النكبة الفلسطينية في الحيز العام الإسرائيلي: جذور الإنكار وذرائع المسؤولية (المدخل)

2017-03-09 07:00:00

النكبة الفلسطينية في الحيز العام الإسرائيلي: جذور الإنكار وذرائع المسؤولية (المدخل)

صدر حديثاً عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" كتاب "النكبة الفلسطينية في الحيز العام الإسرائيلي: جذور الإنكار وذرائع المسؤولية"، تأليف: أمل جمال وسماح بصول، وهو التاسع ضمن سلسلة "القضية الفلسطينية: آفاق المستقبل".

يركز هذا الكتاب على مناهج هيكلة العقائد والمدارك الخاصة بالنكبة الفلسطينية في الوعي الجماعي الإسرائيلي كما تتكشف في الخطاب الإعلامي في إسرائيل. ويهدف إلى الوقوف على مدى الاعتراف الإسرائيلي بالنكبة الفلسطينية أو التنكر لها، ومدى قبول المسؤولية عن وقوعها. وتحمل أنماط الاعتراف بالنكبة، والتنكر لمجرد حدوثها أو المسؤولية عنها، ما قد يمكّننا من الإطلال على الشكل الذي يُنظر فيه إليها داخل الحيز العام الإسرائيلي، وعلى مدى كون النكبة وذاكرتها عنصرين مهمين في بلورة الأنماط السلوكية لدى الجمهور الإسرائيلي في السنين الأخيرة.

ويبين الكتاب أن المعتقد الأبرز في الخطاب العام الإسرائيلي تجاه النكبة يكمن في الربط بين ثلاثة ادعاءات تراكمية هي: إنكار مجرد وقوعها؛ النظر إليها كبدعة مهددة هدفها نزع الشرعية عن إسرائيل؛ التنكر للمسؤولية عنها. ويطابق هذا المعتقد الموقف الرسمي الإسرائيلي الذي لا يبدي استعداداً للتوصل إلى تسوية مع ذاكرة النكبة الفلسطينية، لا بل يرفض تأريخها.

 

ننشر هنا مدخل الكتاب كاملاً بالاتفاق مع المؤسسة:

"تحليل التفكير هو استعاري دائماً بما يخص الخطاب الذي يستخدمه"

(فوكو 2005، ص 29)

يركز هذا البحث على مناهج هيكلة العقائد والمدارك الخاصة بالنكبة الفلسطينية في الوعي الجماعي الإسرائيلي كما تتكشف في الخطاب الإعلامي في إسرائيل. ويهدف إلى الوقوف على مدى الاعتراف الإسرائيلي بالنكبة الفلسطينية أو التنكر لها، ومدى قبول المسؤولية عن وقوعها. وتحمل أنماط الاعتراف بالنكبة، والتنكر لمجرد حدوثها أو المسؤولية عنها، ما قد يمكّننا من الإطلال على الشكل الذي يُنظر فيه إليها داخل الحيز العام الإسرائيلي، وعلى مدى كون النكبة وذاكرتها عنصرين مهمين في بلورة الأنماط السلوكية لدى الجمهور الإسرائيلي في السنوات الأخيرة. وتنسحب هذه السلوكيات وصولاً إلى تشريع قانون يقيّد إحياء ذكرى النكبة في الفعاليات والبرامج الجماهيرية العامة، الأمر الذي يشكل انتهاكاً أساسياً لمبادئ حرية الفكر والتعبير.

تفيد الفرضية الأساسية التي يقوم عليها البحث بأن الخطاب الإعلامي، وخصوصاً مقالات الرأي في الصحف المركزية، لا ينحصر دوره في التعبير عن مواقف رائجة ومتنوعة في الوعي الجماعي الإسرائيلي تجاه النكبة فحسب، بل يتعدى ذلك نحو بلورة هذه المواقف وتحديد حدود الخطاب المُستحسَن تجاهها. ويسعى تحليل الخطاب الإعلامي بشأن النكبة الفلسطينية للكشف عن هذه المواقف، والسماح بفهم معمق للفوارق الدقيقة الكامنة في المواقف المتعددة التي تتجلى فيه، والوقوف عند مميزات هذا الخطاب الذي يُعرّف حدود مشروعية الانشغال بالنكبة. وترتبط مسألة مشروعية الانشغال بالنكبة كحدث تاريخي وكذاكرة جماعية، بصورة جدلية، بكيفية التعامل مع شكل التبريرات الذاتية أو انعدامه في الحيز العام الإسرائيلي (Nets-Zehngut 2011). وبكلمات أُخرى، لا ينحصر الأمر في أن المعتقدات المتعلقة بالنكبة والشائعة في الخطاب الإعلامي تعكس تعامل الحيز العام الإسرائيلي مع الفلسطينيين ونكبتهم فحسب، بل تعكس أيضاً اللاوعي السياسي في المجتمع الإسرائيلي من خلال العلاقة القائمة بين مدى استعداده للاعتراف بالغبن اللاحق بالفلسطينيين وتحمل مسؤوليته -أو التنكر له- وبين ثقته الذاتية بكونه على صواب. أو، بتعبير آخر، إن البحث في مواقف المجتمع الإسرائيلي من النكبة، واستكشاف التسويغات التي تدعم هذه المواقف وتشرعنها وتمنطقها، يكشفان كنه عملية بناء الرواية الإسرائيلية فيما يتعلق بتاريخ الدولة وشرعية وجودها وكيفية الانشغال المستمر بتوفير الدعائم التاريخية والمنطقية والأخلاقية للحفاظ على اتساق المواقف الإسرائيلية، وخصوصاً فيما يتعلق بتماسك ادعاء شرعية المشروع الصهيوني وأخلاقيته، بما في ذلك إنكار التطهير العرقي في فلسطين خلال سنة 1948، الذي كان السبب في نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين؛ الأمر الذي يطرح التساؤل المباشر الأكبر بشأن صدقية الرواية التاريخية والأخلاقية الإسرائيلية. وبالتالي يسمح تفكيك الخطاب الإسرائيلي المتعلق بالنكبة بتقصي مكوناته، لا في الماضي فحسب بل في الحاضر أيضاً - إذ إن البناء الخطابي ما زال قائماً والدعائية الجماهيرية تتعاظم - وذلك من أجل مواجهة الأبحاث التاريخية التي تكشف عورة ادعاءات إسرائيلية مركزية بشأن النكبة وتبعاتها حتى اليوم. 

وتنبع أهمية بحث من هذا النوع أيضاً من محاولة المساهمة في ردم الهوة بين عدد الأبحاث التي تشتغل بالنكبة الفلسطينية ومضامينها من الناحية التاريخية، وبين عدد الأبحاث التي تتطرق إلى استيعاب النكبة والتعامل معها في الحيز العام الإسرائيلي. صحيح أن ثمة خلافات عميقة بين الباحثين بشأن ملابسات أحداث النكبة وتطورها، إلاّ إن ثمة غياباً كاملاً لأبحاث تفحص الوعي العام الإسرائيلي وأشكال هيكلته فيما يتعلق بالنكبة كحدث تاريخي يُنظر إليه في المجتمع الفلسطيني من خلال مصطلحات صَدْمية (traumatic). زد على هذا أن المواقف السائدة في المجتمع الإسرائيلي تستوي مع الرواية الصهيونية المهيمنة التي تعفي زعامة الدولة من المسؤولية وتلقي بها على كاهل ضحايا النكبة أنفسهم، على الرغم من أن ثمة أبحاثاً كثيرة تتعامل مع أحداث النكبة من خلال مصطلحات ذات صلة بالشرخ العميق الذي نشأ في المجتمع الفلسطيني في أعقاب السياسة الموجهة التي اعتمدت تهجير السكان من مناطق كانت مخصصة للدولة اليهودية في خطة التقسيم (Ben Ze’ev 2011; Beinin 2005; Pappe 2004). ولا يزال الربط المباشر بين رفض مخطط التقسيم وبين تبرير ما حدث للشعب الفلسطيني برمته في سنتي 1948 و1949 موقفاً إسرائيلياً رائجاً يبرره تجاهل المأساة الفلسطينية وغياب الاستعداد لتقبل ولو جزء صغير من المسؤولية عن حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، حتى أولئك الذين بقوا داخل حدود دولة إسرائيل وحصلوا فيما بعد على المواطنة الإسرائيلية، مثل مهجري الغابسية وإقرث وبرعم (موريس 2010). 

إن الهوة القائمة بين المعطيات البحثية فيما يخص الخطوات الحربية في سنة 1948 وتفصيلاتها، وبين المواقف السائدة وسط الجمهور الإسرائيلي، ولا سيما منها: الخوف من التعامل مع الطرد، والترويع، وتشجيع الهرب، ومنع عودة اللاجئين إلى أماكن سكنهم، وهدم القرى المهجرة، كلها أمور تستوجب التوضيح، وهذا ما ينوي فعله هذا البحث ولو بشكل جزئي. وبعبارة أُخرى، يعرض هذا البحث أنماط هيكلة المعتقدات الإسرائيلية الرائجة بشأن النكبة الفلسطينية، وهو يتوقف عند الدوافع القائمة من وراء هذه المعتقدات، ويحدد تأثيراتها المحتملة في العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أي أنه يبحث في تكوينات الأفعال الكلامية الإسرائيلية التي تُسكت الخطابات البديلة، وبالتالي تمحو وجودها الأنطولوجي (ontological) من الوعي، وتُخضع المخاطب لإدراك لا ينحصر في كونه جزئياً فحسب، بل هو استعلائي أيضاً بسبب جزئيته غير الواعية لنفسها. وعلى الرغم من المنهج الذي يدمج بين الإمبريقي (empirical) والسيميائي (semiotical)، فإن الهدف الأساسي للتحليل الآتي يبقى تفكيك مبنى الخطاب الإسرائيلي وتكويناته تجاه النكبة الفلسطينية، وبالتالي محاولة فهم الطريقة التي تتم فيها عمليات إسكات الخطابات البديلة من الخطاب المهيمن، لا من خلال محوه بشكل كامل وإنما من خلال عمليات احتواء سجالية تستغل الخطابات المنافسة لتأكيد نفسها، وإخضاع الأخيرة لعمليات تبرير ذاتية غير نهائية.   

تقوم عدة جهات، وبوسائل متنوعة، ببلورة الوعي العام الإسرائيلي تجاه النكبة الفلسطينية. ومن الصعب على أي مراقب التفكير في أي مجال من مجالات الحياة في إسرائيل - بنى المواصلات التحتية وعلم الآثار وعلم النبات والطعام والتربية الرسمية وغير الرسمية والعمارة والسياحة وغيرها- من دون أن يكون لهذا المجال علاقة بمحاولات تغييب التاريخ الفلسطيني، وبطمس تأثير النكبة في الواقع اليومي المُعاش لكل مواطن إسرائيلي عادي. لذا، فإن وعي الجمهور الإسرائيلي للنكبة هو في حده الأدنى وانتقائي جداً (سموحة 2013)، إذ يشير سامي سموحة في معطياته المتعلقة بمؤشر علاقات اليهود والعرب سنة 2012، إلى أن 52.5٪ من اليهود لا يصدقون حدوث نكبة للفلسطينيين، وهو يُرجع هذا الأمر إلى رغبة اليهود في التنصل من أي ذنب يتعلق بهذه النكبة. ويضيف سموحة: "إن تحمل المسؤولية عن وقوع النكبة سيعزز المطالبة بالاعتراف بحق عودة اللاجئين العرب إلى إسرائيل وترميم بلداتهم المهدمة، وسيؤدي هذا إلى تشويه طابع الدولة اليهودي" (سموحة 2013، ص61). ونتيجة ذلك، ثمة حساسية خاصة في الحيز العام الإسرائيلي إزاء النكبة الفلسطينية، وإزاء مجرد طرح هذه المسألة للنقاش الجماهيري. وتدل ردات الفعل المتطرفة تجاه طرح مسألة النكبة على مدى التوتر الذي تسببه هذه المسألة لدى الإسرائيليين (شابيرا 2001؛ أورون 2013؛ Masalha 2012). كذلك ثمة بَوْن شاسع جداً بين موقف كل من اليهود والعرب إزاء كل ما له علاقة بالحديث عن النكبة في المناسبات العامة، ذلك بأن 81.5٪ من المواطنين العرب يوافقون على هذا الأمر، بينما يؤيد هذا الموقف 27.2٪ فقط من اليهود. ولا تستحسن أغلبية الجمهور اليهودي مجرد إحياء ذكرى النكبة من خلال نشاطات جماهيرية، ولذا فإنها تدعم "قانون النكبة" الذي سُنّ في آذار/مارس 2011 (سموحة 2013).

ويتغذى الوعي العام الإسرائيلي تجاه النكبة بمعلومات لا تزوده بها أذرع الدولة الرسمية فحسب، مثل جهاز التربية والتعليم أو جهاز التنشئة الاجتماعية العسكري، بل أيضاً أجهزة الإعلام الإسرائيلية، إذ يقوم الإعلام الإسرائيلي بتكريس المواقف الرسمية الخاصة من المسائل الجوهرية المركزية، وعلى رأسها الموقف الإسرائيلي الذي يلقي بكامل المسؤولية عن المأساة التي وقعت سنة 1948 على القيادة الفلسطينية، وهو بهذا يطهّر الأخلاق الإسرائيلية من أي مسؤولية عن تأثير الحرب في الشعب الفلسطيني. وبالتالي، يؤدي الإعلام الإسرائيلي المنضوي تحت الخطاب السائد دوراً مركزياً في تكريس الوعي العام الذي يستوي مع الموقف الرسمي، ويساعد في صيانة المعتقد الأخلاقي المهيمن الذي تقوم عليه الرواية الصهيونية.

وتنبع أهمية هذا البحث، أيضاً، من محاولة تبيان الفارق القائم بين نتائج الأبحاث التاريخية بشأن النكبة، وبين المواقف الرائجة في الحيز العام الإسرائيلي فيما يتعلق بأحداث النكبة ودلالاتها. وكما ذكرنا سابقاً، فإن عدد الأبحاث التاريخية عن النكبة في تصاعد مستمر منذ سنة 1948 حتى اليوم، إذ خلصت الأبحاث الأساسية في هذا المجال إلى نتائج تقوّض الادعاءات الإسرائيلية الخاصة بالنكبة، وخصوصاً خرافة "الأقلية في مقابل الأكثرية" التي شاعت في إسرائيل وقبلها في العالم لسنين طويلة، وخرافة "الهرب الجماعي في مقابل التهجير والطرد المتعمدَين"، وخرافة "طهارة السلاح" (أورون 2013؛ موريس 2010). ولا تتغلغل هذه الأبحاث الكثيرة فيما خص أحداث النكبة وملابساتها، بالضرورة، في الحيز العام الإسرائيلي، ولذا من المهم بمكان تفحص المعوقات التي تحول دون هذا الأمر، والمواقف الرائجة إزاء النكبة في الحيز العام الإسرائيلي، والوقوف عند دوافع هذه المواقف وتبعاتها.

وتنبع أهمية البحث بشأن مسألة النكبة في الوعي الجماعي الإسرائيلي، أيضاً، من مركزية العداء لخطاب النكبة في الوعي العام الإسرائيلي في العقود الأخيرة، والتي تتجلى في المعارضة الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية لذكرى النكبة وأهميتها في الحيز العام الفلسطيني في إسرائيل وخارجها، كما تنعكس في أقوال رؤساء الحكومات والوزراء ورجالات الأمن والأكاديميين والصحافيين والرأي العام، وخصوصاً في الدبلوماسية العامة الإسرائيلية وفي جولات الدعاية التي تجريها إسرائيل في البلد وخارجه (سموحة 2013؛ Gilboa 2006). كذلك يمكننا تمييز المعتقدات عن النكبة في الحيز العام الإسرائيلي من خلال فهم أكثر عمقاً لعناصر هذه المعتقدات ومركّباتها ولمصادرها أيضاً، إذ يمكن أن يعود هذا الفهم بفائدة كبيرة تكون عوناً لفهم وإدراك فضاءات التسامح لدى الجمهور الإسرائيلي تجاه حلول سياسية ممكنة تُبرَم بين القيادة الفلسطينية والقيادة الإسرائيلية مستقبلاً.

إن التعمق في معتقدات النكبة في الحيز العام الإسرائيلي يمكّننا من التحقق من إمكان وجود اعتراف إسرائيلي بالغبن الذي لحق بالفلسطينيين في أعقاب "الاستقلال" الإسرائيلي، واستعداد إسرائيل للتعامل مع هذا الغبن من أجل حل الصراع مستقبلاً. فالاعتراف الإسرائيلي بالغبن وبالمسؤولية عنه، ولو جزئياً، يشكل مسألة مركزية في العلاقات بين الشعبين، وعليه فإن تحليل المواقف الإسرائيلية إزاء النكبة شرط لازم لفهم تعقيدات العلاقات بين الطرفين، وخصوصاً في ظل كون إسرائيل الطرف الأقوى، وكون سياستها تستند إلى معتقدات قيمية وأيديولوجية عميقة سيمكّننا فحصها عن قرب من مواجهتها في أي محاولة لحل الصراع.

وبغية الكشف عن المواقف الرائجة في الحيز العام الإسرائيلي إزاء كل ما له علاقة بالنكبة الفلسطينية، اخترنا فحص الخطاب الإعلامي في خمس صحف مركزية هي: "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" و"يسرائيل هَيوم" و"هآرتس" و"هَمودياع"، وأخذنا عينة هي عبارة عن أعداد من هذه الصحف قبل أسبوعين من يوم "الاستقلال" الإسرائيلي وبعد أسبوعين من 15 أيار/مايو – يوم النكبة - وذلك على مدى خمسة أعوام (2008-2012). ولم نختر هذه العينة لأنها تسمح لنا بتبيان مميزات المعتقدات بشأن النكبة فحسب، بل لأنها تساعدنا في تعقب التطورات على مر السنين أيضاً، وخصوصاً عشية سن القانون المسمى "قانون النكبة"، سنة 2011. 

إن اقتصار البحث على الصحافة الإسرائيلية يستند إلى افتراض أن هذه الصحافة تعكس المواقف السائدة في مجمل المجتمع الإسرائيلي، إذ تتجلى مواقف مركّبات هذا المجتمع وعناصره المتعددة في عدة صحف، إضافة إلى مؤلفات العديد من كتّاب المقالات، وإلى التغطية الإخبارية للمسألة، والتي تظهر في الصفحات الإخبارية في الصحف. وتعبّر الصحف الخمس المذكورة عن المواقف الأكثر يسارية في المجتمع الإسرائيلي والمتمثلة في صحيفة "هآرتس" من جهة، وعن المواقف الأكثر دينية والمتمثلة في صحيفة "همودياع" من جهة أُخرى. كما تأخذ هذه العينة بعين الاعتبار المواقف القومية المحافظة المتمثلة في صحيفتي "يسرائيل هيوم" و"معاريف"، والمواقف التي تعكس الوسط الإسرائيلي والمتمثلة في صحيفة "يديعوت أحرونوت". ويعكس مجمل هذه الصحف أغلبية المعسكرات الأيديولوجية والقيمية والسياسية في المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي يمكننا الادعاء أن المواقف من النكبة الفلسطينية المنعكسة في الصحافة الإسرائيلية تمثل المواقف المتجذرة في وعي المجتمع الإسرائيلي، والتي من شأنها تعليل سلوكيات هذا المجتمع وإمكانات التحول في هذه المواقف مستقبلاً. 

كذلك من شأن الاستناد إلى الأخبار، إلى جانب المقالات، أن يظهر مدى التطرق إلى مسألة النكبة على المستوى اليومي، وأن يعكس كمية المعلومات التي يحصل عليها الإسرائيلي العادي ومدى جودتها، كما يمكنه أن يكشف، في المقابل، المواقف المبدئية والنفسية التي تتبلور على أساس فهم المعلومات البادية في الخطاب الإعلامي. وسنقوم بتحليل نتائج البحث وفق منهج التحليل الكيفي الكلاسيكي، يضاف إليه تحليل المراحل المتعاقبة (شكدي 2003)، أي التصنيف المفتوح القائم على تقسيمات فئوية تمثل الموضوعات المتعددة، بغية اقتفاء أثر أغلبية الموضوعات المدرجة في النصوص التي دخلت العينة. وقد قمنا بهذه التقسيمات استناداً إلى فحص الأفكار المركزية الموجودة في النصوص. وتسمح لنا هذه المرحلة بتطوير فئات وتفسيرات تتلقى أسماء من عالم المضامين الواردة في النصوص. وبعد التصنيف الأولي أجرينا "تحليلاً اقترانياً" بهدف خلق تكامل بين الفئات المتعددة التي وردت في الترميز الأولي، ويمكّننا جمع الفئات المتشابهة من وضع نظام مفهومي جديد، عبر تشخيص مُزامَلات بين الفئات المتعددة تساهم في تشخيص العلاقات فيما بينها. ثم أجرينا "تحليلاً بؤرياً" لمركزة (تبئير) المعلومات التي نتجت من التحليل الاقتراني في سبيل التمكن من طرح تفسير متماسك للفئات المركزية التي نجمت عن الترميز. وفي هذا السياق، تركز اهتمامنا على أن تظهر فئة مركزية متعلقة بعدد كبير من الفئات الأُخرى التي ترد في الخطاب، بوتيرة عالية في النص، وعلى أن تساهم بشكل مباشر في توفير تفسير لظاهرة المعتقدات العامة الإسرائيلية بشأن النكبة الفلسطينية. وعلى أساس التحليل الذي أنجزناه حتى الآن، قمنا بإجراء تحليل نظري يهدف إلى توفير تفسيرات نظرية وتحليلية للفئات التي وجدناها. زد على ذلك، فإن ترجمة الفئات البؤرية إلى مصطلحات نظرية تسمح لنا بتوفير تفسيرات نظرية لمضامينها، وهذا ما يُعتبر مرحلة مهمة تتخطى مجرد العرض النظري للنتائج (المصدر نفسه). 

ويمكّننا التحليل المقترح من توجيه الأنظار إلى تصنيف المضامين من دون التطرق إلى مدى صدقيتها أو عدم ملاءمتها للادعاءات المتعددة (باور 2011)، فنحن لا نهدف إلى طرح نقاش بشأن المواقف الواردة في عينة المقالات، وإنما إلى تصنيف هذه المضامين وفق معايير تتعلق بالتطرق إلى النكبة، بدءاً بالتنكر التام لها وانتهاء بالتماثل مع ضحاياها، والوقوف عند مصادر هذه المواقف المتنوعة الواردة في الخطاب العام، انطلاقاً من المصادر السياسية ووصولاً إلى الأهداف النفسية والقانونية. وتسمح لنا هذه الطريقة بالتوصل إلى فهم عميق لمختلف الآراء السائدة بشأن النكبة في الحيز العام الإسرائيلي، من دون القيام بعملية تفكيك كاملة للخطاب الإعلامي، وهو الأمر الذي قد يكون موضوعاً لبحث متمم مستقبلاً.

 وهذه الدراسة لا تقوم على مناقشة الادعاءات الواردة في مختلف وسائل الإعلام، لكنها تمكننا من الإطلال على المواقف والادعاءات وتسويغاتها الأخلاقية والتاريخية والسياسية والأيديولوجية والتعمق في الدوافع الكامنة خلف المواقف الرائجة في الحيز العام الإسرائيلي في كل ما له علاقة بالنكبة الفلسطينية وشكل التطرق إليها. كما يمكننا هذا النوع من التحليل الخطابي الاقتراني من التحقق مما إذا كانت النكبة الفلسطينية تُعتبر حدثاً من الماضي أم وعياً معاصراً مهدِّداً له أهميته السياسية كما له انعكاسات سلوكية يجب التنبه إليها عند التعامل مع المجتمع الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك يفترض البحث أن الدوافع المحركة للمواقف الإسرائيلية تجاه النكبة الفلسطينية والمتجلية في الخطاب الإعلامي ترد في مقالات الرأي والتقارير التي تؤلف العينة التي اخترناها للبحث. وبكلمات أُخرى، فإن الفرضية الأساسية التي تقف في صلب التحليل التالي تفيد بأن لكل موقف يُطرح في الحيز العام الإسرائيلي بشأن النكبة أسباباً ودوافع تبرره. وتتمثل إحدى غايات البحث في متابعة دوافع المواقف المتعددة، في محاولة لفهم المسببات الجوهرية الماثلة وراء المواقف الرائجة، وتسويغاتها السياسية والأخلاقية والاستراتيجية، ونحن نحقق هذه الغاية بواسطة تحليل الأسباب الكامنة في صلب مواقف مختلف الكُتّاب وتصنيفها.

تفيد الفرضية الأولى في هذا البحث بأن ثمة في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي تنويعاً قائماً في المواقف السائدة بشأن النكبة الفلسطينية، إلاّ إن تحليلاً معمقاً للخطاب على المستويين الكمي والكيفي يظهر أن هذا التنوع القائم يخفي هيمنة شبه تامة للخطاب المتنصل من المسؤولية عن النكبة، والذي ينكر مجرد كونها حدثاً تاريخياً حقيقياً له انعكاساته الحاضرة حتى اليوم، ويعتبر أن وعي النكبة بدعة سياسية فلسطينية تتحمل النخب السياسية الفلسطينية مسؤولية وجودها. ويراوح مجمل الآراء الواردة في البحث بين موقفَين هما: الموقف السائد والمتمثل في الإنكار التام لوجود النكبة واتهام الفلسطينيين بالتجني والتلفيق اللذين يهدفان إلى تقويض القاعدة الأخلاقية التي تقوم عليها دولة إسرائيل، وموقف الأقلية القائل بأن النكبة ليست حدثاً من الماضي فحسب، بل أيضاً سياسة إسرائيلية متعمدة ومتواصلة حتى يومنا هذا، تسعى لتقويض الأساس الذي يقوم عليه الوجود الفلسطيني في البلد. ويؤدي موقف الأقلية، التي تؤيد ضرورة التعامل مع النكبة ومنحها الشرعية، إلى "تبييض" الموقف المتنكر السائد، الأمر الذي يحول النقاش بشأن النكبة إلى نقاش سياسي من دون أن يؤدي إلى نتائج تاريخية تضع المشروع الإسرائيلي برمته موضع استفهام شرعي وأخلاقي. ومن خلال النقاش بشأن النكبة في الحيز الإسرائيلي العام بالذات، يجري منح الشرعية لإنكار المسؤولية الإسرائيلية عن النكبة الفلسطينية، وللحاجة القائمة إلى التعامل معها كشرط مطروح لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وينعكس الموقف المتنكر للنكبة في الحيلة الدعائية "نكبة خَرْطَة" (وهي مجهود دعائي قامت به منظمة "إم ترتسو"، ومعناها بالعربية أن كل السرد بشأن النكبة ما هو إلاّ كذبة وبدعة فلسطينيتان)، فيتم استخدام كلمتين عربيتين من أجل نفي مجرد طرح تبعات حرب 1948 وإسقاطاتها كشاهد تاريخي مهم في أيامنا هذه. في المقابل، ينعكس الموقف الآخر في ادعاء "النكبة مستمرة" الذي يقوض مشروعية المشروع الصهيوني من الناحية الأخلاقية، على الرغم من التسليم الجزئي بوجوده من الناحية العملية.

وتفيد الفرضية الثانية بوجود تمييز دقيق بين إنكار مجرد وقوع أحداث النكبة وبين إنكار المسؤولية عنها، وثمة موقف يتنكر لمجرد وقوع هذه الأحداث ويرى في الذاكرة الفلسطينية ابتداعاً من وحي الخيال. أمّا الموقف الأكثر بروزاً فهو لا ينكر أن الفلسطينيين كانوا ضحية كارثة في سنة 1948 فحسب، بل ينكر أيضاً أي مسؤولية إسرائيلية عن أحداث سنة 1948، ويلقي الذنب كاملاً على القيادة الفلسطينية، إذ يقول داعمو هذا الموقف إن القيادة الفلسطينية لم ترفض قرار التقسيم فحسب، بل عملت أيضاً من أجل القضاء على اليهود ومنع إقامة دولتهم. كما يتنصل هذا الموقف من أي مسؤولية إسرائيلية عن مسألة نشوء مشكلة اللاجئين، ويتجاهل تاريخ الطرد والمسؤولية عن استمرار وجود هذه المشكلة، ويحمّل القيادة الفلسطينية المسؤولية في هذا الشأن.

وتتطرق الفرضية الثالثة إلى مدى مركزية هذه المواقف. ووفقاً لها، فإن الموقف المُنكِر للنكبة، والذي يتهم الفلسطينيين باختراعها عن سوء نية، هو الأكثر مركزية، وليس هذا فحسب بل إنه ينعكس في عدة أشكال أكثر لطافة تخلق شعوراً بالموضوعية والتريث في أثناء التطرق إلى المسألة. ولا يشكك الخطاب المركزي والطاغي في أخلاقيات الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، وهو يلقي باللائمة على الفلسطينيين في كل ما له علاقة بأحداث الماضي، مثل رفضهم قبول مخطط التقسيم أو كراهيتهم لليهود والصهيونية. ومع أن الخطاب المضاد لا يشكك في أخلاقيات الصهيونية ودولة إسرائيل، إلاّ إنه ينسب إليهما ارتكاب أخطاء لم يكن يجدر بهما ارتكابها، وهو يهيب بهما إصلاح أخطاء الماضي والأمور الآنية غير السوية، ويُعتبر هذا الخطاب المضاد هامشياً ضمن الخطاب العام، كما يعتبره أنصار الخطاب المركزي المهيمن خَتّاراً أو سادراً. وعلى الرغم من هذا، فإن أصحاب موقف الإنكار يستخدمون هذا الخطاب من أجل تعزيز ادعاء ديمقراطية إسرائيل وكونها دولة حرة، خلافاً لطغيان العنف في الثقافة السياسية وانعدام الديمقراطية لدى الفلسطينيين. وبكلمات أُخرى، يواصل أصحاب موقف إنكار النكبة اتباع خط دعائي قومي يستغل الوهن الفلسطيني الراهن من أجل إضفاء تبرير بأثر رجعي إلى الأفعال التي ارتُكبت في الماضي.

وتفيد الفرضية الرابعة بأن كثرة المواقف المتعلقة بالنكبة تكشف خلافات عميقة في المجتمع الإسرائيلي بشأن تأسيس دولة إسرائيل وسياساتها تجاه الفلسطينيين التي تتجلى في التبريرات المتعددة المعطاة للمواقف المتنازعة. وتتنوع جذور المواقف الرائجة في الحيز العام الإسرائيلي بشأن النكبة، فمنها جذور نفسية تستند إلى التنكر للفظائع التي ارتُكبت في الماضي، وترتبط بمواقف سياسية تسعى لسحب البساط من تحت المطلب الفلسطيني بإصلاح ما تم ارتكابه في السابق من أفعال فيها غبن، وذلك من خلال إقامة دولة فلسطينية وإعادة اللاجئين الذين طُردوا أو فروا طلباً للنجاة، وخشية من شدة الاقتتال في مناطق سكنهم، وبحثاً عن ملاذ في أماكن أُخرى خلال أحداث النكبة (1948-1949). إلى جانب ذلك ثمة مواقف أخلاقية، أساساً، مهمتها الذود عن أخلاقية الصهيونية وأداء دولة إسرائيل إزاء الفلسطينيين، إذ تؤسس هذه المواقف لادعاء طهارة السلاح الذي تحول إلى حافز (motive) مركزي في سبيل تشييد المناعة القومية والعسكرية الإسرائيلية. وتتصل هذه الجذور مع جذور عقلانية - استراتيجية تستند إلى معتقد المواجهة بين الروايتين الصهيونية والفلسطينية في الماضي والحاضر، وتتجسد هذه الجذور في مصطلحات مثل حرب "التحرير" وحرب "السيادة" وحرب "الاستقلال"، وهي مركّبات مركزية في الرواية الصهيونية والوعي اليهودي.

ومن أجل تبيان دلالات المواقف السائدة في الحيز العام الإسرائيلي، واقتفاء جذورها ومصادرها فيما يتعلق بالنكبة، وهو ما يمكن أن يفسّر قرار التعامل مع إحياء ذكرى أحداث النكبة بوسائل قانونية، سنعرض بدايةً الأدوات التحليلية والنظرية والمنهجية التي استخدمناها في تنفيذ البحث التجاربي (الأمبيري)، ثم سنضع البحث ضمن سياقه التاريخي والسياسي الراهن. ومن هذه الخلفية، سنعرض نتائج البحث التي تلقي الضوء على الادعاءات الواردة أعلاه، الأمر الذي سيسمح لنا باستخلاص النتائج المتعلقة بها. وينقسم عرض النتائج إلى قسمين على النحو التالي: يعرض القسم الأول المدارك والمعتقدات الرائجة بشأن النكبة، وهي خمسة معتقدات استُخرجت من الخطاب العام عن النكبة. ويقتفي القسم الثاني أثر الجذور والمصادر التي عُرضت في القسم الأول من النتائج، وذلك بهدف الوقوف عند الدوافع المركزية وراء قيام شخصيات مؤثِّرة – صنّاع الرأي العام - بالانتصار لموقف ما من المواقف المتعلقة بالنكبة، وسنعرض هذه المواقف والدوافع إلى تبنيها بشكل مقتضب. وفي القسم الخاص بالتلخيص سنناقش التأثيرات النظرية والسياسية لهذه النتائج وسنخلص إلى الاستنتاجات. 

المؤلفان:

أمل جمال، محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب والمدير العام لمركز إعلام، المركز العربي لحريات الإعلام والتنمية والبحوث في الناصرة. له العديد من الدراسات في الفكر والسياسة الإسرائيلية والفلسطينية، التي نُشرت في مجلات علمية دولية، كما نشر له العديد من الكتب باللغات العربية والإنكليزية والعبرية.

سماح بصول، إعلامية عملت مساعدة بحث ومركِّزة دورات قسم التنمية المجتمعية في مركز إعلام. حائزة بكالوريوس في الأدب المقارن، وطالبة ماجستير في تاريخ السينما. تعمل مرشدة في مجال السينما التربوية والعلاجية، وموجهة مجموعات في مجال حقوق الإنسان.