الماء و"جيل الذبيحة" 

2017-05-16 04:00:00

الماء و
"حديقة معلقة" . للفلسطينية منى حاطوم . ٢٠٠٩

قبل أسبوعين وجدت نفسي بلا ماء.

الخزان فارغ ولم أعرف السبب. سألت ابن أخي فأخبرني أنه كسر حنفية الماء الخارجية فسالت المياه وروت الحديقة.

ماذا سأفعل؟ 

اشتريت المياه الصحية كي أصرف شؤوني يوم الجمعة. كان يجب أن أستحم وأحلق ذقني وأخرج عصراً، ولكنني لم أفعل شيئاً من هذا. 

الماء. الماء. وجعلنا من الماء كل شيء حي. سيذكرني هذا بماض عشته في مخيم عسكر القديم قرب نابلس. 

أنا من مواليد مخيم عسكر الذي ستضاف إليه صفة القديم في 1966 إن لم أنس. كان الاسم بلا صفة الصقت به لاحقاً ولما بني في 1965 مخيم جديد بالقرب منه، على بعد مسافة كيلومتر واحد، فقد ألصقت بالمخيم صفة القديم وألصقت بالمخيم المقام حديثاً صفة الجديد بعد أن أُطلق عليه اسم مخيم عسكر. حتى اليوم لم يخطر ببالي السؤال التالي: لماذا لم يختاروا اسماً آخر للمخيم الجديد؟ 

في منطقة مدينة نابلس أربعة مخيمات هي: بلاطة وعسكر وعين بيت الماء ومخيم الفارعة القريب من طوباس وطمون. وغدا المخيم الجديد تابعاً لمخيم عسكر. غدا مخيماً خامساً، فهو مستقل في الماء ولكن أبناءه كانوا يدرسون في مدارس المخيم القديم. ثمة ما هو مشترك بين المخيمين: المدارس وإدارة المخيم أيضاً والعيادة الطبية والخدمات. ربما لهذا نعتوه باسم عسكر الجديد، ربما. 

غير حنفيات المياه المستقلة للمخيم الجديد كان له أيضاً جامع مستقل. هل استقل بشيء آخر؟ 

كل ما سبق كان استطراداً. 

ماذا سأفعل وأنا بلا ماء؟ 

سأتصل بابن أخي ليشتري لي مياهاً صحية. 

في مخيم عسكر القديم كانت هناك خزانات مياه وكانت هناك حنفيات عديدة في ثلاثة مواطن تقريباً. في كل حارة عين فيها عدة حنفيات. وكانت هذه المواقع يختلف أحياناً مكانها حسب التغيرات التي تطرأ على المخيم. بناء دوار. هدم الدوار. هدم الحمام الرئيس. تحويله إلى مسلخ للذبح. إلى آخره… 

الحمام العام انتهى وتحول إلى مسلخ. ولا أظن أنه بقي الآن في المخيم مراحيض عامة. ربما لهذا يستغرب المرء ما كتبته سامية عيسى في روايتيها "حليب التين" و"خلسة في كوبنهاجن" عن الحمامات العامة في حياة الفلسطيني.

ماذا سأفعل دون مياه؟ في المخيم كنت المسؤول عن تزويد البيت بالمياه. حمالة وتنكتا سمنة كبيرتان أو جالونات و..و..

بسبب المياه دخلت مركز الشرطة. بصقت في إبريق موظفة العيادة التي اعتادت على دوري فاستدعت الشرطة واقتادني الشرطي إلى المخفر وضربني بالسوط وأجبرني على تنظيف المرحاض. هذه القصة كتبتها قصة في 1986 ونشرتها. كتبتها غير مرة. 

كنت أصف على الدور أنتظر ساعة أو أكثر وكان أكثر ما يخيفني أن يغلق أبو عوض المياه في اللحظة التي يأتي دوري فيها. 

كنا في المخيم نعيش حقا زمن الاشتباك الذي كتب عنه غسان كنفاني في قصته "زمن الاشتباك " أو "الصغير يذهب إلى المخيم ". لم نكن نذهب إلى المخيم فقد ولدنا فيه وفيه عشنا طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وما زلت أتردد عليه. 

وفي أيام العطلة المدرسية كنت أبيع المياه لأم حسين البيطار ولأم حسن ولأم حلمي ولعائلات ليس لها أبناء كبار وكنت أرى كيف كان هؤلاء يحتفظون بالماء. النظافة والنظافة وكانت أم حسن مسرسبة. أحياناً كانت المياه تنقطع لأيام بسبب فراغ خزانات المخيم وتأخر تنك الوكالة. ماذا كنا نفعل؟ 

كان لأبي حافلة وغالباً ما كنا نذهب إلى مناطق مجاورة فيها نبع ماء: الباذان والفارعة ورفيديا. وبالقرب من المخيم كان هناك نبع لقرية عسكر البلد. كنا نمشي مسافة كيلو ونصف ونحمل التنكتين بالحمالة ولكننا لم نكن ننجح في هذا دائماً. كان أبو محمد العفن يترزق من بيع الماء. حماران وأربعة جالونات على كل حمار. وكان يبيع المياه ولهذا غالباً ما كان يمنعنا من الاقتراب من النبع. 

قرب مخيم عسكر القديم مقبرة دفن فيها شهداء الجيش العراقي في حرب 1948. وهناك أقيم معسكر للجيش الأردني. أحياناً كان بعض الجنود يسمحون لنا بتعبئة ما معنا من أوعية. كان الحصول على المياه اشتباكاً، بكل ما تعنيه الكلمة. نتقاتل مع بعضنا. نتزاحم. وأحياناً تتدخل الشرطة وإذا ما غضب أبو عوض منا أغلق الخزانات وإذا ما انزعجت الشرطة حيث كانت عين ماء رئيسة بالقرب منها فإن سيارات الشرطة تصادر الأوعية كلها وتلقي بها في الوادي. 

كان الحصول على المياه يعد إنجازاً. كنا نفكر في الحصول على المياه أكثر مما كنا نفكر في تحرير فلسطين أو هذا ما خطط لنا. في المخيم كانت المشاكل اليومية شاغلنا الشاغل. المياه. توزيع البقج. توزيع المؤن. 

قبل أسبوعين وجدت نفسي بلا ماء فتذكرت حياتي في المخيم. كانت كما كتب عنها غسان كنفاني: زمن الاشتباك. 

النكبة تحل ذكراها. 

أشهد أنني لم أعش. 

نحن كما كتب الشاعر أحمد دحبور "جيل الذبيحة ".