فصل من رواية «على مائدة داعش» للسورية زهراء عبد الله

2017-06-28 12:06:00

فصل من رواية «على مائدة داعش» للسورية زهراء عبد الله

…وما بعد منتصف الليل، علا صوت هدير الطائرات بالسماء، صوتها أشبه ما يكون بأبواق تصرخ من أمكنة مخيفة.
صاحت ماريَّا بتوتر، وهي تفتح الباب عليّ بسرعة:
- البسي ثيابك، سنغادر من هنا
سألتها باستغراب:
- ماذا يحدث؟
- إنَّها طائرات التحالف الدولي أو الطائرات العراقيَّة، لا أعلم، أسرعي
سألتها بغباء:
- يقصفون داعش؟
 
رغم أنَّني أتمنَّى رقود هذا التنظيم الإرهابي تحت الحطام.
لكنَّ شيئَّا غريبًا إشرأبَّ بداخلي هو التمسُّك بالحياة، وتمنَّيت أن يتوقَّف القصف.
وجدت نفسي أصطفُّ إلى جانب عدوِّي، نتطلَّع  نحن الإثنين إلى وجهة واحدة هي إنقاذ حياتنا.

أتى سيف مستعجلاً، كأنَّه يهرب من الموت الذي يلحقه، ويحلّق فوقه!
بنبرة عجولة، قال لماريَّا:
- سأُحضر بعض الأغراض، والأوراق، من الداخل، وسنذهب،
قالت له بصوت يملأّه الترجِّي:
- أرجوك، فالنأخذ أهلي معنا.
ردَّ عليها وهو يتوجَّه نحو غرفته:
- سنرى

خرجنا من البيت، تُرافقنا أصوات الغارات اللتي تكاثفت، في أسفل البناية.
مجموعة من العناصر، يقفون تحت سقف المدخل، القلق والخوف يتكبَّش بلحاها، يتسلَّق إلى عيونهم.
أعطاهم سيف بضعة أوامر، ونظَّم إنطالقهم من أمام البناية، ثم ما هي دقائق إلّا حتى وصلت سيَّارة، فأتاه أحد العناصر، وقال له:
- أميري السيَّارة مؤمَّنة وجاهزة
سحب ماريَّا من يدها، ومشى إلى البوَّابة، مشيت خلفهم، كنت ألزق نفسي بماريَّا، أمسك بقماش عباءتها، كطفل ..
قبل أن يخرج كأنَّه تذكَّر شيئاً عديم الأهمِّيَّة، قال لأحد العناصر:
- حمزة، خذ السبيَّة إلى بيت آمن، و في ما بعد ترسلها إليّ.

وخرجا بالظلمة، ما عدت رأيتهما.. ماريَّا بعباءتها السوداء، وهو بقلبه الأسود، إتَّحدا مع الليل، ودار محرِّك السيَّارة معلمًا برحيلهما، دون أيَّة إضاءة..
بقيتُ وسط الظلام، من حولي عشرات العناصر، ومن فوقي عشرات الغارات.
قد أموت الآن تحت إحدى المقاصل المسنَّنة المتجهِّزة حولي،
أو قد أموت بأيَّة قذيفة قد تهوي، مخترقة السقف إلى رأسي، فتهشِّمه إلى آلاف الشظايا.
إختلط المنقذ بالجاني، كلاهما قد يتسبَّب بموتي، إنَّها العبثيَّة!

جلستُ على إحدى الدرجات، كنملة قد تسحقها أيَّة قدم في أيَّة لحظة.
أراقبُ العناصر، كنت خائفة من أن يقترب إليّ أحدهم..
ألَّا أنَّني ما لبثتُ أن أدركتُ، أنَّ رغبة بقائهم أحياء، الآن، أقوى من باقي الرغبات المتراكمة بأجسادهم.
الضوء خافت جدًّا، وهم كالأشباح أمامي، لا يمكنني تمييز وجوههم
وأماكنهم، الَّا من خلال أصواتهم، وأصوات البنادق التي يدكُّونها
بالرصاص لتكون جاهزة..
بقيتُ مكاني إلى أن لاح الفجر، وهدأ جنون الطائرات. فأن تمرَّ ساعة من دون أيَّة غارة، كان شيئًا جيِّدًا، كنت أُجنِّد سمعي، لأعلم ما الذي سيحدث الآن.
لم يبقَ إلَّا ثلاثة عناصر، الآخرون توزَّعوا خلال الليل.
 واحد من الثلاثة كان حمزة، تقدَّم إليّ، وقال:
- تعالي معي.
رفعت رأسي، دون إزاحة الخمار عن وجهي، وقلت له بنبرة استفهام:
- إلى أين؟ عند ماريَّا زوجة الأمير سيف؟
- كلَّا، إلى مكان آخر.
لم أتحرَّك. طأطأت رأسي للأرض.
ثم بغضب أضاف:
- هيَّا.. عيوني، لم يكن ينقصني غيرك.

وضعني بشقَّة صغيرة، تكاد تكون غرفة واحدة واسعة، مقسَّمة إلى غرفتين ضيِّقتين، وحمَّام صغير، ومطبخ خال من كلّ شيء.
أتفقَّد المكان، وهو يهمّ بالرحيل. استوقفته، وسألته:
- إلى متى سأبقى هنا؟
كان منشغلاً بالبحث عن مفتاح الباب، بين كومة مفاتيح تتدلَّى من حمَّالة مفاتيحه، وعندما وجده ولجه بالغلّ، وهو يقول:
- لا  أعلم. ولا تسألي أيّ شيء.
أغلق الباب، أقفله قفلين متواليين. نزل الدرج، وخبطُ  أقدامه يعضّ الأدراج.

البناية شبه مهجورة، إن لم تكن مهجورة بالكامل، لا أحد يسكن هنا.. حتى هذا الحيّ تنعدم فيه الحياة.
ربَّما أكون الكائن الحيّ الوحيد هنا، إضافة إلى هذه الصراصير التي تنغل بين أقدامي المتسمِّرة فزعًا.
الهرب من هذا المكان أشبه بالمهمَّة المستحيلة التنفيذ، الشبَّاكان الكبيران اللذان يشقَّان الحائط، مدعَّمان بقضبان حديديَّة من الخارج.

أنتقل من مدينة إلى أخرى، من بيت إلى آخر، من رجل إلى آخر..
تتنوَّع الأمكنة التي يطأها جسدي.
إلَّا أنَّ المكان الوحيد الذي يقبع فيّ هو جبل سنجار، بما فيه قريتي، منزلي، وملجأي السرِّي، أنا وسيروان.

رغم الوحشة التي تتأبَّط بالمكان، إلا أنَّني أشعر بالراحة، فأنا وحدي.
كنت أتوسَّل أمي كل ليلة أن تبقى قربي، ومن بعد أن عشقتُ سيروان، بتُّ لا أنام إلَّا وصوته يرقص فوق سريري، مادًّا كلماته من سمَّاعة الهاتف إلى قلبي، فأهدأ، وأرحل للنوم كالمسحورة..
الآن لم تعد تُخيفني لا الظلمة ولا الوحدة.
إكتشفتُ وجودَ أشياء مرعبة أكثر من خيالاتي المتوالدة بالظلام!
أشياء حقيقيَّة، لا تختفي إذا أغمضتُ عينيَّ، بل تشتدّ في حال أغمضتهما.
لذلك ينبغي أن أُفنجر كلّ حواسِّي، لتبقى متيقِّظة لأيّ هجوم.

مضت ثلاثة أيَّام، لم أذق فيها كسرة خبز، ولم يتسرّب إلى جوفي قطرة ماء.
في ذروة الظمأ، مددت لساني من بين قضبان الشبَّاك علَّني أسرق بضع قطرات من مطر السماء.
لم يسعفني قصر لساني، فمددت ذراعي، تركتها تتبلَّل، تتشبَّع، ثم أدخلتها إلى فمي، كالكلب الذي يلحس عضمة.
ما أبخل السماء!
خطّ النمل الطويل الذي ما ملَّ من المشي ذهابًا وإيابًا، ينقل على ظهره فتات الفتات. أتأمَّله.. من أين يُحضر حنطته؟
إن بقيت أيَّاما أخرى هنا، فسوف أستولي على هذا الفتات!
وإن متّ ستتقمَّص روحي جسد نملة كهذه، فأشبع!

في مساء ذلك اليوم ،عاد حمزة. دخل محمَّلاً بأكياس كثيرة، وضعها أرضًا، واقترب من الفراش الذي أرتمي عليه، دون قدرة لي على التكلُّم، أو رفع رأسي.
هزَّني من كتفي، وقال لي:
- يا لكِ من جبَّارة، ما زلت حيَّة.
قلت له جاهدة :
- أريد أن أشرب.


نهض متفقِّدًا محتويات الأكياس، رمى بقربي  قنِّينة ماء، أضاف:
- لقد أوصلت الماء الآن إلى المواسير.
دفقتُ الماء كلّه مرَّة واحدة، ووضعت رأسي مجدَّدًا على الفراش. كان ثقيلاً، يمشي به خدر بطيء.
قلت له:
- إلى متى سأبقى هنا؟
- اسمعي، الأمير سافر إلى غير منطقة، ولم يعد يريدك، عيوني.
 وأضاف بفخر:
- أهداني إيَّاكِ، واليوم سآتي ومعي رفيقي، لتكوني لنا.
 ثم مدَّ إصبعه إلى الأكياس، وبصوت متوعِّد قال:
- سوف تطبخين كلّ هذه المحتويات، لأنَّني دعوته على العشاء، كوني جاهزة، وإلَّا لن تكوني حيَّة بعد ذلك.
وأردف:
-  لا تنسي الاستحمام.

 في داخل كلّ منَّا، شيء أشبه ما يكون بكائن خرافيّ، وحش ربَّما!
لا يظهر إلَّا بأوقات  نظنّ فيها أنَّنا ضعفاء، وأنَّنا انتهينا.
 لنسمع فجأة صوتًا كالدويِّ، يأتينا من قاع سحيق بأعماقنا، فيكون هو.
 ينطح القشرة البالية لقدرتنا المتآكلة، يجمع نفسه، يفرد أجنحته في كلِّ عروقنا، ويتجهَّز ليستلم عرش الإرادة!

أُحَضِّرُ طعامًا شهيًّا، سيحييني من جديد، لكن دون أن أتذوَّقه، سيحييني من جديد!

أُقطّعُ الخضار، أسلقُ اللحم، وأتأمَّلُ ثوبًا أحمر شفَّافًا، علّقه حمزة على مسمار صدئ على طرف باب المطبخ.
رسمتُ ما شئت، ولم أتجرَّأ على رسم أحلامي، التي كانت ستتحوَّل واقعًا ملموسًا، لو أنَّها لامست الورق.
كهذا اللحم الذي يغلي ليتحوَّل إلى شبع، ما كان وجد بين يديّ، لولا إجرام الجزَّار في ذبح  ذلك الجدي. 

كلّ شيء جاهز الآن، الانتظار بات له نكهة لاسعة لكنَّها لذيذة..
سلختُ ملابسي عنِّي، رميت فوقي الفستان الأحمر الشفَّاف، فتنسَّل من الأظافر المقرومة النابتة بلحمي، وتمزَّق.
سأستقبل زوَّاري بعد قليل، فرميت عليّ وشاحًا من الجرأة.

عندما رآني حمزة وصديقه، أقف كالفرس، راق لهما الجوّ. غمز حمزة صديقه وقال له همسًا، لكنَّه أراده أن يصلني:
- ألم أقل لك إنَّها جميلة.
إقترب ومسك ذراعي، همَّ بجرِّي وراءه. قال لصديقه، وهو يزدرد ريقه:
- عيوني، أنتَ من بعدي.
إستوقفته بغنج. نظرت إليه بعينين إستملكهما شيطانُ الإغراء، قلت له:
- انا جائعة ولم آكل بعد، فهلَّا أكلنا قبل!
صاح عليه صديقه قائلاً:
- يا حمزة، تعال نأكل الآن، الليل طويل.
تطلَّع اليه، ثم أعاد عينيه إلى وجهي، وعضّ على شفته السفلى، قائلاً بنبرة شرط:
- وسوف تفعلين كلّ ما أطلبه منك، عيوني؟
أطبقت جفنيّ بحركة أنثويَّة.

الموسيقى تخرج من موبايل حمزة، كعصافير هاربة من أقفاصها، تحوم حول قامتي المتراقصة، المغطَّاة بالقماش الأحمر.
يقول صديقه بخوف:
- حمزة أخفض الصوت، إن وجدوا هذه الموسيقى بموبايلك، لسوف يُنكَّل بك.
يردُّ عليه حمزة باستهتار:
- إنَّه راديو
ثم أشار إليَّ قائلاً:
- إستمتع الآن يا رجل، يا عيوني.
يدي تعلو، وتنسدل بالهواء، وأيديهم تعلو من الصحن إلى أفواهم.
أدور حولهم كراقصة إحترفت لعبة الأجساد، أدلق كلّ شرّ بأنوثتي فوق مائدتهم.
 مع صوت الموسيقى المحرَّم، ورقصي على مائدتهم المحلَّل.
بدأت عيونهم تغزوها رغبة النوم، فأطبقوها أخيرًا مستسلمين لجبروت النعاس، وغاصوا بعمق بعيد..
 الهواء يصفِر بالخارج، يصطدِمُ بدرفة الشبَّاك، فتئنُّ وتئزُّ. الصحون فارغة، والأجساد ممدَّدة على الارض، كالجثث النائمة مؤقَّتًا.
تلك الحبوب الألماسيَّة الصغيرة، التي أسميتها الحبوب اللعينة، آزرت أبو محمَّد في أوَّل إغتصاب، ها هي تؤازرني الآن بآخر محاولة لهم معي.
ها هي الآن تسري بعروقهما، بدمائهما..
أفكِّر.. يا لسخرية الأقدار!
أيكون أبو محمَّد، هو من ساعدني الآن؟ لأنَّه من منحني تلك الألماسات!
بل إنَّه الشرّ الذي يرتدّ على صاحبه، واليوم بهذه اللحظات، ارتّد على أصحابه، على إخوانه.

أقف فوق رؤوسهم، أحاصرهم بسكونهم، وتحاصرني ذاكرتي الصاخبة بالعويل.
منذ أوَّل لحظة ، سمعت بصحياتهم: "الله اكبر" تخترق جدران غرفتي
 وغفوتي، صحوْت!
نحملُ أغراضنا، نركض، نهرول.. غمرتُ سيروان، أنزلوا أبي، قتلوه..
أسلِموا..أسلِموا..
 صوت رصاص أطاح بخالتي كوري.
صراخ أميِّ التي تشلَّعت لآلاف الأرواح المتمرِّدة، لمساتهم التي تنخرني.
 الصلاة، المقصلة. الصلاة، المقصلة.
أقف عارية تحت السماء، بفستان أحمر، يرقص لحمي فوق مائدتهم!
صداعي يطرق برأسي بالهواء، علّه يتفجَّم فأستريح.

لبست ثيابي، وتدثَّرت بالعباءة، اقتربت حذرة إلى حمزة، أبحث عن المفتاح. بطرف أصابعي سحبته من جيبه، وحملت الموبايل الذي أخرس الموسيقى، لا أتذكَّر في أيَّة لحظة.
أُمسكُ بين يديَّ المتنمِّلتين بمفتاح وموبايل حمزة، أراهم بعيوني الزائغة كأنَّهم أجساد من دون ملامح، فقط بلحًى كثيفة.
قبل أن أفتح الباب، وأخطو الخطوة الأولى بطريق حرِّيَّتي، شيء ما شدّني إلى الوراء.
كان هو، كائني الخرافي، وحشي، أعادني لأخيِّم مجدَّدًا فوق رؤوسهم، كملك الموت.
أفكِّر.. ماذا لو استفاقوا، وبلّغوا عنِّي، واستطاعوا القبض عليَّ ثانية؟!
أمسكتُ السكِّين، ودفعتني أجنحة الكائن التي تنقر بعروقي كديوك لا تهدأ، لأن أضع السكِّين على شرايين يد حمزة. وبشجاعة غريبة لم أمرّ بها بحياتي، حزَّيت جلده، وصولاً للحمه عند المعصم، فنفرَ الدمُ أحمر متسارعًا كمجرور انفتح، وفاض وسط الطريق...
 أُعيد بداخلي.. لقد فعلتها شيرين، رأيتها مُمدَّدة في الزنزانة، ودماؤها متخثِّرة، كالآثار القديمة، صعبٌ بأن تتهدَّم بمحراب ذاكرتي.
سحبتُ نفسي، ووقفتُ أشاهدُ السيلان، إلى أن وصل لقدميَّ، ثم كرَّرت الفعلة بيده الأخرى، بمهارة، كأنِّي مارست الذبح من قبل، وانتقلت إلى يديْ صديقه.
كان الدم يسيل فوق مائدتهم أحمر، ممتلئًا بروائح ضحاياهم!

أسدلتُ الخمار على وجهي، لكي لا أرى ولا أشمّ، لكي أغيب.
عليّ أن أعبر إلى الضفَّة الأخرى، على جسر من جثثهم.
كان الهواء قاسيًا، يلتفُّ حولي، يريد ابتلاعي، العباءة تتطاير كأنَّها تتخلَّى عنَّي.. أشدَّها إليّ من جهة، فتطير مبتعدةً من الجهة الأخرى.

صدرت الرواية مؤخراً عن دار الآداب اللبنانية