فايزة الشاويش: لهذه الأسباب نقلنا مكتبة سعدالله ونوس

2017-03-01 09:00:00

فايزة الشاويش: لهذه الأسباب نقلنا مكتبة سعدالله ونوس
سعدالله ونوس

"إننا محكومون بالأمل"، و"في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة"، هذا ما كان يردده الراحل سعد الله ونّوس (1941 ـ 1997)، حتى يومه الأخير، هو الذي عاش مقاتلًا بالكلمة وحالمًا بالحريّة حتى آخر رمق، بعدما استطاع أن يعيش تلك اللحظة المتأججة بين الحياة والموت. وقد شكل راحلنا الكبير بحضوره، بالنسبة للكثير من المثقفين والمبدعين السوريين والعرب الضمير المعلن والقادر على الجهر، في مشهد الصمت. وكان أحد علامات الضمير الشجاع الذي بات يتقلص ويندر. وهو صاحب بصمة في المسرح السوري والعربي اعترف به العالم عندما كُلّف بكتابة "كلمة يوم المسرح العالمي" العام 1996، وهو شرفٌ لم ينله من قبل أيّ كاتب عربي غير توفيق الحكيم.

قبل أيام بلغ سعد الله ونّوس الخامسة والسبعين من عمره. وقد رأت زوجته الفنانة السورية القديرة فايزة الشاويش، وابنته الوحيدة الإعلامية والكاتبة ديمة ونّوس، أن تكون هديتهما له في ذكرى ميلاده يوم 19 شباط/ فبراير، أن يحفظا مكتبته الدمشقيّة العريقة من نار المحرقة السورية، فكان أن قامتا بإهدائها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، غير أن خطوتهما هذه لاقت ردود فعل عديدة من قبل الكتّاب والمثقفين السوريين، وصلت من قِبل بعضهم حد الهجوم الشخصي على أسرة صاحب «طقوس الإشارات والتحولات»، واتهامهما بـ"تعفيش المكتبة" لا بل والخيانة!

هذا الحدث وما رافقه من ضجة إعلامية كان دافعنا للحديث مع رفيقة درب سعد الله ونّوس، التي بيّنت لـ"رمّان" دوافعها وأسبابها الشخصية والعائلية للقيام بإهداء إرث سعد الله الثقافي للجامعة الأمريكية، كما تطرقنا في حوارنا لما رافق ذلك من حملة في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.

وردًا على سؤالنا عن الرسالة التي توجهها لسعد الله بعد أن تم إطلاق مكتبة تحمل اسمه في الجامعة الأمريكية، مكتبة رافقتهم طوال رحلة العمر، تقول الشاويش: "تلك المكتبة، كانت أغلى ما يملك سعدالله في البيت. لم يكن يكترث إلا بتلك الأكوام الهائلة من الكتب، نصطحبها معنا من بيت إلى آخر. أن نهديها إلى الجامعة الأميركية في بيروت، يعني أن نحفظها من آثار الزمن والشيخوخة. إذ ليس باستطاعتنا كأفراد أن نتفادى ما قد يطالها من خراب مع مرور السنوات والفصول. ليست رسالة إلى سعدالله بقدر ما هي محاولة أخيرة لحفظ تلك الآلاف من الكتب، ووضعها في مكانها الطبيعي. لطالما آمن سعدالله بدور الكتب في تثقيف النفس وفي خلق فضاء حرّ من النقاش مع الآخر حول الأفكار والقيم والعبث والوجود والفن والسياسة والدين والإنسان وكل ما يخطر في البال. تلك الكتب لم تكن قطعة أثاث في البيت، من الطبيعي أن تسكن في حرم جامعة محترمة أو مركز أبحاث وأن يقصدها كل مهتمّ. وكل ما ذكر في مقالات سابقة عن أن المكان الأنسب لتلك الآلاف من الكتب، هو متحف يحمل إسم سعدالله، ليس سوى أفكار رومانسية. إذ لا يمكن للكتاب أن يكون قطعة أثاث تصمد في متحف ساكن، ليس مجرّد فرجة.. ما يحمله بين صفحاته أوسع من الأماكن الضيّقة والمقفلة". تضيف: "سبق لي، أن قصدت «مكتبة الأسد» (المكتبة الوطنية) في دمشق، والمعهد العالي للفنون المسرحية، والسيدة نجاح العطّار بعد تعيينها مستشارة ثقافية في القصر الجمهوري (تتولى حاليًا منصب نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية). كل محاولاتي لإبقاء المكتبة في الداخل السوري، واجهها الرفض! الحجّة المشتركة كانت، أن اقتناء مكتبة مبدع سوري راحل، غير مدرجة في حسابات تلك الأماكن الثقافية! بعدها، تواصلت معي مؤسسة ثقافية إماراتية وعرضت اقتناء المكتبة مقابل مبلغ مالي كبير في ذلك الحين، وحفظها في غرفة كبيرة مع أشياء أخرى تخصّ سعدالله كزجاجة الماء التي لازمته دائمًا، وكقبّعته وشاله وأقلامه وأوراقه… إلا أن المؤسسة اشترطت استبعاد بعض العناوين التي تعارض فكرهم! فرفضت بالطبع".

تؤكّد شريكة الراحل في حديثها معنا على أن "الجامعة الأميركية في بيروت هي من أهم جامعات الشرق الأوسط، ومكتبتها من أضخم المكتبات. ولا يخفى على أحد أن كبار المفكّرين والمثقفين العرب تخرّجوا منها. كما أن بيروت، كانت بالنسبة إلى سعدالله مدينة آسرة، عاش فيها لسنوات واشتغل في صحفها، وصادق كتّابها ومثقفّيها. كانت بيروت ولازالت فسحة لكل مختلف ولكل مبدع. بيروت اليوم أيضًا تحمل وجهين. لا يمكننا التقاط وجه واحد فقط وإغفال الآخر. ثمة بيروت التي تضيّق على السوريين وتعرقل وجودهم على أراضيها، وثمة بيروت التي احتضنت أيضًا أحلام السوريين وخاصة جيل الشباب. اليوم، هناك طيف واسع من الشباب السوريين، يسكنونها، ويعملون فيها في المسرح والسينما والفن والموسيقى".

وبسؤالها عن محتويات المكتبة من حيث عدد الكتب وأهم موجوداتها؟ تقول: "المكتبة تحتوي على ما يعادل ٦٥٠٠ كتاب وهي مكتبة غنية وشاملة وعناوينها متنوعة بين تاريخ وسياسة وفلسفة وأدب ودين".

ونسأل السيدة فايزة إن كان سعد الله حاضرًا بيننا اليوم ونحن نعيش هذه المقتلة في أرجاء سوريا، فهل كان سيفكر بنقلها لمكان ما خارج وطنه الذي يسكنه كما هو ساكن فيه؟ فتجيبنا: "لا أحبّ فكرة التحدث باسم سعدالله بعد رحيله. ولا يمكنني أن أجيب عن هذا السؤال. فلو افترضت أنه كان سيبقي المكتبة في سورية، لشعرت بندم رهيب… ولو افترضت أنه كان فعل ما فعلناه، لظهرت في مكان المدافع عن نفسه وكأنني أبرّر منحها للجامعة الأميركية. ما أستطيع قوله فقط، إن سعدالله كان سيرغب في خروج المكتبة من بيت بجدران أربعة إلى فضاء أوسع، يقصده الكثير من المهتمّين بالاطلاع والمطالعة. وليست سورية اليوم، المكان الأنسب لذلك. لأن سورية التي نعرفها ليست هي نفسها سورية التي نريدها. وبالتالي، لو استبقيت الكتب هناك، كان البيت هو المكان الأنسب لها إذ لا مكان آخر أودعهم فيه. والبيت لن يقصده إلا الخراب الذي يطال الكتب مع مرور الوقت".  

ونسأل مُحدثتنا أخيرًا، هل تفكرين أنت وديمة بإعادة المكتبة يوم تعود البلاد لأهلها، إلى دمشق أو إلى مسقط رأس سعد في قرية حصين البحر في الساحل السوري؟ فتقول: "ليس مسقط الرأس مكان مقدّس. وهو لم يكن مقدّسًا بالنسبة إلى سعدالله الذي ترك مكانه الأول في وقت مبكّر من حياته وقصد بلدانًا أخرى ثم اختار دمشق كمسكن أخير لنا قبل رحيله. من جهة أخرى، لا يمكن لمكتبة بهذا الحجم وهذه الأهمية أن تسكن في مكان تحكمه الكراهية وعدم قبول الآخر المختلف عنهم!".

جدير بالذكر أنه وبعد ساعات من إجراء حوارنا هذا مع السيدة فايزة الشاويش، قامت هي وديمة بإصدار بيان باسم "أسرة سعدالله ونّوس" نشرتاه في صفحتيهما في الفيسبوك، جاء فيه: "كتب ونشر في الأيام الأخيرة الكثير عن موضوع إهداء مكتبة سعدالله ونّوس إلى مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. يهمنا أن نوضح الآتي: 

حاولنا جاهدين منذ سنوات عدة التبرع بمكتبة سعدالله ونوس إلى أكثر، وربما كل، المؤسسات الثقافية في دمشق، بل إننا طرقنا أبوابًا كثيرة كي يبقى إرث سعدالله في سورية. لكن رغبتنا العميقة قوبلت بالرفض من قبل جميع القيمين على هذه المؤسسات بمختلف المستويات.

كان هاجسنا الدائم، منذاك وإلى الآن، الحفاظ على المكتبة من التلف والتلاشي وألا تكون حبيسة الجدران أو تحفة للعرض، الأمر الذي لم نكن نحن، كأفراد، قادرين عليه. فكان لا بد من إيداعها في مؤسسة ثقافية لائقة وذات خبرة كي تكون محفوظة وفي متناول الجميع. عليه، رأينا أن وجودها في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت يوفر لها العناية والحرص الدائمين، ونحن ممتنون لاستقبال القيمين على الجامعة هذه الهدية بحفاوة وتقدير لائقين.

سعدالله، الذي لم يكن يومًا محصورًا بجدران وجغرافيا. سعدالله الذي ولد في حصين البحر وكان يحلم بالعيش في حلب، وانتهى به المطاف في دمشق بعد محطات في القاهرة وباريس وبيروت. سعدالله الذي كان دائمًا مؤمنًا بالثقافة العابرة للحدود والهويات الصغيرة.

سعد الذي عاش بين أوراق هذه المكتبة وشكلت وعيّه وفكره ومصدرًا ملهمًا لكتاباته ومسرحياته، سيكون راضيًا أن تُهدى مكتبته كاملة من دون نقصان أو رقابة لتكون في متناول الطلاب والباحثين والمهتمين من جميع الهويات والاهتمامات بمن فيهم السوريين وما أكثرهم في الجامعة الأميركية.
 

ملصق الاحتفالية