هاتِ أسلوبَك، لا حكايتك

2017-06-16 03:00:00

هاتِ أسلوبَك، لا حكايتك
عارية بعمامة خضراء . للنمساوي إيغون شيله . ١٩١٤

أتساءل أحياناً إن كانت هنالك حكايات لم تُحكَ بعد كل ما أُنتج حتى الآن من روايات وأفلام ومسرحيات. هذا تساؤل عام جداً ولا إجابة عنه ولا أسعى، بطرحه هنا، لإيجاد إجابة بل أتوسّله للمرور إلى افتراض محدّد جداً وهو أنّ أساس العمل الفنّي/الأدبي هو الأسلوب وليس المضمون. قلت المضمون ولم أقل الحكاية كي أتمكّن من سحب هذا الافتراض على الأعمال الفنيّة البصرية.

قبل الخوض في الحكايات، أدباً وسينما، لندخل قليلاً إلى الفنون البصرية، كاللوحات أو الصور الفوتوغرافية، فمقابل الحكاية في الرواية لدينا هنا الموضوع، أي ما تمّ رسمه/تصويره. فكم لوحة كان موضوعها امرأة عارية (اخترت هذا المثال لأنه الأكثر بقاءً في أذهاننا كما أعتقد!) بوضعيات وسياقات مختلفة وأحياناً كثيرة متناسخة؟ وكذلك الأمر في التماثيل، إذ يمكن التمييز بين أساليب لموضوع واحد هو ڤينوس/أفروديت، من الإغريقية إلى الرومانية إلى الفنون المعاصرة. الموضوع ذاته متكرّر إنّما ما يميّز إعادة الإنتاج لأي واحدة منها كلّها عن الباقي هو الأسلوب إن وُجد، وفقدانُه يجعل أعمالاً أخرى بالمضامين ذاتها تكرّر الطريقة (الشكل) دون أن تكسب (أو تستحدث) الأسلوب.

وقد تمّ "إعادة الإنتاج" للوحات زيتية عديدة بأشكال متعدّدة، كإعلانات تجارية تحديداً، مستفيدة، الإعلانات، من المضامين المعنوية للوحات كلاسيكية، وقد كتب عن ذلك مفصّلاً الناقد الإنكليزي جون بيرجر في كتابه «Ways of Seeing». أما هنا، فأشير إلى "إعادة الإنتاج" التي طرحها برجر وقبله ڤالتر بينجامين كواحد من الطرق/الأساليب المتعددة لطرح الموضوع الواحد، ما يجعل الإعلان التجاري المقابل لبوابة متحف ما مشابهاً من حيث "الحكاية" للوحة داخل المتحف ومختلفاً عنها بالطريقة، وقد يكون لكلّ منهما أسلوبه، ولكلّ، في أسلوبه، تقنياته الفنية المعنيّة، كذلك، بالغاية من العمل.

في الرواية والسينما والمسرحية، حيث هنالك حكاية، يتّخذ الأسلوب شكل اللغة: الكلمات في الأدب والصور في السينما.

قبل فترة شاهدت فيلم «محكوم بالإعدام ينجح بالهرب» (١٩٥٦) للفرنسي روبير بريسون، وقد أتتني فكرة هذه المقالة من الفيلم الذي يصوّر محاولة فرد من المقاومة الفرنسية للهرب من سجن نازي. الفيلم كلّه عبارة عن التدبير للهرب وصناعة حبل لذلك. من العنوان نعرف نهايته، منذ اعتقال الشخصية الرئيسية، فونتاين، سنعرف أنه أخيراً سيهرب.

تحدّى بريسون رغبة الجمهور التقليدية في المفاجأة وفي انتظار نتيجة ما يشاهده، تحداه بإخباره من العنوان بأن النتيجة هي الهرب. فطرح بذلك سؤال "كيف سيحصل ذلك؟" وليس "ما الذي سيحصل؟"، وهو بذلك يحكي عن الأسلوب (متخطّياً محدودية "الطريقة")، أي كيف تروي حكايتك؟ وليس ما هي الحكاية؟ لا تهم الحكاية هنا طالما أنّ الفيلم كلّه عبارة عن محاولة الهروب وأنّنا نعرف أنها في النهاية ستنجح، فكان الأساس في الفيلم هو أسلوب بريسون في تصوير ذلك: زوايا التصوير، الكاميرا الواطئة، المونتاج، الصمت الطويل في المشاهد، اللقطات المقرّبة على الوجه… وهذه كلّها من مميزات أسلوب بريسون السينمائي.

ثم، كم فيلماً صوّر حكاية الهروب من السجن، أي "أعاد إنتاج الحكاية"؟ ما الذي ميّز فيلم بريسون إذن، وهو، أساساً، جرّد المُشاهد من عنصر الإثارة قبل البدء بالمشاهدة؟ كأنه يقول: تعال وشاهد "كيف" أحكي ما يحكيه الكثيرون. فلم يكن فيلمه "فيلماً آخر" عن الهروب من السجن، بل كان فيلماً تميّز بأسلوبه، وحكى عن الهروب من السجن.

والمسرح مثال آخر هنا، فما الذي يميّز واحداً من بين عشرات العروض المسرحية لنص مسرحي واحد؟ لمَ قد يُعجب أحدنا بعرض ما ويملّ من آخر، وكلاهما لنصّ مسرحي واحد؟

لن يكون التمايز بالأسلوب في الأدب بذلك الوضوح كون اللغة هنا تعتمد على الكلمات وليس الصور، لكل كاتب طريقته (ولا أقول أسلوبه) إنّما يصعب التعرّف على نصّ ما لكاتب ما كما يمكن التعرّف على لوحة ما نراها للمرة الأولى ونقول أنّها، مثلاً، لأميدو موديلياني أو إيغون شيله (ولكلّ أسلوبه)، وأن ذلك واضح!

لكن، في الأدب، سآخذ اقتباساً من روائي يُصنّف كأحد أهم الروائيين الفرنسيين في القرن العشرين وهو لوي فيردينان سيلين، ففي مقابلة أجريت معه عام ١٩٦١، قبل موته بأشهر، وخرجت قبل عامين كاملة في DVD، يقول: من بين الكتّاب، يهمّني صاحب الأسلوب، من لا أسلوب لديه لن أكترث به، الشارع في الخارج مليء بالحكايات، هنالك حكايات في كل مكان.

لا يكون الأسلوب إذن بعدد الكتّاب/الفنانين، أي أننا إن تواجد أمامنا عشرة أفلام عن حكاية واحدة، لنقل الهروب من سجن، أو عشر لوحات لامرأة عارية في الوضعية ذاتها (التي ستبقى في أذهاننا)، لن تعني الأعمال العشرة أننا أمام عشرة أساليب، قد يخرج من بينهما أسلوب متميز وقد تخلو العشرة من أسلوب واحد، وتبقى نسخاً متكرّرة عن ذاتها أو "إعادة إنتاج" رتيبة للشيء ذاته. وهو ما أنهى به سيلين حديثه عن التشابه والتكرار وفقدان الأسلوب قائلاً بأن الكاتب فاقد الأسلوب ينقل حكايته عن آخر، وهذا ينقلها عن ذاك… هنالك الآلاف من الحكايات لكن الأساليب نادرة.

كان لا بد أن أنهي المقالة هنا، عند "نادرة" (وقد كثرت فيها الأسماء وهذا ما لا أحبّه)، لو لم تمر معي الفقرة التالية قبل نشر المقالة فأضيفها كخاتمة، وهي من كتاب «The Art of Fiction» للناقد الإنكليزي دايڤيد لودج، يقول فيه عن إحدى روايات الأميركي سالينجر: إنه الأسلوب الذي يجعل الكتاب مثيراً للاهتمام. أما الحكاية فيه فمُجزّأة، لا حسم فيها ومبنية بشكل كبير على أحداث عادية.