ذاكرة المجزرة

2016-09-18 10:30:45

ذاكرة المجزرة
مجزرة صبرا وشاتيلا . إسماعيل شموط . ١٩٨٣

على الرغم من السنين التي مرت، على الرغم من الأصوات التي غاب أنينها، على الرغم من الجثث التي دفنت

لم تزل صبرا ولم تزل شاتيلا، هنا.

ولم يزل كل الهراء الذي ندعيه، يسخر منا.

الموتى لن ينهضوا من رقادهم، والجدران حتى الجديدة منها، تحمل صفاتهم ورائحتهم، المجزرة على الجدران، وكلامنا عن الموت ليس أكثر من هتاف للحياة فارغ من مضامين القتل

في الشوارع المنسية، والأبنية التي استطالت حول المخيم، عيون شارون، وأصوات الوحوش تجز الرقاب، والأرض، آه من الأرض علة الفلسطيني، الأرض تشرب الدم، تشرب ولا ترتوي، تشرب، وما زالت شجرة الشهداء طفلة مدفونة في مقبرة المجزرة..

لدينا متسع للموت، ولدينا مخيمات كثيرة، وكلها تنتظر حتفها، وبينما تنتظر، يحل عليها الألم من كل حدب وصوب، ومن كل رضيع جديد يأتي للحياة باسم الوطن، وسيكبر قليلاً، وينادي الأرض التي له ولا يعرفها، وينتظر مع المنتظرين حتف مخيمه، بقذيفة أو مركب، أو مجزرة.

تحيا المجزرة، هنا في كل مكان ترانا، وترقبنا، وتهمس بصوت الخوف، سآتي لأجز رقاب من تبقوا، ومن أنجبوا.. 

تخبرني سيدة كيف ذبحوا والدها، تخبرني أنه أخطأ حين ظن الوحش عند باب المخيم إنسياً، ذبحوه، ولحسن حظه، ربما لأن زوجته طمعت به تلك الليلة فأطعمته الدسم، فتضخمت عروقه، وغارت أخرى، فلم يصل نصل السكين لكل ما في رقبته، فلم يمت، وعاش ليروي، وهو الناجي من مجزرة تل الزعتر..

عاش ليروي، كما الجدران في المخيم تروي.. الجدران، لا تسألوا في صبرا وشاتيلا الناس، فقط تحسسوا روح الحجارة، وانحنوا بأجسادكم للعنة الأرض واسمعوا أصواتهم، اسمعوها جيداً، ما زالت تئن تحت نعالكم، كم من ذبيح روحه عالقة تحت أحذية قادة يمرون كل سنة في مثل هذه الأيام، يضعون إكليل ورد ويرحلون.

لدينا متسع للموت، ولدينا مخيمات كثيرة، وكلها تنتظر حتفها، وبينما تنتظر، يحل عليها الألم من كل حدب وصوب، ومن كل رضيع جديد يأتي للحياة باسم الوطن، وسيكبر قليلاً، وينادي الأرض التي له ولا يعرفها، وينتظر مع المنتظرين حتف مخيمه، بقذيفة أو مركب، أو مجزرة.. سينتظر، كما فعل ويفعل وسيفعل البقية.. سينتظر، فليس أمامه سوى الموت بعد حين، والموت لنا جميعا، ولكن بعضنا وأعني نحن الفلسطينيين، لا نموت بشكل طبيعي، لا نموت إلا لتمر الخرائط فوق أجسادنا، وتتقاسم الدول الصناعية لحمنا رغيفاً لنفطها وغازها، وتوزيع الحصص مع أولاد عمنا، وأخوتنا رعاة موتنا.. 

لدينا متسع للموت، وهناك خلف البحر، أماكن للحياة تصلح لنا، حياة لنا وموات يستهلك بقايا التراب فينا، فتعالوا لنركب البحر غير آبهين بصبح مدننا التي صارت بفعل المجزرة عبرية، رغم القصائد والروايات والسينما، والسياسيين من بني جلدنا.. تعالوا لنركب البحر ونسلم على مدننا ونحن في الطرف الآخر منها، تعالوا لنحمل مجازرنا الكثيرة، ونغني هناك، هلا لا ليا وهلا لا ليا عيني يا فلسطينية.. هل ما زلنا حقا.. 

أخاف أن أجيب، أخاف، لسنا كما نريد، فجدران صبرا وشاتيلا يعلنان الآن المجزرة، وذاكرة المجزرة أعنف وأقوى وأطول من ذاكرة القتلى حين يستسلم أهلهم للقتلة.