يبدو لي، أحياناً، أن منتقدي إميل حبيبي لم يقرأوا "المتشائل"، رائعته، وهو أضعف الإيمان إذا ما حضرت الرغبة في الفهم ـ ولماذا يقرأون ما دام الميزان الثنائي جاهزا للحُكم؟ كم كان إميل حبيبي وجيله بحاجة إلى التشاؤل كي يظلوا هنا، كي يربحوا الوقتَ والمكان، أو ما بقي منه؟ أو أنهم ـ المنتقدون ـ لم يفهموا التشاؤل البنيوي في تجربة الجيل الأول من الباقين في وطنهم! والتشاؤل سِمة الناس في تلك الأيام وسِمة النفوس المنكوبة بما رأت وعاشت وبما أرادته من بقاء مشروط على متن وقت مستقطع تماماً قد يغدر بهم ويفرّ.
لست منشغلا بإميل حبيبي بقدر ما أنا متأثر منه. وعليه، لا تهمنّي كثيراً تلك المقاربات والأحكام الصادرة بحقّه بأثر رجعي، من محبّين ومِن خصوم، بين فينة وأخرى. أتابعها وأنا مُعجبٍ بقُدرة غالبية الذين يدّعون مراجعة التجربة وأداء القيادات على مواصلة ادّعاءاتهم هذه بينما الواضح من نصوصهم المبطّنة أنهم إنما يتمنّون أن يحضروا ولو على حساب اسمه وذكره وفذاذته. كثيرون من الذين انبروا يُدافعون عنه مؤخّراً لم يجايلوه ولم يعايشوه، وأراهن، لم يقرأوه. فيأتي الدفاع عنه من قبيل العصبية الحزبية أو العقيدية المُفترضة مع إن إميل حبيبي قضى سنواته الأخيرة "منفياً" عن حزبه بل إن بعض المدافعين عنه الآن، كان كتبَ اعتداء على اسمه وذكراه وإرثه أسوأ كلام وأمقته.
إميل حبيبي، لا هو فوق نقد ولا في منأى عن مراجعة لفكره وإرثه. لكنه بعد عشرين عاماً على رحيله يستحقّ أن نُنصفه إذا حكمنا وأن نعدل إذا قرأنا تجربته وتجربة جيله. كلّ رأي غير مسوّغ لا يُعوّل عليه. كلّ وجْهة نظر غير مسنودة بادّعاء منطقي أو دليل مادي واضح، ستكون متجنّية. وكذلك الأمر بالنسبة لهذا الجيش من المدافعين عنه على العمَى. ومن هنا غير مقبول عليّ لا هذا التشبيح ضده ولا هذا التسبيح باسمه. فكلاهما يُسيء له وإن بدرجة متفاوتة.
إحدى التحليلات المحبّبة في العلوم السياسية ـ الاجتماعية الحداثية هو قراءة دور الفرد/القائد في التاريخ من خلال التمحور حول شخصه وعالمه الجوّاني ـ نفسيته. تنافسها قراءة منهجية أخرى تنطلق في عملية القراءة من المبنى (Structure) الذي نشط فيه القائد وانحكم لشروطه لتنتقل إلى القائد كعنصر فاعل ضمن هذا المبنى. بمعنى يتمّ التركيز على أهمية المبنى وسطوته على حساب أهمية الفرد. وأنا، أنحاز لمنهجية القراءة الثانية لأنها تقرّبنا من الإنصاف إذا حكمنا، خاصة وإننا أبناء ثقافة مولعة بإصدار الأحكام، ولدينا جميعاً ميزان وطني مُحكم لا يميل! ففي نهاية كل عملية وزن سنصل بالتأكيد إلى التصنيف النهائي بين "وطني" و"بطل" و"مُشرّف" وبين "متعاون" و"خائن" و"مُعيب"! وهي الثنائية التي أحبّوا رؤية إميل حبيبي من خلالها. وليس إميل حبيبي وحده، محمود درويش وعزمي بشارة وإميل توما، أيضاً، وكل قيادات شعبنا الفلسطيني وصولاً إلى عرفات وأبو مازن وسواهما.
لكن أسوأ ما في مثل هذه المحاكمات الميدانية السريعة هذه العادة السيئة في النظر إلى تجربة إميل حبيبي كلّها من مِطلّ اللحظة الراهنة وإسقاط مكونات تجربتنا اليوم على إميل ذلك الوقت. بمعنى، أنه يتمّ محاكمته بخطاب اليوم، أو بأدوات الحقبة الراهنة وشروطها ومفاهيمها ومشاعرها. مثلاً، هناك مَن يُحاكم إميل حبيبي والقيادات من أبناء وبنات جيله وهم يعيشون النكبة ومفاعيلها من بُرج عالٍ في الجامعة الإسرائيلية، أو من زاوية طاولة عامرة في سهرة كأس ووجبة ملوكية مع الأصدقاء في شارع "بن جوريون"، في حيفا. هناك مَن يُحاكمهم مِن موقعه الآمن الآن المحميّ بالقانون وسلطته، بينما هم مرعوبون من خطر التهجير كبقية شعبهم، يُحاكمهم، وهم الذين ظلمهم التاريخ وحسابات الأقوياء، من موقعه باحثًا مُرفّها في خارج البلاد في العام 2017. بمعنى أن "القُضاة الوطنيين" و"سَدَنة المعبد الوطني" يُحيون العظام ويستحضرون الأموات ويعاقبونهم باعتبارات اليوم ورؤاه. كأنه ليس هناك زمن فاصل من سبعة عقود أو أكثر! يُغريني هذا الوضع أن أصرخ في وجوههم ـ نكبة يا أهل الله نكبة، مجازر هنا، مجازر هناك، شعب وحضارته يُبتران على مرأى من العالم، وأنتم، من زمانكم ومكانكم الآمنان، تحاكمون!
لا تحاول هذه المُحاكمات أن تتقمّص شروط تلك المرحلة ولا انعكاساتها في الناس، عاديين كانوا أم قيادات. وهي شروط هزيمة شاملة و"تراوما" شخصية وجماعية. و"القُضاة الوطنيون" لا يسعون أبداً إلى فهم خطاب الانكسار والخوف والرعب لدى البقية التي رأت هزيمة عربية نكراء وجرائم حرب وتشريدًا وذُلاً. لا يرون هاجس التهجير في النفوس المكلومة المرضوضة تماماً. محاكمات لا تحاول أن تفهم معنى الانكسار والتشظي كمجتمع ومدى الضعف الإنساني الذي يؤدّي بصاحبه إلى تربية الأمل أو قُل التعلّق بالأوهام بما فيها الآتية من لدن المحتلّ المنتصر. وكما في حلبة الملاكمة ـ أنت مضطرٌ أحياناً لمعانقة خصمك كي تتقي لكماته التي يُمكن أن تكون قاتلة! هكذا يتصرّف الناس في حالات الأزمة والانكسار والإصرار على البقاء رغم الظلم!
والمُحاكمة هنا تضمرُ "عقدة الأب" عند الجيل الثالث بعد النكبة. الأبناء يُحاسبون آباءهم على الهزيمة، يمقتون آباءهم لأنهم هُزموا، ويحمّلون الآباء مسؤولية هذه الهزيمة. فكل أب في المخيّلة الباطنية للابن بطل مخلّص، قادر مقتدر. فإذا هُزم، فلأنه لم يُقاتل، أو لأنه تقاعس أو تخاذل! ينتابني هذا الشعور وأنا أقرأ لائحة الاتهام ضد إميل وجيله. وهي لائحة اتهام ظالمة، لا استقامة فيها. لأنها توجّه في العادة إلى إميل وحزبه فقط دون غيرهم، ربما لأنهم قادوا مرحلة البقاء في الوطن بحلوها ومرّها وبتشاؤلها. كأنه لم تكن للشعب قيادات أخرى، ذات نزعات قومية أو رجعية أو إقطاعية أو دينية. هذه هي القيادات التي خسرت الحرب وانهزمت. وهذه القيادات ذاتها، كانت في صراع ضد الشيوعيين والاشتراكيين العرب قبل اتحادهم مع الشيوعيين اليهود في حزب واحد!
يبدو لي، أحياناً، أن منتقدي إميل حبيبي لم يقرأوا "المتشائل"، رائعته، وهو أضعف الإيمان إذا ما حضرت الرغبة في الفهم ـ ولماذا يقرأون ما دام الميزان الثنائي جاهزا للحُكم؟ كم كان إميل حبيبي وجيله بحاجة إلى التشاؤل كي يظلوا هنا، كي يربحوا الوقتَ والمكان، أو ما بقي منه؟ أو أنهم ـ المنتقدون ـ لم يفهموا التشاؤل البنيوي في تجربة الجيل الأول من الباقين في وطنهم! والتشاؤل سِمة الناس في تلك الأيام وسِمة النفوس المنكوبة بما رأت وعاشت وبما أرادته من بقاء مشروط على متن وقت مستقطع تماماً قد يغدر بهم ويفرّ.
في إحدى المرات سألت والدي بنوع من العتب وأكثر: كيف استطعتَ أن تفعل، أن تهاجم "كمبانية" "كريات حروشِت" مساء الأربعاء مع "الثوار"، وأن تنزف قدماك ساعات طويلة من فلقات "الثُوار" مساء الخميسِ لرفضك تسليم مسدّسك، ثم تذهب صباح الجمعة إلى سيلة الحارثية مع "مِدّين" من الخبز وخمسة كيلوغرامات من الدُخان المفروم سرّا لتقدّمه معونة لـ"الثوار"؟ كنتُ أغلي وأنا أسأله. ابتسم طويلاً وأجابني باقتضاب ـ "هكذا فقط أمكننا أن نردّ أذاهم عن أهلنا وعيالنا"! وصمتُ إلى الآن! أبي، لم يكن محزّبًا ولا مؤدلجًا لكنه كان قائداً محلّيا ضمن مجموعة شبابية عائلية كل همّها أن تسْلَم القرية بسكانها مهما تكن خاتمة الصراع. وهو ما فعله ومجموعته بكلّ ما أوتي من ذكاء فطري وحنكة وإرادة هُزمت في امتحان الحرب ولُعبة القوى.
أحياناً لا يكون لك خيار سوى الذي اخترته. وأقدّر أنه لم يكن أمام المهزومين من جيل النكبة سوى خيارات مهزومة. كأن يُنقذوا ما يُمكن إنقاذه. أو أن يقبلوا قرارَ التقسيم. أو أن يختاروا أهون الشرّين. أو أن يُراهنوا على ما طرأ واستجدّ، أن "يقبلوا" الهزيمة مثلاً ريثما يطرأ أمر آخر. فأبي الذي ذكرته، ظلّ يُراهن على أن الفرج لا بدّ آتٍ. لكن النكسة جاءته شخصياً كما كان يقول. فصحا وانفتح قلبه على الحقيقة فتوقّف عن الانتظار وتربية الأمل والأماني. وجدَنا ثمانية أخوات وأخوة متطلّبين في حوش بيته. كان عليه أن يُعيلنا ففعل كادحاً في البناء وفي الإبقاء على سؤدده، ولو في تخوم الحي، مسلّما بأنه ربما يكون خرج من التاريخ الكبير كما خرج، خالي الوفاض معتقداً أننا نحن، ذرّيته، سنعود إلى التاريخ ونصحّحه.
رحل هو وإميل حبيبي وبنات وأبناء جيلهم على أمل أن نستطيع نحن العودة إلى التاريخ بما وفّروه هم من تجربة. وكانت تجربة القابضين على الجمر وعلى نارِ الحِكمة. ناوروا بين كيّ الجمرِ ووهج الحِكمةِ فأصابوا في المواقف كثيراً أو أخطأوا كثيراً كنتيجة حتمية للتشاؤل. وقد حُرّم قتل الآباء ـ الطواطم ـ دون محاكمة عادلة!
إميل حبيبي، لا هو فوق نقد ولا في منأى عن مراجعة لفكره وإرثه. لكنه بعد عشرين عاماً على رحيله يستحقّ أن نُنصفه إذا حكمنا وأن نعدل إذا قرأنا تجربته وتجربة جيله. كلّ رأي غير مسوّغ لا يُعوّل عليه. كلّ وجْهة نظر غير مسنودة بادّعاء منطقي أو دليل مادي واضح، ستكون متجنّية. وكذلك الأمر بالنسبة لهذا الجيش من المدافعين عنه على العمَى. ومن هنا غير مقبول عليّ لا هذا التشبيح ضده ولا هذا التسبيح باسمه. فكلاهما يُسيء له وإن بدرجة متفاوتة.
إحدى التحليلات المحبّبة في العلوم السياسية ـ الاجتماعية الحداثية هو قراءة دور الفرد/القائد في التاريخ من خلال التمحور حول شخصه وعالمه الجوّاني ـ نفسيته. تنافسها قراءة منهجية أخرى تنطلق في عملية القراءة من المبنى (Structure) الذي نشط فيه القائد وانحكم لشروطه لتنتقل إلى القائد كعنصر فاعل ضمن هذا المبنى. بمعنى يتمّ التركيز على أهمية المبنى وسطوته على حساب أهمية الفرد. وأنا، أنحاز لمنهجية القراءة الثانية لأنها تقرّبنا من الإنصاف إذا حكمنا، خاصة وإننا أبناء ثقافة مولعة بإصدار الأحكام، ولدينا جميعاً ميزان وطني مُحكم لا يميل! ففي نهاية كل عملية وزن سنصل بالتأكيد إلى التصنيف النهائي بين "وطني" و"بطل" و"مُشرّف" وبين "متعاون" و"خائن" و"مُعيب"! وهي الثنائية التي أحبّوا رؤية إميل حبيبي من خلالها. وليس إميل حبيبي وحده، محمود درويش وعزمي بشارة وإميل توما، أيضاً، وكل قيادات شعبنا الفلسطيني وصولاً إلى عرفات وأبو مازن وسواهما.
لكن أسوأ ما في مثل هذه المحاكمات الميدانية السريعة هذه العادة السيئة في النظر إلى تجربة إميل حبيبي كلّها من مِطلّ اللحظة الراهنة وإسقاط مكونات تجربتنا اليوم على إميل ذلك الوقت. بمعنى، أنه يتمّ محاكمته بخطاب اليوم، أو بأدوات الحقبة الراهنة وشروطها ومفاهيمها ومشاعرها. مثلاً، هناك مَن يُحاكم إميل حبيبي والقيادات من أبناء وبنات جيله وهم يعيشون النكبة ومفاعيلها من بُرج عالٍ في الجامعة الإسرائيلية، أو من زاوية طاولة عامرة في سهرة كأس ووجبة ملوكية مع الأصدقاء في شارع "بن جوريون"، في حيفا. هناك مَن يُحاكمهم مِن موقعه الآمن الآن المحميّ بالقانون وسلطته، بينما هم مرعوبون من خطر التهجير كبقية شعبهم، يُحاكمهم، وهم الذين ظلمهم التاريخ وحسابات الأقوياء، من موقعه باحثًا مُرفّها في خارج البلاد في العام 2017. بمعنى أن "القُضاة الوطنيين" و"سَدَنة المعبد الوطني" يُحيون العظام ويستحضرون الأموات ويعاقبونهم باعتبارات اليوم ورؤاه. كأنه ليس هناك زمن فاصل من سبعة عقود أو أكثر! يُغريني هذا الوضع أن أصرخ في وجوههم ـ نكبة يا أهل الله نكبة، مجازر هنا، مجازر هناك، شعب وحضارته يُبتران على مرأى من العالم، وأنتم، من زمانكم ومكانكم الآمنان، تحاكمون!
لا تحاول هذه المُحاكمات أن تتقمّص شروط تلك المرحلة ولا انعكاساتها في الناس، عاديين كانوا أم قيادات. وهي شروط هزيمة شاملة و"تراوما" شخصية وجماعية. و"القُضاة الوطنيون" لا يسعون أبداً إلى فهم خطاب الانكسار والخوف والرعب لدى البقية التي رأت هزيمة عربية نكراء وجرائم حرب وتشريدًا وذُلاً. لا يرون هاجس التهجير في النفوس المكلومة المرضوضة تماماً. محاكمات لا تحاول أن تفهم معنى الانكسار والتشظي كمجتمع ومدى الضعف الإنساني الذي يؤدّي بصاحبه إلى تربية الأمل أو قُل التعلّق بالأوهام بما فيها الآتية من لدن المحتلّ المنتصر. وكما في حلبة الملاكمة ـ أنت مضطرٌ أحياناً لمعانقة خصمك كي تتقي لكماته التي يُمكن أن تكون قاتلة! هكذا يتصرّف الناس في حالات الأزمة والانكسار والإصرار على البقاء رغم الظلم!
والمُحاكمة هنا تضمرُ "عقدة الأب" عند الجيل الثالث بعد النكبة. الأبناء يُحاسبون آباءهم على الهزيمة، يمقتون آباءهم لأنهم هُزموا، ويحمّلون الآباء مسؤولية هذه الهزيمة. فكل أب في المخيّلة الباطنية للابن بطل مخلّص، قادر مقتدر. فإذا هُزم، فلأنه لم يُقاتل، أو لأنه تقاعس أو تخاذل! ينتابني هذا الشعور وأنا أقرأ لائحة الاتهام ضد إميل وجيله. وهي لائحة اتهام ظالمة، لا استقامة فيها. لأنها توجّه في العادة إلى إميل وحزبه فقط دون غيرهم، ربما لأنهم قادوا مرحلة البقاء في الوطن بحلوها ومرّها وبتشاؤلها. كأنه لم تكن للشعب قيادات أخرى، ذات نزعات قومية أو رجعية أو إقطاعية أو دينية. هذه هي القيادات التي خسرت الحرب وانهزمت. وهذه القيادات ذاتها، كانت في صراع ضد الشيوعيين والاشتراكيين العرب قبل اتحادهم مع الشيوعيين اليهود في حزب واحد!
يبدو لي، أحياناً، أن منتقدي إميل حبيبي لم يقرأوا "المتشائل"، رائعته، وهو أضعف الإيمان إذا ما حضرت الرغبة في الفهم ـ ولماذا يقرأون ما دام الميزان الثنائي جاهزا للحُكم؟ كم كان إميل حبيبي وجيله بحاجة إلى التشاؤل كي يظلوا هنا، كي يربحوا الوقتَ والمكان، أو ما بقي منه؟ أو أنهم ـ المنتقدون ـ لم يفهموا التشاؤل البنيوي في تجربة الجيل الأول من الباقين في وطنهم! والتشاؤل سِمة الناس في تلك الأيام وسِمة النفوس المنكوبة بما رأت وعاشت وبما أرادته من بقاء مشروط على متن وقت مستقطع تماماً قد يغدر بهم ويفرّ.
في إحدى المرات سألت والدي بنوع من العتب وأكثر: كيف استطعتَ أن تفعل، أن تهاجم "كمبانية" "كريات حروشِت" مساء الأربعاء مع "الثوار"، وأن تنزف قدماك ساعات طويلة من فلقات "الثُوار" مساء الخميسِ لرفضك تسليم مسدّسك، ثم تذهب صباح الجمعة إلى سيلة الحارثية مع "مِدّين" من الخبز وخمسة كيلوغرامات من الدُخان المفروم سرّا لتقدّمه معونة لـ"الثوار"؟ كنتُ أغلي وأنا أسأله. ابتسم طويلاً وأجابني باقتضاب ـ "هكذا فقط أمكننا أن نردّ أذاهم عن أهلنا وعيالنا"! وصمتُ إلى الآن! أبي، لم يكن محزّبًا ولا مؤدلجًا لكنه كان قائداً محلّيا ضمن مجموعة شبابية عائلية كل همّها أن تسْلَم القرية بسكانها مهما تكن خاتمة الصراع. وهو ما فعله ومجموعته بكلّ ما أوتي من ذكاء فطري وحنكة وإرادة هُزمت في امتحان الحرب ولُعبة القوى.
أحياناً لا يكون لك خيار سوى الذي اخترته. وأقدّر أنه لم يكن أمام المهزومين من جيل النكبة سوى خيارات مهزومة. كأن يُنقذوا ما يُمكن إنقاذه. أو أن يقبلوا قرارَ التقسيم. أو أن يختاروا أهون الشرّين. أو أن يُراهنوا على ما طرأ واستجدّ، أن "يقبلوا" الهزيمة مثلاً ريثما يطرأ أمر آخر. فأبي الذي ذكرته، ظلّ يُراهن على أن الفرج لا بدّ آتٍ. لكن النكسة جاءته شخصياً كما كان يقول. فصحا وانفتح قلبه على الحقيقة فتوقّف عن الانتظار وتربية الأمل والأماني. وجدَنا ثمانية أخوات وأخوة متطلّبين في حوش بيته. كان عليه أن يُعيلنا ففعل كادحاً في البناء وفي الإبقاء على سؤدده، ولو في تخوم الحي، مسلّما بأنه ربما يكون خرج من التاريخ الكبير كما خرج، خالي الوفاض معتقداً أننا نحن، ذرّيته، سنعود إلى التاريخ ونصحّحه.
رحل هو وإميل حبيبي وبنات وأبناء جيلهم على أمل أن نستطيع نحن العودة إلى التاريخ بما وفّروه هم من تجربة. وكانت تجربة القابضين على الجمر وعلى نارِ الحِكمة. ناوروا بين كيّ الجمرِ ووهج الحِكمةِ فأصابوا في المواقف كثيراً أو أخطأوا كثيراً كنتيجة حتمية للتشاؤل. وقد حُرّم قتل الآباء ـ الطواطم ـ دون محاكمة عادلة!