إلى ديمتري أفييرينوس

(لا غدَ لمَن لا ينام)

2017-09-04 15:00:00

(لا غدَ لمَن لا ينام)
George Gurdjieff

بدا المكان كلُّه منوِّماً، أو لعلّها الأشياء ساهرة مع الموتى على رعاية الوجود والأحياء هم النائمون. وربما أوحتْ مثل هذه الأجواء إلى الروائيين رواياتٍ عن المسرنمين، واستلهمها الشعراء الرومانسيون حين قالوا إن كلّ ما يجري في الحياة ليس إلا حلماً داخل حلم. كلُّنا منوِّمون، تخدّرنا الصور وأنوار الشاشات والضوضاء والحرّ والذكريات والتربيةُ وصفحاتُ الكتب... ينوّمنا الآخرون وننوّمهم، بالضجر والكلام والوعود، والجميع يحاولون دائماً أن يستيقظوا. أرَقُنا ليس صحواً، ونحن نحلم باستفاقة كبرى للوعي والضمائر. نعبر الأيام ساهمين، مشتّتين. تنوّمنا عذاباتنا، والصدمات المتلاحقة تعمّق سباتنا، فكوابيس الواقع لا تكاد توقظ أحداً.

لم أستعجل الوصول إلى آفون مشياً، في قيظ آب الذي يهدهد الأشياء وينوّمها، ويُخلي الشوارعَ والأزقة من المارّة. كانت هناك سيّدتان مسنّتان تجلسان على العشب، تستفيئان بالمبنى الذي كان فيما مضى "معهد التنمية المتناغمة للإنسان"، السيدة السوداء من الكاميرون قضى جدُّها، مترنّحاً وسط جثامين المواشي والضواري النافقة، في قريةٍ اجتاحها داء النوم جنوب الصحراء الكبرى، ومات آخرون بعد أن أضرموا النيران في منازل عوائلهم واهتاجوا كالمجانين بسبب متلازمة الأرَق العائلي القاتل، ومَن تبقّوا على قيد الحياة أعادهم الجوعُ إلى الوراء ليعود الرُعاةُ صيّادين مرة أخرى؛ السيدة الأخرى روسية تتحدّث كبياض الثلج عن لغز القرية النائمة في سهوب كازخستان: كان الفلاحون يغفون بغتة، حتى أثناء المشي، وينامون أياماً أو أسبوعاً بأكمله، ثم يستيقظون بأجسادٍ مرضوضة ولا يتذكّرون شيئاً. القطط تشخر، الأطفال يرون أحصنة مجنّحة على الأسطحة وثعابينَ في الأسرّة، التلاميذ ينامون على مقاعد المدرسة مثلما نام الحواريّون أثناء صلاة المسيح على جبل الزيتون، بحسب ما تقول الأناجيل.

عزتْ السيّدةُ الروسية ذلك النوم المُبهم إلى الفودكا المغشوشة والتراب الملوّث باليورانيوم في عددٍ من قرى كازخستان. كنتُ قد قرأتُ عن ذبابة تسي تسي تسلّلتْ إلى حقيبة سائح وسافرت معه من أفريقيا الوسطى إلى فرنسا، ثم لسعَتِ الطفل الذي هُرع ليفتح حقيبة أبيه بحثاً عن هديّة. منذ القرن التاسع عشر، ظلت هذه الحشرة، المسماة "الذبابة الفيل" لضخامتها، تحرسُ كالتعويذة سهوبَ السافانا في وسط أفريقيا، لخشية الغُزاة والمبشّرين والنخّاسين الأوروبيين من جائحات النوم. أوّل الآتين على ذكر هذا الوباء بين المؤرّخين هو ابن خلدون، وصّاف النوم وأحواله ودرجاته في "المقدمة"، حين تطرّق إلى سلطان مالي وكيف اعتراه الوسن حتى مات.

يأوي هذا المكان الذي زرتُه، المتاخم لغابة فونتينبلو الشاسعة، مرضىً مخدّرين كان بعضهم قد استفاقوا للتوّ وراحوا يجوبون الحديقة. حاولتُ العثور على ما تبقّى من المعهد الروحيّ الذي أنشأه غورجييف بعد هروبه من روسيا منذ قرابة مائة عام، حيث أقام في كنفه رونيه دومال، وزاره المعماريّ فرانك لويد رايت الذي فكّر بتصميم متاهة من أجل الوصول البطيء إلى غرفةٍ لا باب لها، كما زارته جورجيا أوكيف وكاثرين مانسفيلد. غورجييف، الأرمني الرحّالة متقصّي الموسيقى الروحية وأغاني الفلكلور والملاحم عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط والهند وشمال أفريقيا (من الألحان الجنائزية الآشورية إلى الرعويات الكردية ورقصات القوقاز)، تشدّد في تذكّر الذات، وأملى على تلميذه دي هارتمان مئاتٍ من مقطوعات البيانو التي استلهمها كيث جاريت لاحقاً في عمله "ترانيم مقدّسة". 

أخرج بيتر بروك فيلماً طويلاً معدّاً عن السيرة الذاتية لغورجييف الذي تأمّلَ الموسيقى والنوم، وكتب ذات مرة: "ما هي الحرب؟ بضعة ملايين من النائمين يدمّرون بضعة ملايين من نائمين آخرين"، كما تحدّث عن اعتياد النائم على رنين ساعة المنبّه ووجوب تبديله لها على الدوام، ومال إلى التفسير الحرفي للمجاز الديني والاستعارة الأدبية. الحديث النبوي "الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا" مفهوم بمعناه الحرفي، إذا ضربنا مثلاً متداولاً في اللغة العربية.


كنتُ قد فكرتُ مراراً بالذهاب إلى 4 شارع بُوزو، في آفون فونتينبلو، حيث أسّس المهاجر الأرمنيّ معهده في قصر بريورِه باس لوج الذي وجدتُه عصرَ البارحةِ مقفلَ المدخلين. الحديقة جميلة. يتوسّطها ممشى قصير تظلّله عشرات من أشجار الكستناء، شجرٌ عليل يورِق ولا يعلو. الظلال الداكنة تزيد من دكنة الإسفلت. فكرت بأنّ زرقتها الطفيفة ستلوّنني كغريق، ولن تزول عن جلدي حين أخرج من كثافتها مبهوراً بالشمس. الفراشات البيضاء بطيئة في الحر. لا أدري إن كان غورجييف قد زرع شجرة الأرز المعمّرة. القصر الذي صار مركزاً روحياً أمسى في الوقت الحالي مبنى سكنياً، كانت فيه ثلاث نوافذ مفتوحة على المساء ولا أحد يلوح. الأسطحة مهملة قليلاً. على الطرف المقابل من الحديقة، هناك نافورة جفّ ماؤها يعلوها تمثال فتى صغير أو فتاة، ليس له جناحان، وإن كان يشبه التماثيل المجنّحة التي تعانق شواهد القبور. شُيّدت في الحديقة أبنية جديدة. موظفة الاستقبال، في مركز رعاية العجزة، قالت إن صديقها الذي انتهى دوامه وانصرف منذ قليل يعرف تاريخ المكان جيداً، وناولتني من درجٍ في خزانة ملفات المرضى منشوراً صغيراً ملوّنَ الصور. يلخّص المنشور الفرنسي سيرة جيورجي إيفانوفيتش غورجييف بأن ماضي هذا الثيوصوفي كان غامضاً، ويُرفق هذا التلخيص بصورته: رجلاً حليق الرأس كثّ الشاربين أبيضهما. الأمر الوحيد الواضح هو أنه كان تاجر سجّاد في موسكو سنة 1912. لا أحد في المكان يعرف شيئاً عنه. كانت بين الزوار والناقهين ممرّضة تدخّن أمام الباب. ضحكت وراء ممشى أشجار الكستناء سيدةٌ عجوز على كرسي متحرك، يجالسها على العشب الظليل شابٌّ يرتدي بنطلوناً مموّهاً. مشى غرابٌ على عشبٍ أحرقته شمسُ آب.

قرأتُ المنشور على عجل فاختلطت عليّ أسباب الموت وأسماء الموتى. قلتُ في نفسي: هل ذكر سبب الوفاة بنفث الدم لأن المكان محفوف بالعيادات والناقهين والمرضى المسنّين؟ هل توفّي بانسلاخ الأبهر أم بانسدادٍ رئوي؟ تساءلتُ، وكنتُ مخطئاً. زائرتُهُ كاثرين مانسفيلد هي مَن قضى بنفث الدم، بعد أن عشّش التدرُّن في أسناخ رئتيها، وعُلّقت في زريبة للبقر لتستنشق الروثَ الطريّ في العتمة. مانسفيلد مدفونة، برئتين نخر السلُّ شبابهما، في مقبرة آفون نفسها التي دُفن فيها غورجييف.

بدا المكان كلُّه منوَماً، أو لعلّها الأشياء ساهرة مع الموتى على رعاية الوجود والأحياء هم النائمون. وربما أوحتْ مثل هذه الأجواء إلى الروائيين رواياتٍ عن المسرنمين، واستلهمها الشعراء الرومانسيون حين قالوا إن كلّ ما يجري في الحياة ليس إلا حلماً داخل حلم. كلُّنا منوَمون، تخدّرنا الصور وأنوار الشاشات والضوضاء والحرّ والذكريات والتربيةُ وصفحاتُ الكتب... ينوّمنا الآخرون وننوّمهم، بالضجر والكلام والوعود، والجميع يحاولون دائماً أن يستيقظوا. أرَقُنا ليس صحواً، ونحن نحلم باستفاقة كبرى للوعي والضمائر. نعبر الأيام ساهمين، مشتّتين. تنوّمنا عذاباتنا، والصدمات المتلاحقة تعمّق سباتنا، فكوابيس الواقع لا تكاد توقظ أحداً.