هيوم قارئاً هيوم: عاشق الشهرة المتواضع

2017-08-07 17:00:00

هيوم قارئاً هيوم: عاشق الشهرة المتواضع
Statue of Scottish Philosopher David Hume (1711 to 1776) by Alexander Stoddart . Royal Mile in Edinburgh

يردد البعض أن الشهرة تُنصف العباقرة بعد وفاتهم. لست متأكداً من ذلك: أعني أن لا شيء سيضاف إلى سعادة هيوم ورضاه بسبب الشهرة المستجدة عقب وفاته: لا يحتاج الرجل إلى حياة أخرى بعد الموت كي يُنصف. أفضّل أن أصدّق نعيه لنفسه، وأن أتبناه كقاعدة للحياة: السعادة والحب تقتصر على ما يغمرنا في حياتنا هنا والآن، ولا تعنينا هذه الشهرة التي تأتي بعد الموت. نكتب لأننا نريد أن نكتب، ولأن التوقف عن الكتابة يتعسنا. أما هذه الشهرة، التي نسعى إليها بشكل غريزي أهوج، فلا صلة لها بالسعادة، في نهاية الأمر.

الفلسفة الغربية الحديثة نتاج ثالوث فكري يبدأ بالفرنسي رينيه ديكارت، ثم يليه الإسكتلندي ديفيد هيوم، ليُختتم بالألماني إمانويل كنط. اشتُهر الأول والأخير في أواخر حياتهما الفلسفية، في حين كان على روح هيوم أن تنتظر بضعة عقود بعد وفاته قبل أن تخلب أعماله عقول المفكرين.

كان الثلاثة، بالطبع، متعطشين للشهرة، بالرغم من تواضعهم الجم: مزيج مدهش متناقض يسيطر على كل من يعمل في الكتابة صادقاً: التواضع شرط الكتابة الصادقة، وشرطها الآخر أمل بشهرة لا تفنى. كان الفرنسي يُخفي براهينه عن خصومه، وأصدقائه، خوفاً من أن تُسرق؛ ويرى أنه سيقلب عرش آرسطو العلمي والفلسفي، ليبقي اسمه مخلّداً في عالمٍ شعر الرجل بأنه يتغير بسرعة لا سابق لها.

الألماني كنط -بالرغم من أن حياته الفكرية كانت ذابلة إلى أن تجاوز الخمسين حين أيقظه هيوم من سباته الدوغمائي- ما إن انطلق في مشروعه النقدي حتى أدرك بسرعة أن تاريخ الفلسفة لن يعود كما كان: بغرور لا مثيل له، يقول إن عمله يشبه ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك. 

بين هذين الزمنين، عاش ديفيد هيوم حياته الهادئة: كتب عمله الأول، «بحث في الطبيعة البشرية»، الذي سيخلّده لاحقاً، قبل أن يبلغ الثلاثين: لم يقرأ العمل أحد تقريباً، وشعر هيوم بأن الفشل يحيق به: كان هيوم واثقاً بأن عمله يضاهي بأهميته عمل ديكارت نفسه، أو آرسطو أو سبينوزا. ولكن، لم يلتفت إليه أحد، لا من الفلاسفة ولا من اللاهوتيين ولا من أساتذة الجامعة. 

ما الذي سيفعله الرجل، وقد قرّر أن يكرس حياته لمهنة، بدا فشله فيها جلياً منذ سن مبكّرة؟  

لا شيء، في الحقيقة.

إيمانه بنفسه لم يتزعزع، ولم يعنه كثيراً أن يحتفي به عصر التنوير أم لا. استمرّ في عمله الفلسفي، بروح مرحة واثقة، ولم يغيّر أياً من معتقداته المحورية، بل عدّلها وطوّرها: لاحقاً، أعاد نشر أفكاره في كتابين ساحرين، يكرران المقولات الرئيسة في سفره الضخم، مع تعديلات لم تمس الجوهر؛ كما نشر مقالات أسهل للقراءة، فيها تتردد بعض أفكاره الفلسفية؛ ونشر تاريخاً ضخماً مفصلاً لإنكلترا. تواصل مع فلاسفة العصر ومشاهيره: فولتير وروسو، وصديقه/تلميذه، آدم سميث. في النهاية، تمتّع بشهرة معقولة في حياته، بسبب مقالاته وكتاب تاريخ إنكلترة. لم يفهم معاصروه أن الرجل المتواضع السمح أهم عبقري في القرن الثامن عشر، وأحد أكثر العقول ثورية في تاريخ الفلسفة الغربية.

تكاد الفلسفة الغربية ترتبط به، أكثر مما ترتبط حتى بصاحبيه. فجّر هيوم أسئلة وشكوكاً لم يُجَب عنها بعد: لا يوجد تبرير مُقنع لإيماننا بمفهوم السببية، ولا بالاستقراء العلمي؛ لا نعرف شيئاً عن النفس: إن نظرت في داخلك، ستجد تتابع أشكالٍ ألوانٍ من الانطباعات، ولكنك لن تجد هذه النفس التي يحدثك عنها الفلاسفة باستمرار. كما شنّ هيوم حملة شعواء على القائلين بأن الإنسان أناني بطبعه، وافترض بالعكس أن الطبيعة البشرية فيها خير أصيل كريم؛ رفض أن تخضع المشاعر للعقل، بل اعتبر العقل عبداً للمشاعر، وهو ما يتناساه نقاد التنوير وجماعة ما بعد الحداثة، لجهلهم، حين ينسبون لعصر التنوير الإيمان الأعمى بالعقل؛ كان لا أدرياً في الدين، ودوغمائياً في نبذه للشك النظري في حياتنا العملية.

في ذروة إحباطه، كتب مراجعة مُغفَلة الاسم لسفره الضخم، فيها تلخيص للأفكار الرئيسة. بعد فترة، كتب ردّاً على رسالة تنتقد السفر: فيها يحلل ويفنّد ما كُتب عن كتابه، بصيغة المراجع المدقّق المحايد. يتحدث الرجل عن عمله بصيغة الغائب: "يقول المؤلف"، و"يقصد المؤلف"، و"يبدو لي أن ما يعنيه المؤلف". 

لم تسهم الرسالة أو الملخّص في تحريك الرأي العام الفلسفي ودفعه إلى أخذ الرجل بجدية. 

بعدها عاش هيوم حياته الهادئة، وقبِل بما كتبه الله له، يكتب وينشر ويبحث ويسافر ويناقش، بمرح اشتُهر به، وتواضع سمح لم يفارقه يوماً. 

قبل وفاته، كتب هيوم مرة أخرى عن نفسه، ولكن هذه المرة نعى نفسه قبل رحيلها بقليل، وبصيغة الراوي: حكى لنا عن حياته ومشاريعه ونجاحاته وإخفاقاته. يقول هيوم إن تاريخ حياته هو تاريخ كتاباته، وإنه على قناعة بأن فشل سفره الضخم يعود إلى طريقة عرض الأفكار، لا إلى الأفكار نفسها، وإن فشل السفر، ثم الكتب الأصغر التي أعاد فيها ترتيب أفكاره بوضوح، لم تؤثر عليه، بسبب طبيعته المرحة ويختتم النعي بوصف شخصيته:

"لقد كنت رجلاً متمتعاً بميول معتدلة، مسيطراً على انفعالاتي، ولي طبع منفتح اجتماعي مرح، قادر على العلاقات الودودة، ولكن استعدادي قليل للعداوات، ومعتدل جدّاً في كافة عواطفي. حتى عشقي للشهرة الأدبية، عاطفتي المتحكمة بي، لم تجعل طبعي مرّاً، بالرغم من خيبات الأمل المتكررة. "

كتب هيوم عن هيوم مرتين: مرة، في تعطشه للشهرة، حين كذب علينا مخفياً اسمه في سخف لا يليق بمن سيغيّر تاريخ الفلسفة، ومرة ثانية حين كان المرض يأكل جسده بهدوء. في المرة الثانية، كان هيوم يتأمل مجمل حياته، ليقول لنا إن العبرة ليست في الشهرة، بل في قدرتك على المحبة والعمل بتواضع. ربما، هذا الدرس العملي من حياته الشخصية، يضاهي بأهميته الكنز النظري في سفره عن الطبيعة البشرية. طبيعة، يبدو لي، إنها تسعى للشهرة دون تعقّل!  

يردد البعض أن الشهرة تُنصف العباقرة بعد وفاتهم. لست متأكداً من ذلك: أعني أن لا شيء سيضاف إلى سعادة هيوم ورضاه بسبب الشهرة المستجدة عقب وفاته: لا يحتاج الرجل إلى حياة أخرى بعد الموت كي يُنصف. أفضّل أن أصدّق نعيه لنفسه، وأن أتبناه كقاعدة للحياة: السعادة والحب تقتصر على ما يغمرنا في حياتنا هنا والآن، ولا تعنينا هذه الشهرة التي تأتي بعد الموت. نكتب لأننا نريد أن نكتب، ولأن التوقف عن الكتابة يتعسنا. أما هذه الشهرة، التي نسعى إليها بشكل غريزي أهوج، فلا صلة لها بالسعادة، في نهاية الأمر. 

لا تُنصف الشهرة بعد الموت أحداً: لا ينصفنا إلا سعادة تغمرنا بهدوء واعتدال قبل الموت، في هذه الحياة التي لا تُنصف دوماً من يستحق الإنصاف.
​​​​​