منذر جوابرة: "علو" قفزة تقنيّة وموضوعيّة، وتجربة خاصّة من روح المكان

2017-06-21 08:00:00

منذر جوابرة:
منذر جوابرة في أحد أعمال

منذ معرضه الأوّل في رام الله عام 2003، بدا الفنّان التشكيليّ منذر جوابرة مختلفاً، ذا حضور خاصّ في الساحة الفنّيّة الفلسطينيّة الغنيّة، هو اللاجئ من قرية "عراق المنشيّة" المحتلّة في أراضي الـ ٤٨، المولود عام 1976 في مخيّم العروب (شمال مدينة الخليل) في الضفّة الغربيّة، والذي يقيم حالياً في مدينة بيت لحم.

يقول جوابرة: "إنّ الطفولة في المخيّم لها مكوّناتها وخصوصيّتها في طبيعة التفاعل مع المحيط الاجتماعيّ وليس الفرديّ فقط، فيصبح الشخص وهو في سنّ الثالثة عشرة "زلمة" ومسؤولاً عن تصرفاته، ويصبح تكوين الوعي بالمحيط يأخذ بعداً مختلفاً، وهذا ما حدث من خلال الانغماس مع قضية الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧ حيث توجّه اهتمام معظم شباب المخيّم لهذا الحدث، وأصبح الوعي السياسيّ يفرض وجوده، وهذا ما يمكن قياسه على معظم ذلك الجيل ومن سبقه بانشغالهم بالهمّ السياسيّ أكثر من أيّ شيء آخر.

حاورنا جوابرة ليتحدث عن آخر معارضه الموسوم بـ"علو"، والذي يقام في تونس من الفترة ما بين 13 أيّار/ مايو و 13 تمّوز/ يوليو القادم، وليضيء كذلك على مشروعه البصريّ وآفاقه، وتأملاته الفنّيّة التي لا تنتهي. فكان هذا الحوار..

لماذا "علو"؟ والآن تحديداً؟

جاء مشروع "علو" تعبيراً عن عدة نقاط، أهمها الموضوع، فقد تم تقديم أعمال سابقة معظمها يتحدث عن هم سياسيّ فلسطينيّ بالدرجة الأولى، وقُدمت لتناقش بعض الحالات والتحوّلات الحاصلة على الصعيد السياسيّ، فبينما كان مشروع "ما كان يُعرف ومن ثم ما يُعرف" ولاحقاً "زمن مكسور"، فإنها قدّمت مضامين ودلالات عن حالة، وأحداث سياسيّة، وبقيت مقتصرة على فعل حصريّ داخل فلسطين يمكن قياسه أو مقارنته على حالات أخرى في الخارج فيما بعد، لكنها حافظت على خصوصيّتها الفلسطينيّة ويمكن اكتشافها من خلال الشكل لما يعكسه من أيقونات فلسطينيّة كرّست وجودها من خلال عناصر العمل الفنّيّ المرسومة، في حين هنا جاء ليقفز خارج هذه الحدود ويشمل بموضوعه القضيّة الإنسانيّة جمعاء خاصّة في ظلّ الأحداث الأخيرة بالمنطقة العربيّة والعالم، وبالرغم من خصوصيّة القضيّة الفلسطينيّة وأن الاحتلال هو المسؤول المباشر عن كل هذه الأحداث المتطرّفة وخلق الصراعات الإقليميّة العربيّة، إلّا أنّنا ملزمون أخلاقياً وإنسانياً بالوقوف والتعبير بالرفض عن التصدعات العربيّة وعدم اقتصارها على الحالة الفلسطينيّة، وبالوقت الذي وقف فيه العرب إلى جانب قضيتنا، فنحن ملزمون أخلاقياً أن نكون شركاء ومساهمين بتفاعلنا مع ما يحدث حولنا الآن.

أما من الناحية التقنيّة، فقد تم العمل على معارض سابقة تقدم رسائل سياسيّة مباشرة، كجزء من التفاعل الاجتماعيّ والتوعويّ والتوثيقيّ البصريّ، استمراراً للأرشيف البصريّ الذي بدأ في سبعينات وثمانينات القرن الماضي والمتمثل بفنّ الملصقات، والذي أصبح مغيّباً على الصعيد الفنّي حديثاً، وكذلك خلق بدائل فنّية تعزز الدور السياسيّ بما يتناسب مع المرحلة دون تنازلات أو تراجع عن هدفها الحقيقيّ في تحرير الأرض والإنسان وأن لا يبقى الفنّ بمعزل عن الحياة اليوميّة وما يدور حولها من تطورات سريعة. خاصةً أن عدوّنا قويّاً سياسيّاً وإعلامياً وثقافيّاً في الخارج، وهو ذو تأثير فعال على مسار الثقافة الخارجيّة في تحييز الآخر ضد فلسطين وما تنتهجه من ثقافة عدائيّة ضدنا.

كما يُعدّ المعرض قفزة تقنية حافظت على فرادتها كتجربة خاصّة من روح المكان والفنّان، دون أن نجدها متأثرة بأعمال أخرى، وجاءت لترتفع عن كل هذا الألم والمعاناة، كشرط للاستمرار والبقاء، وأن لا نقف مندهشين وصامتين أمام ما يحدث معنا يوميّاً، بل علينا أن نعلو فوق هذا الموت وأن نصنع حياتنا متجاوزين الخروج من الزمن ومن الفعل ومن التغيير.

بأي معنى تعتبر أنّ أعمال معرضك هذا "تمثل حالة من الإرباك والتداخل بين مفهومي الموت والألم، وتسعى من خلالهما لأن ترتفع قليلاً كحالة تصوّف وتأمل"؟

إنّ الموت هو استكانة، ونهاية، وربّما انتقال من مرحلة لأخرى، لكن مفهوم النهاية هو أحد مؤشرات العجز والاستسلام، النهايات هي ضعف القوّة والاستمرار، لذلك نصل النهايات، في حين أن القوّة والاندفاع والحب يذهب بنا للاستمرار والبقاء وعدم وضع خطوة الموت أو النهاية كفعل مؤثر على الصعيد النفسيّ والفكريّ للإنسان، لذلك يقال في المثل الشعبيّ "اللي خلف ما مات" وهذا تعبير عن فكرة الاستمرار، بهذا المعني نستطيع أن نفهم أنّ قبولنا للنهاية هو شرط للموت، ولا شك في أنّ علاقة الموت مرتبطة بشكل جذريّ وفعليّ بمفهوم الألم، فبمجرد فقداننا لشخصٍ ما فإنّ أوّل ما يحصل منّا كردّة فعل هو الألم، الذي يأتي بطرق كثيرة للتعبير عنها، إمّا بالغضب أو البكاء أو الحزن أو العنف… إلخ، وفي حالات كثيرة فإنّ شعورنا بالألم يتساوى مع الموت، وهنا أقصد اللافعل.

وفي مشروع "علو" فإنّ المواجهة جدليّة جداً بين الموت والألم، وهي أيضاً قوّة سلطويّة في العقيدة الفكريّة للإنسان في فكرة تقبّل الموت والاستسلام له، وأيهما أحق أن نكونه، ميتين أم متألمين؟، بالرغم من قساوة الحالتين، ومن تشابههما في التأثير النفسيّ لما تعكسه حساسية الموت وعلاقتها مع الموروث الإنسانيّ ببعدها الدينيّ، فإن نقاش مفهوم الموت خارج هذا الإطار تواجه إشكاليّة في تعريفها وتقبّلها، إن كان على الصعيد الجسديّ الذي يُعدّ موتاً فكريّاً أو نفسيّاً وما يتركه من أثر عاطفي يفرز وجوده بالألم كحالة يمكن قياسها ببعد شخصيّ يتضامن معه الآخرون كتجربة تتشابه في أحداثها ونتائجها، وتأخذ أبعادها من الحالة نفسها كفعل، ومن الشخص نفسه كمتلقّي، ما يعني صعوبة وضع قانون أو تعريف خاصّ بالألم، بل يبقى واقفاً على الحافة، بحيث أن الألم نفسه يتقاطع مع مفهوم الخطيئة والشر والسقوط وجوديّاً وإنسانيّاً ومواجهتهما مع فلسفة الحياة عند المُتديّنين الذين يعتقدون بوجود حياة أخرى، والملحدين الذين لا يؤمنون بالحياة الأخرى ما يعكس واقع الألم في الحالتين لمسالة العدمية، وأنّ ما يمكن بناؤه سينتهي كفعل شخصيّ، لكنه ربما يستمر كفعل إنسانيّ، وهذا ربما ما نجده غالباً في معركة الوجود ليس فقط بالسياسة ولكنها بالمكون الاجتماعيّ والدينيّ والفلسفيّ وغيرها.

تحاول في "علو"، أن تطرح العديد من الأسئلة بصريّاً حول مفهوم الألم والموت، ومفاهيم أخرى وطنيّة ملتزمة، من خلال أعمال تنوّعت ما بين اللوحات والتركيبية المفاهيميّة. أسألك عن المفاتيح، التي يمكن أن تعيننا على الدخول إلى عوالم هذا المعرض.

إنّ الموت من أجل فكرة يعتبر موقفاً عظيماً ويستحق التضحية، ولكن في الوقت نفسه في ظلّ العدميّة المطلقة في تحقيق النتيجة المرجوّة لاحقاً يصبح الموت عبثيّاً، وربما من أكثر الأمثلة التي يمكن طرحها، فكرة الشهيد الذي نؤمن نحن أيضاً بقدسيّته وقيمته، ولكن في الوقت نفسه يضعنا أمام أنفسنا، ماذا فعلنا نحن له مقابل ما فعله لأجلنا؟ ماذا حققنا؟ ماذا يمكننا أن نفعل؟ إنّ موتهم يجعلنا نتبنى الألم ويزيد من وجعنا، فبموتهم تكون قد انتهت الكثير من القصص التي ربّما سيكتب لها النجاح كفعل إبداعيّ ونضاليّ مثل غسان كنفاني أو ناجي العلي أو ماجد أبو شرار وغيرهم الكثير،  فقد تحيزوا للإنجاز النضاليّ والثقافيّ على حدٍ سواء، وباستشهادهم في قمة العطاء حُرمنا من منجز أكثر نضجاً وفاعليّةً. 

وفي مقاربة مع أعمال "علو" نرى أنّها لتفكيك الألم اليوميّ وهذه العدميّة البائسة التي أزاحت منظورنا النضاليّ نحو مصالح فرديّة ومشاريع مشبوهة، إلى عمل بنيويّ يعتمد مفهوم الهدم والبناء كوجهة نظر علينا تبنّيها في إعادة تركيب الوعيّ المعاصر وتقاطعاته مع تطورات المرحلة، ومفارقة الأجيال للتجربة التي فتحت أمامهم، فجيل الانتفاضة الأولى لا يشبه جيل الانتفاضة الثانية والذي يختلف عن جيل الاجتياحات وجيل أوسلو وجيل السكاكين، بمعنى أن العقيدة الفكريّة لكل جيل لا تمثل استمراراً بنيويّاً مركّباً، بل مفكّكاً، من الأصل، ويجب تشريح هذه المفردات لإعادة صياغتها بمشروع وطنيّ فكريّ ثقافيّ شامل يستطيع أن يجمع بين هذه التناقضات والاختلافات. 

هنالك نضال الشعب الكادح والحقيقيّ، وهنالك شريحة برجوازيّة تقتنص موت المقاتلين وتعمل على تأجيج الشعور لمرحلة قادمة يكون فيها الاقتتال واحداً من الخيارات المحتملة، فيكون دوري هو أن أضع كافة الأطراف في مواجهة المصير الحتميّ والحقيقيّ، وأن أعيد صياغة هذا السؤال لهم في كيفية إدارة المرحلة وأن لا يُنسى بأن العدوّ يقف على حدود غرف نومنا ولا زال سلاحه موجه لرؤوسنا، ولن يسلم منه أحد، لا مطبعين ولا منسقين ولا مناضلين.

العنف جزء مكوّن من مشروعك الذي عملت فيه على صناعة أكثر من عشرة آلاف قطعة "شوك شبك"، ما رمزيّة هذا؟ وهل ترتبط هواجسك الفنّية بحالتك النفسيّة؟

لا يمكن الحديث عن الفنّ من واقع الرفاهيّة، أو الذاتيّة المفرطة بمعزل عن محيطها الإنسانيّ الاجتماعيّ، بل يأتي نتيجة هذا الخطاب الشعبيّ ليتحوّل لمشروع فكريّ يعبّر باختصار عن واقع وعن رؤية وبصيرة لما ستؤول إليه أحوالنا.

ولصناعة ثقافة حقيقيّة وغير مجتزأة بمعزل عن الواقع يجب الانتباه لما يدور حولنا وأن لا نبقى نرجسيين وأن نغمض أعيننا عن النتائج وإعادة قراءة التاريخ، بل يجب علينا أن نضع الآخر صوب أعيننا، فمثلاً في سياق التجربة الفلسطينيّة الصهيونيّة ولتحقيق الانتصار على عدوّنا علينا الاعتراف بخبث ودهاء المحتلّ، وأن يكون ذلك من عقيدتنا في الخطاب الإعلاميّ والفنّي والثقافي لا بمعزل عنه، واعترافنا بقدراتنا ومعرفة قدراته، وهزيمتنا وانتصاره جزء من بناء استراتيجيّة حديثة في طرق مواجهته، وبذلك نقول لا يمكن هزيمة الاحتلال بالسلاح فقط، بل تجريده من سلاحه عبر انتصارنا عليه بالفنّ والأخلاق والعلم، وبذلك سيقف المحتلّ عاجزاً أمامنا لأن سلاحه لن ينفعه، من هنا كان استخدام هذه الأسلاك الشائكة التي تمت صناعتها خلال فترة  شهرين، عاملاً على تطويع هذا الألم وابتكاره بطريقتي لبناء عمل فنّي مركّب جميل وشفاف، ومن هذا الألم نفسه نصنع شهادتنا الأخلاقيّة والإنسانيّة ضد الجريمة الصهيونيّة بفلسطين ووطننا العربيّ.

القلق والرفض والخوف لن يُنجبوا فعلاً مضاداً، بل سنجد أنفسنا معزولين، وفي حالة تقوقع على الذات، وليس من حيلة نملكها إلّا الوقوف للنحيب والشكوى فقط، أما حينما نتعامل مع الحاجز مثلاً كوثب للقفز عنه، وجدار الفصل العنصري كشبكة للتنس، والرصاصة فرشاة لنلون بها، فهي صور شعريّة نستطيع تخيلها وتجاوزها للحياة والبناء والمستقبل، وبكل تأكيد حينما يجد المحتلّ نفسه في مواجهة الذكاء الثقافيّ وفي عقلنة الموت وتحويله لفكر إبداعيّ فإنه سيقف عاجزاً ومن الأمثلة التي يمكن إعادة قراءتها ما قام به الاحتلال من إغلاق الطرق والمدارس في الانتفاضة الأولى، فإن الفلسطينيّين أبدعوا في الاستمرار عبر التّدريس في بيوت ودواوين ومؤسّسات بديلة أو اكتشاف طرق بديلة بالرغم من الموت الذي واجهه البعض.

اشتغلت في معرضك هذا على الذاكرة الجمعيّة. لماذا؟ ومن ثمّ كيف تستطيع أن تشتغل على الذاكرة وفي الوقت نفسه على الواقع المعاش الآن وهنا؟ 

قلت أنّ بناء الشخصيّة ومكوّناتها لعبت دوراً في التحيز للمجموعة، والشعور مع العامّ أكثر من الخاصّ، وجاء ذلك نتيجة ثقافة تربويّة أُسرية ومن ثم اجتماعيّة نضاليّة في ثمانينات القرن الماضي، وفكرة الواحد من أجل المجموعة، وهذا بقي قيمة وقاعدة في طريقة المنطق الفكريّ الخاصّ بي، صعب حذفه لأنه أصبح سلوكاً شخصيّاً يمكن القياس عليه في كافة المجالات، ولأن الواحد في خدمة المجموعة فإنّ دوري كإنسان أوّلاً وكمنطق تفكير ثانياً، أن يأتي بهذه النتيجة. 

هل ترى أنّ الفنون البصريّة وخاصّة الفنّ التشكيليّ، هو استحضار للذاكرة بواسطة الصورة/ اللوحة؟

لا أريد أن أصنّف الفنّ ضمن مفاهيم محدّدة، هو مفتوح، ونابع أصلاً من الاشتغال الفرديّ عليه، ولكل فنّان مفرداته ولغته وأسلوبه، فنجده عند البعض استحضاراً للذاكرة بينما نجده عند آخرين معطلاً للذاكرة ويذهب به نحو التجديد والعصرنة والرؤية، ولكنه كتاريخ مكتسب يتشارك فيه الجميع فهو تلقائيّاً يشمل الذاكرة مع ما سيقدّمه من تجديد أو مع ما يقدّمه من تصور تاريخيّ.

ماذا عن تفاصيل اشتغالك في أعمال "علو" من حيث التقنيّات والأسلوب والوسائط التي استخدمتها؟

"علو" قُدّم بوسائط متعددة: التركيب، الأداء، الصورة، اللوحة، التصميم، الجرافيتي، معتمداً في بنائه على السلك الشائك، وتفكيك هذا السلك من شكله المتعارف عليه لوحدات صغيرة أُعيد بناؤها في شكل جديد ومتجدد ومختلف ومتفرد ربّما، في صياغة أسلوب متنوع وغير مألوف أحياناً لا سيما بين الجرافيتي والتركيب بوجه الخصوص، وأن يتحوّل هذا الشكل الصادم والمؤثر من الناحية التنفيذيّة التقنيّة إلى عمل رقيق وشفاف وعميق من الناحية التعبيرية، مع المحافظة على القيمة الجماليّة للعمل، حيث أرفض شخصيّاً عصرنة الفنّ على حساب القيمة الجماليّة، وأرفض العمل البصريّ الذي يجب أن تصل فكرته عبر التعبير الشفويّ الكتابيّ، الذي يضع العمل الفنّيّ تحت سياق العمل الكتابي، الذي لا يُفهم إلّا من خلال المفاتيح اللغويّة التي تُضعف القيمة من وجهة نظري، فالعمل يجب أن يبقى بصريّاً لا سرديّاً ولا أدبيّاً، وإلا جاء بقصيدة أو رواية أو شعر حرّ وانتهت المسألة.

يأتي "علو" بعد مشروعك "ما كان يعرف" المعرض الذي تناول أيقونة الملثم الفلسطيني ومآلات الصمود والمقاومة، وبعد "زمن مكسور" الذي نبش في ظروف عيش الأسرى وأوضاعهم في سجون الاحتلال الإسرائيليّ. من أين تأتي أفكار ومواضيع معارضك؟ أهو الالهام أم هناك تخطيط مسبق في محاولة للإجابة عن أسئلة تحملها ذاكرتك البصريّة؟ وما هو الخيط الرابط بين هذه المعارض؟

منذ العام ٢٠١٠ تمّ وضع مخطط واستراتيجيّة لاشتغالي الفنّيّ، وأين يجب أن أكون بعد سنتين أو ثلاث، وقد أعطيت نفسي ٥ سنوات منذ العام ٢٠١٢ للاشتغال على القضايا السياسيّة المباشرة، في حين كنت قد رسمت منهجاً لتطور مشروعي بحيث يُفتح على التجربة الإنسانيّة انطلاقاً من بعدها الفلسطينيّ ومقاربتها مع الحياة والإنسان والمكان في الخارج، وربّما يكون الخيط الذي يجمع كل هذه التنوعات هو الموضوع نفسه، فبالرغم من المفاجآت التي تُقدّم كل معرض من تجديد واختلاف عن سابقتها إلّا أنها تبقى محطّات مكمّلة لبعضها البعض، وفي مشروع "علو" كان حضور الشهيد واحداً من هذه الترميزات التي لم أُشر لها لتكون بداية التحرّر من الدلالات المباشرة، وأن يصبح العمل يدافع عن نفسه، وكذلك يقدم تساؤلاته أمام الجمهور دون وضع تعاريف أو أفكار محدّدة للعمل.

ما هي خصوصيّات وتطلعات مشروعك الفنّيّ، وغاياته وطموحاته؟

في ما نواجهه الآن من تداعيات خطيرة ضد مشروع المقاومة، وفي ظلّ التجاذبات الحزبيّة والطائفيّة، وتخلّي الجميع عن مشروع المقاومة كمفهوم، وكذلك التداخلات المتطرّفة التي عملت على محاصرة المقاومة عربيّاً ودوليّاً وكذلك فلسطينيّاً في بعض الأحيان، وبما أن لديّ موهبة ربما أستطيع الاستمرار فيها للتعبير عن قضايانا الوطنيّة والإنسانيّة أجد نفسي ملزماً ومنتمياً لهذه الحركة ولكن عن طريق الفنّ، الذي يجب أن يوازي الواقع الماديّ في واقع فكريّ يستطيع أن يقدّم دلائل وتصورات جماليّة -إن صح التعبير- عن واقع لا يمكن إلغاؤه أو تجاهله على حساب مقومات وأفكار أخرى، وإنّ ما يصمد في النهاية ويدافع عن أفكارنا ووجودنا هو الثقافة والفنون، وسأبقى مخلصاً لهذه العقيدة التي أعتبرها واحدة من قواعد الفكر الفنيّ دون الوقوع في فخ الموضوع على حساب القيمة، فمسؤوليّتي أيضاً أن أبقى مجدّداً وخاصّاً، وكذلك أن لا يكون هذا المشروع استخداماً أو استغلالاً لوجعنا وهمومنا، بل حقيقي ونابع من منهج حياة وطريقة تفكير.

لا ينتج الفنّان "خيالاً محضاً"، وإنّما يستند فيما ينجزه إلى واقعه، كيف تتفاعل مع الواقع والحالة السياسيّة العربيّة تمرّ في حالة ترد وتشظ ؟ وكيف تصهر الخاصّ في العامّ وتجانسه؟

ربّما يكون الدافع الحقيقيّ لتبنّي موقف الفنان إن كان من خلال وجهة النظر أو الإنتاج الإبداعي هو أصلاً ما يمر به الواقع من هذا التشظي؛ ولا يمكننا أن نتوقف كمتفرجين بل علينا ردم هذه الهوة والمساهمة عبر فتح أفق الحوار والاستمتاع عبر الفن لما يقدمه من تصورات تناقش وتتساءل عن واقع الحال في قالب جمالي غالبا ما يحتاجه الإنسان في مثل هذه الظروف؛ فغالباً ما يكون المتضامن من الجرح نفسه أكثر كشفاً للحقيقة وأكثر قدرة للتعبير عنها.

إلى أيّ مدى ترى أنّ دور الفنّ يساهم ويعزّز في تبنّي مفاهيم التغيير والبناء، ويعمل على تحويل كافّة الأدوات لسلاح مقاوم ونحن مازلنا في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال؟

ربّما أشرت سابقاً كيف علينا أن ننتصر على الجلاد عبر تجريده من سلاحه بما سنتبنّاه من طريقة إبداعيّة لإدارة هذه المعركة ولا أقصد بذلك أن نبتعد عن المقاومة ولكن يجب أن نرفع سقفها ونبحث عن حلول أخرى؛ ونحن الآن في مواجهة الصراع ليس فقط ميدانيّاً بل عالميّاً عبر حشد وتجييش الرأي العامّ الأوروبيّ والأمريكيّ والعربيّ والفلسطينيّ على وجه الخصوص، في ظلّ التساقط الرسميّ العربيّ، وعليه فدور المبدعين والمثقّفين والفنّانين هو إعادة صياغة الفكر النضاليّ عبر الثقافة وكذلك الدعوة لرص الصف الداخليّ من خلال الندوات والمهرجانات وغيرها وإعادة توجيه البوصلة كما كانت سابقاً وكما لعب الفنّ دوراً بارزاً بالأغنيات الوطنيّة والملصقات والجرافيتي على الجدران العامة وإنتاج الأدب والفكر المتنوع، والانفتاح الاجتماعي كحاضنة للمقاومة ويمكن إعادة تجربة الانتفاضة الأولى التي كان لها أكبر الأثر في فرض واقع وخلق تحوّلات جماهيرية ضد الاحتلال.

نحن مهزوزون من الداخل، مفكّكون، ضعفاء؛ فالقول اليوميّ على أتفه الأمور لا زال قائماً والاعتداء على الممتلكات العامّة وحقوق الضعفاء يزداد يوماً بعد يوم !.. فكيف ننادي للمقاومة والجسد من الداخل متداعٍ وفارغ؟ ولكن عبر الفنون والثقافة بشكل أوسع سيكون هناك مساهمة فعليّة وحقيقيّة في التعريف والدعم للقضيّة الفلسطينيّة كما يحدث مع أفلام إيليا سليمان ورائد أنضوني وغيرهما من المخرجين الذين عرّفوا بقضيتنا وساهموا في زيادة عدد المتضامنين أكثر من كل السياسيّين. تضامن العالم إنسانيّاً مع قضيّتنا ليس نتيجة الخيار السياسيّ السلطويّ، وإنّما نتيجة الخيار الشعبيّ الفنّيّ الثقافيّ، وهذا بدوره سيساعد على بناء الجسد الداخليّ الذي سيعمل على حماية الثورة والنضال كما كان سائداً ما بين ستّينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولكن بعد اتّفاقيّة "أوسلو" الفاشلة عُمل على النتائج العكسيّة بالمطلق في إثارة الفوضى والفتن والظلم وانهيار المنظومة الأخلاقيّة والنضاليّة لكل هذا التاريخ الطويل، بل وخلق أذناب لا وجهة نظر لها وليس لديها أي مشروع ثقافيّ أو سياسي حقيقي، ولا موقف لهم بل أصبحوا تابعين كالأغنام.