الجُرح الحكيم

2017-07-06 10:00:00

الجُرح الحكيم
"الكوميديا الإلهية" . ويليام بلايك

بإسنادٍ ضعيف، فُسّرت "متاع الغَرور" في الآية المعروفة "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" بأنها خِرقة الحيض. ورُويت هذه الأمنية عن عائشة الحميراء زوجة الرسول، بعد مقتل عثمان بن عفان: "ليتني كنتُ حِيضةً ملقاة على عقبي أمّي"، أي ليتني كنتُ خرقةَ حيض.

تاريخ الدورة الشهرية

صارع بيتر رِدغروف لوقتٍ طويل خوفاً واشمئزازاً ممضّين، حتى بارحه الخوف من الجنون حين شرع بكتابة عمله «الجُرح الحكيم» في ربيع 1975، متمكّناً فيه للمرة الأولى من الجَمع بين ثقافته العلمية وخياله الأدبي. استغرقته الكتابة أكثر من ثلاث سنين لم يجدْ خلالها عملاً ثابتاً، مراجعاً عشراتِ الأطروحات الجامعية المكتوبة حول فيزيولوجيا الدورة الشهرية، ومنهمكاً بالمقابلات مع فتيات ونساء عديدات، ومجرياً الكثير من البحث العلمي والأنثروبولوجي والميثولوجي والديني، دارساً، على سبيل المثال، السيكولوجيا الجنسية لدى مصّاصي ومصّاصات الدماء في أفلام الرعب التي ظل مولعاً بها طوال حياته. كان أصحابه يُخفون عنه بلوغَ بناتهم، تفادياً لملاحقته إياهنّ وإمطارهنّ بأسئلته حول حيضهنّ الأول. 

التجربة الموضوعية للدورة الشهرية، وارتباطها بالوحدة يبن العقل والجسد وبين الإنسان والطبيعة، هي تجربة مقموعة في معظم الثقافات والديانات، ولا تزال مظلّلة بشيء من الحظر حتى في الثقافة الرأسمالية بأوجهها البروتستانتية والكاثوليكية، ربما باستثناء البرامج الصحية. لقد أفقرتِ المدرسةُ الفرويدية للتحليل النفسي تجاربَ روحية كبرى وجرّدتها من أبعادها الجنسية الحقّة. آينشتاين وفرويد بأبويته المهيمنة حكما على روح العصر الحديث بالمرض (كان ردغروف يرى في قصةِ ركوب آينشتاين شعاعاً من الضوء احتلامَ مراهقين).

سُمح بدعايات الفوط النسائية في بريطانيا بعد طباعة "الجُرح الحكيم" بعشر سنين. قال المؤلف إنه يتذكر تغيرات أمه عند حلول "ميعادها" الدوريّ، ومنعها إياه من دخول غرفتها لتنسدل الستائر، ويعبق الجوّ برائحة تشبه الخوخ أوان نضوجه. كان قد شبّ في حقبة الخمسينيات حيث مَن تنام معها "إما زوجتك أو العاهرة"؛ قرأ في مراهقته «الكامل في الجنس» للدكتور ردودلف فون أوربان، صاحب نظرية الكهرباء البيولوجية: "كان يتحدّث عن جنسٍ كهربائي بطيء، والكهرباء مقصودة حرفياً. روى قصصاً عن غلالات من الضوء المتلألئ التي يرى بعضُ العشاق أنها تلفّهم أثناء ممارسة الجنس". بالنسبة إلى بيتر المراهق، كانت تلك النظرية شيئاً طبيعياً ومفهوماً، فأجسادنا تتألف من جزيئات مشحونة كهربائياً وبلورات من أنصاف النواقل، مثلنا مثل صخور هذا الكوكب.

درس ردغروف علم الأحياء في كيمبريدج قبل أن يتخلى عن التدريس والحياة الأكاديمية. كان الغرائبيّ يطمئنه، هو الخائف والمتطيّر من الوسخ والمولع بالمجهر الذي سمّاه "عين السيكلوب". اعتبر قصائده "جراثيم" تلزمها فترات حضانة متباينة، وقد تتعفّن وتأسن وتُنسى أو قد تُمرِضه أو تُشفيه، ورأى الأساطير حيةً وتحمي المخيلة، كما في حالة صديقه تيد هيوز الذي حاججه بأن نموّ عقل الإنسان كان خطأ تطوّرياً حرمنا من الفردوس الذي نعم به النياندرتاليون.

لغز الإلهة النازفة

في رواية فيليب روث «الحيوان المحتضر»، يستدرج الأستاذ الجامعي ديفيد كِبيش طالباته. يصف الراوي كيف كان يتفرج على الفرج النازف لطالبته الكوبية (والإنكليزية لا تتيح هذا الجناس بين الفُرجة والفرْج وتفريج الهمّ)، ويتساءل: "ماذا بعدُ يا ديفيد؟ هل ستشرب دمها؟ إنها تقول اعبدْني، اعبدْ لغزَ الإلهة النازفة، فتعبدها. لا شيء يوقفك. تلعقه. تلتهمه. تهضمه. هي مَن تلِجك. ماذا بعد يا ديفيد؟ كأس من بولها؟ كم سيطول بك الوقت قبل أن تتسوّل برازها؟ لستُ ضدّ ذلك لأنه غيرُ صحي. أنا ضدّه لأنه مقزّز. أنا ضدّه لأنه وقوعٌ في الحبّ. الهوس الوحيد الذي يريده الجميع: الحب". طالبةٌ أخرى من اللواتي عاشرهنّ تعثر على فوطة نسائية داخل سلة القمامة في حمّام بيته، فتطلب منه مصارحتها بقول الحقيقة. تقترب منه أثناء تناوله الفطور صباح يوم سبت، فتضع الفوطة المثقلة بحيض امرأة أخرى على طاولة المطبخ، بين صحن الزبدة وإبريق الشاي، وتسأله: "لمَ لا تضعها على خبزك وتأكلها؟"

شجرة العار

يقول أبو إسحق الثعلبي النيسابوري في "عرائس المجالس": "ابتُليَت حواء وبناتها بالحيض. يُروى إنها لما تناولتِ الشجرة دميتْ فقال الله تعالى إنّ لكِ عليّ أن أدميكِ أنتِ وبناتك في كل شهرة مرةً كما أدميتِ هذه الشجرة". قِيل إن هذه الشجرة المحرّمة المختلف على اسمها وتصنيفها هي شجرة السمُرة، المهددة بالانقراض حالياً، وقد بويع الرسول تحتها في بيعة الرضوان، وسال منها شيءٌ كالدم؛ وقيل إنها الكَرمة التي وسوس إبليس لآدم وحواء بأنها شجرة الخلد والعلم، قبل أن تنقلب إلى شجرة المحنة ويختمر في عناقيدها دمُ المسيح؛ وقيل إن حوّاء سقت آدم من خمر التفّاح وأسكَرْته ليأكل معها ثمرة الخطيئة التي لم ينهيا التهامها لأنهما أكلا ما نهاهما ربهما عنه، فبانت لهما عورتاهما وسوءاتهما وبدأ شجر الجنة يوبّخهما ويمسك بنواصيهما، وقبل طردهما إلى الأرض لم ترحمهما من عار العُري إلا شجرة التين، فرقّت لحالهما ووهبتهما كساء من أوراقها العريضة.

لدم الحيض في اللغة العربية أسماء عديدة أحدها الضحك (الضحك المكروه للنساء في الحِياض التي تذود عنها القبائل)، والعِراك الذي قد يربط بين الثأر والنزف الدوري للرحم، فصِلة الرحم هي القرابة والعوارك هنّ الحائضات. تقول الخنساء "لا نومَ أو تغسلوا عاراً أظلّكم/غسلَ العوارك حيضاً بعد إطهار". يرد الفعل "ضحكت" في القرآن بمعنى "حاضت": "فضحكتْ فبشّرناها بإسحاق" (الضاحكة هنا، في سورة هود، هي سارة زوجة النبي إبراهيم وقد أتاها الحيض بعد الضهي أو الإياس (أو ما يسمّى حالياً سنّ اليأس) تحقيقاً للبشارة ومعجزة ولادة ابنهما وهما شيخان)، وفي سورة البقرة: "ويسألونك عن المحيض قُل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض"، والأذى هنا دالّ على المحيض بمعنى النتن والقذارة والنجاسة. أما الطمث فاسمٌ لحيض الجواري أو النكاح بالتدمية.

بإسنادٍ ضعيف، فُسّرت "متاع الغَرور" في الآية المعروفة "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" بأنها خِرقة الحيض. ورُويت هذه الأمنية عن عائشة الحميراء زوجة الرسول، بعد مقتل عثمان بن عفان: "ليتني كنتُ حِيضةً ملقاة على عقبي أمّي"، أي ليتني كنتُ خرقةَ حيض.

الرحم شبيهٌ برأس ثور، إذا قُطِع وملحقاته سهمياً؛ رأس ثور في الحلبة المظلمة للأحشاء يطعنهُ القمر كلما اكتملتْ دورتُه حول الأرض، فيسيل الدمُ من منبت المولود والبيت الرحيم للإنسان، ويحرّم على المرأة مؤقّتاً، الموصوفة أحياناً بالشجرة والقمر، تأديةَ الصلاة والصوم ومسّ الكتب المقدّسة وممارسة الجنس وأشياء أخرى. في البدء، جرحت حواء شجرة المعرفة المطلقة التي ما كفى خشبها يوماً توابيتَ ضحاياها، فعُوقبتْ وبناتها لتصير المرأةُ مرآةَ الشجرة ودمُ خصوبتها ذكرى الذين فارقوا الفردوس.

حَمَلُ البرابرة

يصف دانتي غابة المنتحرين في الدائرة الثانية من «الجحيم»، حيث قَتَلةُ أنفسِهم ممسوخون إلى أشجار ناطقة تنوح في غابة من الشجر اليابس القاسي، أشجار "ملتفّة الأغصان عَقْداء الفروع، لا فاكهة فيها وإنما شوكٌ مليء بالسمّ"؛ حين ينتزع دانتي غصناً صغيراً ليعرف سرّ هذا النواح ويستنطقَ الشجرة يصرخُ جذعها ويسيل من الغصن المقطوع الدمُ والكلماتُ معاً.

ربما كان للأصوات في غابة دانتي صداها في مخيلة ج. ك. تشسترتن حين كتب «حكاية شجر الطاووس»، وفيها شجرة تفترس العصافير التي تعشّش على فروعها، وحين يأتي الربيع يغطّيها ريشٌ متنوّعُ الألوان والأشكال بدلاً من الأوراق.

ما لا نصدّقه أروع مما نصدّقه ونؤمن به. لا تزال لدى الإنسان المعاصر حاجةٌ إلى وجود نباتات وحيوانات لم يكتشفها أحد بعد، مثل أخطبوط لا يعرف الموت في قاع الأطلنطي، أو مثل حمَل التتار الذي وصفه هنري لِيْ في نهاية القرن التاسع عشر، قائلاً إن هذا الحمَل نبات ينمو في هضبة التيبت ويسيل منه الدم إذا كُسرت غصونه، ثمرته على شكل خروف تربطه بالتراب ساقٌ هي حبلهُ السّري، فيرعى الحشائش ضمن الدائرة التي يسمح بها طولُ الحبل. وحين ينفد الزاد يهمدان هو وأمّه في دائرة الموت فيغنمهما الرعاةُ والفلاحون، "وقد نُسجت من صوفه عباءة قيصر موسكو، وخيطت من جلده قبعاتُ أرمن وفُرس". دمه حلو المذاق كالعسل، وكثيراً ما تنخدع به الذئاب فتنقضّ عليه، وحين تفترسه تباركها لعنته، فتنتهي بها الوداعةُ المفاجئة إلى المروج لترعى مع المواشي وتقتات على العشب. استخدم المبشّرون المسيحيون في شرق آسيا مثالَ هذا النبات للبرهنة على حقيقة يسوع- الحمَل فادي العالم ورسول المحبّة.