«آخر أيام المدينة».. الإمساك بلحظة تداعي المدينة

2017-07-25 16:00:00

«آخر أيام المدينة».. الإمساك بلحظة تداعي المدينة

في هذا كلّه، نرى لغة سينمائية تتكشف معها متاهة المدينة والناس. المآزق، والأرواح المنهكة، والجسور المتشققة بين الأرواح المنهكة، بين أجزاء جسد المدينة. كل شيء يبدو عالقًا في تداعيه. لا هو ثابت مستقر ولا هو ركام. حتى الأحلامٍ تبدو على بساطتها يستحيل تحقيقها، بل يواجهها الواقع بمأسوية أكثر غلظة، ليس من السهل الوصول لسواد جذورها.

منذ انطلاق فيلم «آخر أيّام المدينة» (2016 ـــ 118 دقيقة) للمصري تامر السعيد (1972) في "البرليناله" 2016، لم يتوقف الفيلم عن التجوال بين المهرجانات، أو عن الحصول على الجوائز. ليصبح حاضرًا بشكل دائم خارج بلده، ممنوعًا داخلها.

منذ المشهد الأول الواقعة أحداثه في ديسمبر/ كانون الأول 2009، يفرض الفيلم روحه ومتنه على حواس المتلقي. شريط حميمي، يرصد بحزن الانهيارات المتتالية والتآكل الجمعي للشخصية المصرية.

خالد عبدالله، الشخصية الرئيسة، تنشغل في هذه اللحظة التي يبدأ منها الفيلم بالبحث عن شقّة. تمسك به أسئلة ماضيه وماضي مدينته في تيههما معًا. أصدقاؤه الثلاثة، اللبناني باسم (باسم فياض) والعراقيان حسان (حيدر حلو) وطارق (باسم حجار)، يأتون القاهرة ويغادرونها إلى بيروت وبغداد وبرلين، وهم في نقاش دائم محتدم عن البقاء في المدينة أو الاغترابٍ عنها. تقاطعات لمصائر معلّقة في مشهدية كثيفة وبسرد متشظ يظهر ارتباك الجميع وقلقهم. هذا كله يظهر في صورة ملوّنة بالغبار الأصفر بما يحمله من دلالات أبوكاليبسية، وانعدام وضوح الرؤية في هذه اللحظة من مسار بلد كان على وشك تقلبات عنيفة.

تظهر طبائع المكان والناس في نهاية عصر حسني مبارك: عشوائية العمران، واقع الاضمحلال، وتغوّل التخلّف والتطرّف والجهل والقمع والاستبداد. الصفات التي تدمغ الواقع الحالي. الصفات التي لربما جعلت كل مسؤولي المهرجانات المصرية يرفعون الفيلم من قوائم العرض في اللحظات الأخيرة على خلفيات تحسس مسؤولي السلطة.

توغّل في صميم اللحظة الآنية لبلد كهلٍ يكاد يحتضر طوال الأعوام القليلة الفائتة، ولا يزال، بمآزقه واختناقه في كل وجه من وجوه الحياة فيه من سياسة واقتصاد إلى سلوك فردي أو جمعي. 

يطرح الفيلم أسئلة عن معنى العلاقة بالمدينة، في لحظتها الآنية وماضيها. تساؤلات عن معنى الصداقة، وفكرة التشبّث بالمدينة في لحظة تتالي انهياراتها في مساحاتها ومناخها وفضائها، وناسها أيضاً. 

ثم نخرج من كون القاهرة هي المدينة المقصودة، لنرى استفحال القبح في المدينة أيضًا ولكن هذه المرة تكون بيروت وبغداد. كأن المُصاب هو نفسه. واللون الأصفر الغابر الذي يطغى على حياة القاهرة هو حاضر أيضًا في مدننا الأخرى، وإن اختلف لونه، وإن اختلفت طبيعته. لكنه حاضر في مدن تتشارك الانهيار، والمأساة الفردية والجمعية. نتلمس هذا كله في الحوار بين الأصدقاء الأربعة المنتمين للمدن الثلاث، وانفعالاتهم ناحية الجدوى والمعنى من البقاء.

في هذا كلّه، نرى لغة سينمائية تتكشف معها متاهة المدينة والناس. المآزق، والأرواح المنهكة، والجسور المتشققة بين الأرواح المنهكة، بين أجزاء جسد المدينة. كل شيء يبدو عالقًا في تداعيه. لا هو ثابت مستقر ولا هو ركام. حتى الأحلامٍ تبدو على بساطتها يستحيل تحقيقها، بل يواجهها الواقع بمأسوية أكثر غلظة، ليس من السهل الوصول لسواد جذورها.

والصمت، في «آخر أيام المدينة»، يبدو وكأنه محاولة لأخذ موقف بعينه من ضجيج القاهرة. فوسط كل هذا الغليان العنيف المعتمل في ذات كل شخصية في الفيلم، يحاول خالد (خالد عبد الله، الشخصية الرئيسة) العمل على إنجاز فيلمه عن المدينة والماضي والذاكرة. لكنه حائر، عاجزٌ ومرتبكٌ في بحثه، في محاولة فهمه للأشياء من حوله ليمسك بمعنى لالتقاطه صورة المكان لحظة انهياره، لحظة يحاول فيها بالوقت نفسه استعادة ماضٍ يبدو ضبابيًا الآن.

وسؤال آخر لا مفر منه حول إن كان قد استطاع تامر السعيد أن يجعل بطله يستمع، ونحن متماهين معه، إلى هذا الصمت في ضجيج القاهرة المستنفِد لأية طاقة. هنا تظهر لغة المخرج السينمائية، (كاتب السيناريو، بالتعاون مع رشا سلطي) أو صوته السردي في إمساكه بثنائية الوثائقي/الروائي. ومن خلال سينماتوغرافيا تحيلنا متأرجين بين الغروب والأفول حيناً، والاختناق حيناً آخر. وحركة الكاميرا داخل جغرافيا، محتشدة بالصور والكوادر، يُشيّد السعيد عالمَه البصري وسط الأشياء وهي تتداعى.

حصل الفيلم على عدة جوائز أهمها: الجائزة الكبرى، وجائزة لجنة تحكيم الشباب في "مهرجان نانت للقارات الثلاث" 2016، الجائزة الكبرى في "مهرجان نيوهورايزن السينمائي الدولي" 2016 في بولندا، أفضل مخرج في "مهرجان بوينس آيرس السينمائي الدولي" 2016، أفضل فيلم في "مهرجان سان فرانسيسكو للفيلم العربي" 2016.