بنتيجته وجد والده جالسا على حشية في "الخرجة"، يدخن التنباك "العربي" ويشرب الشاي.
-تع يابا، تعال
ناداه حين رآه يدخل البيت. كانت الأخبار السارة قد سبقته إلى البيت. حصل على ٩١ من مئة في الفرع الأدبي.
جلس إلى جانب والده على الحشية الإسفنجية.
-أصب لك شاي يابا ؟
-تعيش يابا، هسة شارب في القهوة.
"الخرجة" هي مكان جلوسهم المعتاد، للحديث، لتناول الوجبات، أو لاستقبال الضيوف من الجيران أو الأقارب. هي غرفة واسعة لم يكتمل بناؤها تماما، وقد صفت الحشيات الاسفنجية على امتداد جدرانها. جدرانها لم تقصر وأرضيتها لم تبلط، بانتظار أن يفرجها الله عليهم. مرت عشرون سنة منذ بناء البيت، ولم يأت الفرج.
كانت مشاعر مختلطة تنتابه وهو يجلس على الحشية إلى جانب والده. هل يفرح بإنجازه أم يحزن لأن دراسته ستشكل عبئا على العائلة ؟
أطفأ أبوه سبجارته ورمى عقبها في المنفضة. أخذ رشفة أخرى من كوب الشاي وقال؛ تقلقش يابا، بتهون
ضحك رغما عنه. بتهون ؟ كيف؟  ليست هناك معجزات في هذا العالم. ربما كنت تؤمن بها يا والدي، لكني أتبع فكرا مختلفا، ليست المعجزات جزءا منه.  ربك لن "يهونها"، ولو ضاعفت عدد الركعات التي تؤديها كل يوم.  لن تتغير الأحوال بمعجزة ولو تضرعت أمي في صلاتها آناء الليل وأطراف النهار. ما تفكر به يا أبي ليس معجزة،  بل هو الملاذ الأخير لأمثالنا في هذه الحياة العاهرة: بيع قطعة أرض من أملاكنا القليلة والإنفاق على دراستي من ثمنها، ولكني لا أريد ذلك، لا أريد.  أنت ورثت الأرض عن جدي، فهل أبددها بدل أن أضيف إليها ؟ لن أسامح نفسي لو فعلت.
-يابا تهملش هم
قال وهو يحاول أن يغتصب ابتسامة، ثم أضاف: 
-أنا بشتغل سنة باسرائيل وبوفر شوية مصاري، بعدين بنشوف.
انتفض أبوه، كاد يسقط كوب الشاي من يده، اربد وجهه.
-لا يابا الله يرضى عليك، كله إلا هذا. بكفي أنا بتشحر في اسرائيل، انت تعلمت وألله وفقك، لازم تكمل دراستك وتظل متفوق، إنسى الشغل باسرائيل، بنلاقي حل. 
هم بالرد على أبيه لكن طرقا عنيفا على الباب فاجأه قبل أن ينطق. هب واقفا وفتح الباب فطالعه وجه صديقه نادر
-تعال عاوزك ضروري
قال بصوت تنم نبرته عن قلق.
-خير شو في ؟
تساءل توفيق
-بحكي لك في الطريق، يلا خلينا نروح، فش وقت.
أغلق الباب وغادر دون أن يبلغ والده.
كانت سيارة أوبل أسكونا بيضاء تنتظر أمام البيت، ومحركها يدور. كان شاب في الثلاثين يجلس خلف عجلة القيادة.
جلس نادر إلى جانب السائق وأخذ توفيق مكانه في المقعد الخلفي.
-خير شو في يا شباب ؟
قال السائق: بسام اعتقل، اليوم الصبح، وانت لازم تسافر حالا على الأردن.
هم بالاعتراض فقاطعه نادر: فش مجال، ما بعرف بسام لإيمتى ممكن يصمد في التحقيق، إنت مهدد ، لازم تسافر قبل ما يحطوا إسمك عالجسر. نضال سبقك، العملية ألغيت طبعا.
ذهبوا به إلى مكتب البريد في طولكرم حيث حصل على نموذج تصريح وطابع  ثم توجه إلى مكتب قريب لملئه. 
سلمه نادر مئة دينار أردني، وأعطاه اسما لشخص سيقابله في الجامعة الأردنية  وسيتولى ترتيب أمور إقامته في عمان، لحين يبت الرفاق في أمره.
كان يجلس في المقعد الأمامي للسيارة المتوجهة إلى الجسر وهو يفكر في والده الذي ينتظره لمتابعة البحث عن حل لتمويل دراسته الجامعية. قال في نفسه بمرارة: بإمكانك الآن أن ترتاح يا والدي، فها هو القدر قد تدخل ليخرجنا من المأزق، أو على الأقل ليخرجك أنت وبقية العائلة. أما بالنسبة لي فلا أدري إن كنت قد خرجت من مأزق أم دخلت في آخر أكثر تعقيدا.

كان يحس بغصة لأنه لم يتمكن من وداع عائلته، وستلازمه هذه الغصة سنين طويلة، فخروجه من الضفة الغربية بهذا الشكل يعني أن لا عودة في إجازات الصيف ولا زيارة. لقد قطع الحبل السري مع العائلة، إلا إذا حدثت معجزة ما.
حدثت تلك المعجزة بعد أقل من ٢٠ سنة، لكنها لم تكن معجزة مكتملة الأركان.  عاد إلى الوطن مع عائدي أوسلو، لكن والديه كانا قد رحلا. توجه مباشرة إلى قريته "كفررمان" وحين وصل إلى بيت طفولته بكى كما لم يبك في حياته. لم تكن تلك دموع فرح لعودته إلى بيت العائلة، فقد وجد البيت ولم يجد عائلة .  "الدار قفرة والمزار بعيد"، كما كانت تنوح أمه في أيام الحزن الكثيرة. 
كان بيت عائلته مغلقا، فقد تزوجت أخواته تباعا، ورحل أبواه، ولم يبق في بيت العائلة أحد. لقد تحول إلى خرابة. 
لم يقبل دعوة أي من الجيران الذين جاؤوا للسلام عليه للغداء، بل شكرهم، وقفل عائدا إلى رام الله حتى دون أن يزور قبر والديه. سيعود لاحقا وسيناجيهما، سيبكي فوق رأسيهما، ويعتذر عن الغيبة الطويلة، أما الآن فعليه العودة إلى أحضان عائلته الصغيرة، فهل سيكونون قادرين على تبديد صقيع استوطن روحه؟
لا يجيد العلاقات العامة، من يجيدونها يصلون إلى الشخص الأكثر نفوذا ويحصلون على وظائف لأبنائهم.
لم يتغير كثيرا منذ انزلق تلك الدرجة البائسة في سلم أخلاقياته.  رضي بالمبدأ لكنه لم يتمرغ بعد.
لم يتعلم التسلق ولم يرض به طوال مسيرته النضالية. يتذكر الآن نقاشاته الطويلة مع الرفيق فؤاد في عمان التي وصلها وليس في جيبه سوى أقل من مئة دينار ووعد بأن "يتدبر الرفاق أمره ".
حاول فؤاد جاهدا أن يدخله كواليس التنظيم التي كان بعيدا عنها في الضفة. منذ أول حديث له مع فؤاد انتابه شعور أن التنظيم في الضفة يعمل بروح مختلفة تماما. 
حدثه فؤاد عن رفيق يسعى للوصول إلى اللجنة المركزية ، وأنه وبعض الرفاق الآخرين قد تجندوا لمساعدته في هذا السعي، وفي حال نجح في الوصول إلى هدفه "سيأخذ الجميع حقهم".
_أنت أيضا يا رفيق، ستصبح منحتك في دولة اشتراكية شبه مضمونة، فرفيقنا على علاقة طيبة ببعض السفارات.
لم يفهم تماما، هل هذا يعني أنه بحاجة إلى واسطة ؟هل سيكون الرفيق الذي يسعى للوصول إلى اللجنة المركزية "واسطته" ؟  وهل ثمن المنحة أن ينشط مع بقية الرفاق للوصول إلى اتحاد الطلبة في الجامعة الأردنية ؟
-نعم، وصولنا إلى الاتحاد برفيق أو رفيقين في هذه الساحة الهامة. سيكون جواز مرور رفيقنا إلى اللجنة المركزية، وهو بدوره سيكافؤنا بمنح إلى إحدى الدول الاشتراكية .  هذا هو طريقنا الوحيد الآن، طالما العملية فشلت.
فغر توفيق فاه غير مصدق: شو بتقول؟ عيد عيد بالله عليك !
دهش فؤاد من رد فعله.
-مالك مصدوم هيك؟
احتد توفيق، صرخ، كور قبضته ولوح بها في الهواء. نعم، كان هدف العملية التي كادت تودي به  إلى السجن أو ربما إلى الموت تقوية مركز أحد الرفاق، المسؤول عن قطاعهم في التنظيم، لإيصاله إلى اللجنة المركزية.
استمر عراكهما الكلامي حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة، وانتهى بأن أعلن توفيق أنه لن يكون شريكا في لعبة اتحاد الطلبة، لأنه لم ير فيها انسجاما مع مفهومه للنضال. كانت هذه محطة فاصلة في علاقته بالتنظيم، انتهت بتنصله من وعد ترشيحه للمنحة.
في البداية كان هناك وعد باهت بمساعدته بأقساط الجامعة، لكن صداماته المتكررة مع قيادة الخلية أودت بهذا الوعد أيضا.
انتهى به الأمر إلى العمل في فندق "الريف" في منطقة العبدلي، الذي يملكه أحد أبناء بلده المغتربين في الكويت. ثلاثة أيام في الأسبوع لتأمين مصاريفه الشخصية، بعد أن حصل على بعثة جزئية من وزارة التربية والتعليم تغطي أقساط الجامعة بسبب ارتفاع معدله الدراسي.
لم يؤد هذا لحدوث قطيعة بينه وبين التنظيم، فهو لم يلتحق به على أمل الحصول على امتيازات مادية. كان إيمانه بمبادئ التنظيم الماركسي مثاليا، ولم تؤد صداماته المتكررة مع الرفاق إلى زعزعته، لكنه بدأ يحس بشرخ بين المبادئ التي بقي مخلصا لها وسلوك الرفاق على الأرض.
لم توصله عضوية التنظيم على مدى عشرين عاما إلى أي مركز قيادي، ولم يسع لذلك أصلا.
حين بدأ أفراد التنظيمات العودة إلى الوطن في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو قرر للمرة الأولى خلال مسيرته التنظيمية أن يتقدم للتنظيم بطلب شخصي، لاحقه من مكتب إلى مكتب ومن وعد إلى وعد.
كان مصرا على العودة، مهما كلف الأمر. لم يكن وصوله إلى مبتغاه سهلا، ويمكن أن نقول أن المسار الروتيني عبر التنظيم فشل تماما، لكنه لم ييأس. في نهاية الأمر وصل إلى شخص يعمل في مكتب أبو عمار يمت له بصلة بعيدة. هذه كانت المرة الأولى التي يستخدم فيها "الواسطة" لتحقيق هدف شخصي، لكنه كان يؤمن أنه "هدف نبيل".