عن تطور الخطاب الفلسطيني في السينما.. «ملح هذا البحر» نموذجاً

2017-05-19 08:00:00

عن تطور الخطاب الفلسطيني في السينما.. «ملح هذا البحر» نموذجاً
من الفيلم

للنكبة الفلسطينية سينما أيضاً، وليس مستغرباً أن يكون أول فيلم يتناولها آتياً من مصر، هو فيلم "أرض السلام" للمخرج الراحل كمال الشيخ، الذي عالجها من خلال قصة حب بين فدائي مصري وفتاة فلسطينية، وكان هذا عام 1957، وفي عام 1972 فيلم "المخدوعون" للمخرج المصري توفيق صالح، الذي اقتبس حكاية الفيلم من رواية "رجال في الشمس" للراحل الفلسطيني غسان كنفاني، ومن هنا بدأت روايات كنفاني تجد طريقها إلى السينما وتلهم صناعها بالاقتباس منها أو إعادة معالجتها سينمائياً، وظل موضوع النكبة حاضراً في السينما العربية وتحديداً المصرية، حيث قدّم المخرج يسري نصر الله فيلمه "باب الشمس" المقتبس عن رواية تحمل نفس العنوان للكاتب اللبناني الياس خوري ، التي تحدّث فيها عن الفترة منذ ما قبل النكبة إلى أوائل التسعينيات، ويعتبر هذا الفيلم تحديداً من أهم الأعمال السينمائية التي جسدت مأساة اللاجئين حين تم إجبارهم على ترك بيوتهم وأراضيهم بقوة السلاح.

أما فلسطينياً، فهنالك الكثير من الأفلام الروائية والوثائقية التي تناوات موضوع النكبة، وأهم ما في هذا التناول هو تطور الخطاب فيه، حيث وعى السينمائي الفلسطيني قبل 10 سنوات تقريباً أن خطابه يجب أن يكون عالمياً وليس موجهاً للعرب فقط، وإن جاء هذا الإدراك متأخراً إلا أنه وبدون شك خلق الفرق، وهذا ما يلاحظه من يتابع تلك الأفلام التي باتت حاضرة بقوة في كبرى المهرجانات الدولية وبات على مقربة من نقاش لا بد منه عن تلك الأفلام والقصص التي تحملها.

يحضرني من بين تلك الأفلام فيلم المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر "ملح هذا البحر" ، ولكن لا بد قبل الحديث عن هذا الفيلم المرور بفيلم "الزمن المتبقي" للمخرج إيليا سليمان  الذي روى فيه السيرة الذاتية له وقسّمه إلى أربع مراحل في حياة عائلة فلسطينية منذ النكبة 1948، واستطاع سليمان أن يمزج بذكاء بين ذكرياته الخاصة وذكريات والديه واصفاً الحياة اليومية لهؤلاء الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم بعد قيام ما يسمى بدولة إسرائيل، وكيف تحولوا إلى "عرب إسرائيل" أو "فلسطينيي الـ 48"، في المقابل يوجد فيلم وثائقي جميل آخر هو "السلحفاة التي فقدت درعها" للمخرجة باري القليقلي التي تحكى عن أبيها وكيف أنه بات كمشرد أبدي، قضى حياته بين مصر والأردن وفلسطين التي هجّره منها الإسرائيليون، وتؤكد المخرجة التي تقيم في برلين بألمانيا أن أبيها أصبح قابعاً فى المنزل كالسلحفاة وتحاول هي أن تحثه على رواية معاناته الطويلة، تعيش تفاصيل كثيرة في هذا الفيلم وتشعر للحظات أن الحكايات لكل اللاجئين هي واحدة.

وعودة للحديث عن فيلم "ملح هذا البحر" الذي تناول قصة ثريا الأمريكية من أصل فلسطيني، التي تقرر أن تزور يافا، لهدف يتضح في نهاية الفيلم.

أهمية هذا الفيلم تكمن في الناحية السردية للحكاية والتي تفوقت نوعاً ما على العناصر الفنية الأخرى في صناعته فكشف فعلاً العنصرية الصهيونية بطريقة سلسلة لا تحتاج إلى الكثير من العناء، ووضع يده على مشاعر اللاجئ الفلسطيني أينما حل وارتحل، وثمة مشاهد توصل ذلك مباشرة كالمشهد الذي يجمع البطلة (ثريا) مع ضباط التفتيش في المطار، فهي تحمل الجواز الأمريكي لكن ملامحها العربية صارخة واسمها أيضاً، مما يعيدها إلى دائرة الغير مرحب بهم من قِبل مَن يدعي أنه صاحب الأرض "من أين جئت؟ من بروكلين. ولماذا؟. لأزور أصدقاء. أين ولد والدك؟ في لبنان. وجدك؟ هنا. في إسرائيل؟ لا في يافا" هذا الحوار كان كفيلًا بأن يتم تعرية ثريا من ملابسها بهدف تفتيشها، وإعطائها فقط مدة أسبوعين للزيارة.

الفرق بين الدولة والوطن يتمثل في أحداث هذا الفيلم، أي الفرق بين اللاجئ وبين من بقي في الأرض، فاللاجئ يبحث طوال وقته عن وطن، أما من بقي في الأرض فهو يحلم بدولة، وشتان بين المعنيين، ولكل صفة ظروفها، هذا ما وضع الفيلم يديه عليه، خاصة مع تفاعل ثريا مع كل تفصيل في بلدها بعد أن قصدت رام الله، هي الفرحة والسعيدة والمصرة على البقاء والعودة، في ظل تجهمات من الناس يؤكدون عليها أن العيش في الخارج أفضل، لتصرخ وتؤكد لهم "مين حكالكم أنه إحنا عايشين أفضل إنتو جربتوا العيشة برا؟"

أنت هنا أمام فتاة تحمل الجنسية الأمريكية وتقول هذه الجملة، نعم هي الحقيقة التي لا يدركها كثيرون، أن كل مشكلة اللاجئ في أي بقعة في العالم هي أنه لم يشعر يوماً أنه (موااااطن) لذلك يظل متمسكاً بقرار العودة ليعيش ذلك التفصيل وليكون صاحب قرار ولو لمرة واحدة في حياته، لا يوجد أصعب من أن تكون مجبراً بتنفيذ ما يطلب منك لشعورك طوال الوقت بأنك مهدد ببساطة لعدم وجود وطن تعود إليه مثل باقي الشعوب.

وعودة مرة أخرى إلى ثريا التي تقرر أن تسترد مال جدها من البنك البريطاني الذي كان موجوداً قبل النكبة في عهد الانتداب، كي تثبت لنفسها وللجميع أن هذه حقيقة راسخة أخرى وأن هنالك أصحاب حق، هذا المشهد تحديداً موجه للمُشاهد الغربي، برسالة أتت واضحة وصريحة ضمن كادر وصورة وممثل ومواجهة "البنك ما زال موجوداً، وأنا أريد مال جدي" هنا المال هو مثل الأرض التي سلبت، لذلك شعرت ثريا أنها تحارب من أجل أرضها.

من الطبيعي المرور على نموذج للشاب الفلسطيني الذي انسدت الحياة أمامه بعد معاهدة أوسلو، اسمه عماد ويعمل نادلاً في مطعم، قليل الحديث لكن عندما ينطق يؤكد على مرارة تعيش وجدانه، هو الذي يظل يقول لثريا "خلي راسك مرفوع دايماً" هو نفسه الذي يحلم بمغادرة فلسطين لهدف إكمال دراسته العليا في كندا، تستمد ثريا منه رائحة الوطن ويستمد منها الحلم الفلسطيني الذي ما زال موجوداً في قلب اللاجئين، يترقبها ويترقب عنفوانها، يأخذها إلى أبعد نقطة في الضفة الغربية التي تطل على يافا، المدينة التي لم تزرها بعد ثريا فتبدأ بالحديث عن شجر البرتقال، وبلاط البيت، وقهوة الصباح، وبرد الليل في عز الصيف وعن البحر، فينظر اليها متعجباً "إنت متأكدة إنك ما زرتيش يافا؟" سؤال يحمل في طياته تعجباً بقدرة اللاجئ ببناء خيال وطن في عقله. عماد من منطقة تسمى الدوايمة الواقعة في أرض الـ 48، وغير الموجودة أساساً حالياً بعد المجزرة التي ارتكبت بحق ناسها وبيوتها وشجرها، يتفقان أخيراً على السطو على البنك وفرعه الرئيسي في يافا، مدينة أجدادها، كي يستردا مال جدها، تتنقب وترتدي الخمار الذي لا يبرز منه سوى عينيها، أما عماد فيرتدي الكوفية الفلسطينية التقليدية مغطياً وجهه ويحمل "بارودة ويبتزان موظف البنك ويهددانه، وتطالب هي بنفس المبلغ الذي يفترض أن جدها قد أودعه في ذلك البنك مع فوائده، ليصل المبلغ إلى 15 الف دولار وسنتات، وتركز على السنتات، وهنا التعبير المجازي لعدم رغبتها في التنازل عن سنت واحد من حقها، وتنجح المهمة.

باتت ثريا في يافا ولا بد لها أن تزور بيتها، وهذا المشهد تحديداً يتكرر كثيراً في السينما الفلسطينية، تقول لصديقيها عماد ومروان "راح ناخد حيفا ويافا معنا، حيفا ويافا قبل القدس" يذهبون ليجدوا امرأة غريبة تعيش، وتكون على علم بأن هذا اليوم سيأتي، فتطلب منهم الدخول، والمكوث في البيت أيضاً، تبدأ ثريا بالغضب في داخلها وهي ترى بيت جدها الجميل، ووصفه الدقيق لها، تحاول أن تقول للمستوطنة فيها أن تعيده لها فترفض، فهو في الماضي لثريا لكنه في الحاضر لها حسب تعبيرها. تهرب ثريا إلى البحر، وتتقيأ ما في جوفها وكأنها تلعن كل شيء حرمها من حياة كاملة كان يجب أن تعيشها، يأتيها عماد مؤكداً أن رحلتهما ستكون بدون مروان الذي قرر البقاء وعدم العودة إلى رام الله، ويطلب منها الذهاب إلى قرية الدوايمة، التي لا يعرفها أحد كلما سألوا عنها إلى أن تجره الصدفة إلى محطة بنزين يعمل بها رجل من تلك القرية، يدله عليها ويقول "لم يعد اسمها الدوايمة". يصلان ويجدانها قرية مهجورة تماماً وببيوت مهدمة، تشعل نار الغضب في قلبيهما، فيقرران إحياء بيت فيها والمكوث فيه، من فرش وشموع ومياه وحتى ستارة، لكن هذه الغبطة لا تدم، فمجرد ذهاب ثريا إلى دكان قريب يكون كافياً لأن تأتي دورية الشرطة مطالبة بأوراق عماد التي لا يملكها ويكتشفون أيضا أن مدة زيارة ثريا قد انتهت، يفرقانهما عن بعضهما دون إعطائهما فرصة للوداع أو الوعد بلقاء قريب، لكن الأهم من هذا أن مهمة ثريا في استرداد مالها قد نجحت، فهي استردت جزءاً من حق جدها.