«فتيان الزنك» لسفيتلانا أليكسييفيتش.. ليس للحرب سوى وجه واحد

2017-09-25 15:00:00

«فتيان الزنك» لسفيتلانا أليكسييفيتش.. ليس للحرب سوى وجه واحد

وربما هذا السبب الذي أوصل بكاتبة «فتيان الزنك» للمحاكم بعد أن رفعت ضدها "أمهات المقاتلين الأمميين" دعوى قضائية لأنها قدمت "أولادهنّ كرجال آليين، قتلة بلا روح ونهابين ومدمني مخدرات ومغتصبين"، لم يكنّ يعلمنّ أن سفيتلانا أليكسييفيتش ستوصل أصواتهنّ مع من تحدث من الجنود إليها إلى كامل الأراضي السوفياتية قبل العالم، منحت فيها الآخرين فرصة لمعرفة الوجه الآخر للحرب.. فرصة لمعرفة روايتين لا بد من تناقضهما.. واحدة على لسان السوفييت.. والثانية يرويها الضحايا الناجون من إرسال جثثهم إلى معرض الجثث قبل عودتهم للوطن.

توثق البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش (نوبل 2015) في كتابها «فتيان الزنك» واحدة من أهم الحقب التي عاشها الاتحاد السوفيتي قبيل انهياره عام 1991، إبان حرب أفغانستان (1979 – 1989)، بنقلها تفاصيل غير مرئية على لسان جنود تحولوا معها إلى شهود أفرغوا ما في صدورهم من معاناة عاشوها أثناء تواجدهم في الحرب، وعادوا حاملين معهم أمراضهم المزمنة فأصبحوا أشخاصاً مختلفين عن السابق بهلوساتهم، واضطراباتهم النفسية.

وأرادت أليكسييفيتش بعنوانها «فتيان الزنك» أن تدل على أولئك الجنود الذي عادوا من أفغانستان جثثاً محمولة داخل توابيت مصنوعة من الزنك، وشارك الاتحاد السوفيتي في حرب أفغانستان بأكثر من نصف مليون مقاتل، خسر فيها ما يزيد عن 15 ألف مقاتل، لكن الأحياء من بقوا على قيد الحياة حملوا منها جروحاً لن تندمل مع مرور السنين.

تروي شخصيات أليكسييفيتش الواقعية ما انتظرها من مجهول عندما سارت أقدامهم إلى الحرب، جمعتها ضمن فصول قصيرة في كتاب لا يمكن تصنيفه بالعمل الروائي، إنما تقرير سردي، أو مقصوصات حكائية عن أهوال الحرب، اختصرت دورها بطرح الأسئلة تاركة لشخوصها فضاء الحديث عن تجربتهم المليئة بجثث الأصدقاء المتناثرة على الجبهات، إصابات خلفت عاهات دائمة لأصحابها، حالات ذعر دمرتهم، والكثير مما يمكن أن يتخيله المرء عن حياة الجنود الذين ذهبوا إلى جبهات الحرب الأفغانية.

المقابلات التي أجرتها صاحبة «ليس للحرب وجه أنثوي» مع الجنود تكشف جانباً مهماً من تخبط في نفسيتهم، وتعكس ما أرخى عليهم الأمر من تبدل لحيواتهم السابقة عجّل في تنميتها ما رأوه بأم أعينهم: "أنا اعتدت على موت الآخرين، بينما كنتُ أخشى أن أموت"، وأحلامهم الصغيرة التي كانوا ينتظرون انتهاء الحرب لتنفيذها: "ثمّة ثلاثة أحلام للجندي: شراء وشاح رأس لأمه، وطقم أدوات تجميل لصديقته، وله شخصياً سروال سباحة، فلم تكن هذه السراويل متوفرة في الاتحاد السوفياتي آنذاك. تلكم هي الحرب“.

الشهادات المدونة في «فتيان الزنك» -نقلها للعربية عبدالله حبه (دار ممدوح عدوان 2016)- جمعت مقابلات متعددة لجنود أوكلوا بمهام مختلفة لكنها اتفقت في منحى خوفهم من مخالفة الأوامر العسكرية التي كانت من أهم العوامل المؤثرة على الاضطرابات النفسية، تقول إحدى الممرضات اللواتي كنّ في أفغانستان: "كان في وسعنا إنقاذ البشر، لكننا لم نستطع حتى كتابة الحقيقة في تبليغات الوفيات“.

وكتاب «فتيان الزنك» واحد من بين عدة كتب ابتكرت فيها أليكسييفيتش نوعاً جديداً للأدب الروائي يعتمد على أصوات متعددة كما هو الحال في كتابها «آخر الشهود» الذي يتحدث شخوصه عما عاصروه إبان الحرب العالمية الثانية، وهو السبب الذي دفع الأكاديمية السويدية منحها جائزة نوبل للآداب 2015 لأنها "ابتكرت نوعاً أدبياً جديداً"، وأنتجت أعمالاً "متعددة الأصوات تفند معاناة عصرنا وشجاعته"، كما منحتها إدارة معرض فرانكفورت للكتاب جائزة السلام عام 2013.

أمهاتٌ فقدن أولادهنّ الوحيدين في الحرب الأفغانية مع غياب تام للقانون، تصرخ أم تلقت رسالة حديثة من ولدها الوحيد الذي أُوفد إلى كابل قبل أن يعود جثةً هامدة، "حتى في زمن القيصر كان المعيل الوحيد لا يؤخذ للجيش“. ربما هي قدرة الآخرين على النطق بالكلام الحرام، بعد عشرات السنين على انهيار روسيا القيصرية يتذكر أهلها عدل القيصر في بعض القوانين، وكانت مع هذه الصرخات يسير الاتحاد السوفياتي للانهيار أيضاً.

لوحات مليئة بالألم على لسان الطبيبات والجنود والفنيين تنقلها أليكسييفيتش بأمانة للقراء حتى يكونون على إلمام بصورة واضحة عن الحرب التي لم يعرف الجنود الروس أنفسهم لماذا يقاتلون فيها! كان عليهم الالتزام بالقوانين العسكرية دون معارضتها، كان عليهم أن يفعلوا كل شيء يطلب منهم بدون اعتراض، "سيرسلوننا إلى أفغانستان، لماذا أنا؟ أنت أعزب" هكذا وجد أحد الضباط نفسه مرمياً في الحرب الأفغانية.

تخبر إحدى الموظفات القادمات من أفغانستان الكاتبة ما كانت تقول لها الممرضات في قسم الأطراف المبتورة: "هناك لا يحب أي أحد الحديث عن المستقبل، كما لا يتحدثون عن الحب. يبدو أن من الرعب أن يموت أحدهم سعيداً". وهناك أيضاً كانت الروايات عن أشخاص أصابوا أنفسهم بأمراض وطلقات مجانية حتى يتجنبوا ويلات هذه الحرب، وهناك كان كل شيء مسموحاً إلا الفرار من ساحة المعركة لأنها تعتبر خيانة للرفيق الأكبر، وما كان مجهولاً عن هوامش السياسة السوفياتية صار متاحاً معرفته في أفغانستان.

في حرب تجنب إعلام السوفييت الحديث عنها تنقل أليكسييفيتش مع شخوصها أحداثها بشفافية دون أن تهتم بأي رقيب، ومثلها يروي الناجون شهاداتهم عن أحداث لم يعرفوا لها تفسيراً "كانت الصحف تلتزم الصمت أو تكذب، والتلفزيون أيضاً. الآن يكتبون أننا محتلون. لو كنّا محتلين فلماذا أطعمناهم، وقدمنا لهم الأدوية؟ ندخل إلى قرية ما، فيفرحون بقدومنا.. نخرج، فيفرحون أيضاً.. وهكذا لم أفهم، لماذا كانوا يفرحون دائماً؟“.

"أصبحت أرملة في عمر 24 عاماً (...) لقد أحببته طوال خمسة أعوام، بينما أحبه ميتاً طوال ثمانية أعوام. ربما أنا مجنونة.. أنا أحبه"، صرخة أخرى لزوجة جندي عاد بتابوت من الزنك إلى موسكو تكشفها أليكسييفيتش، حقيقة جديدة عن حرب لم ينج منها الأحياء قبل الأموات، شخوص فتحت الطريق لألسنتها حتى تبوح بما كان مسكوتاً عنه، صمتاً كان يفرضه العسكر في دول الاتحاد السوفياتي على أسر الضحايا حتى يتجنبوا شكوكهم بالهزيمة.

وربما هذا السبب الذي أوصل بكاتبة «فتيان الزنك» للمحاكم بعد أن رفعت ضدها "أمهات المقاتلين الأمميين" دعوى قضائية لأنها قدمت "أولادهنّ كرجال آليين، قتلة بلا روح ونهابين ومدمني مخدرات ومغتصبين"، لم يكنّ يعلمنّ أن سفيتلانا أليكسييفيتش ستوصل أصواتهنّ مع من تحدث من الجنود إليها إلى كامل الأراضي السوفياتية قبل العالم، منحت فيها الآخرين فرصة لمعرفة الوجه الآخر للحرب.. فرصة لمعرفة روايتين لا بد من تناقضهما.. واحدة على لسان السوفييت.. والثانية يرويها الضحايا الناجون من إرسال جثثهم إلى معرض الجثث قبل عودتهم للوطن.